هو «كتاب كريم، له من عنوانه حظ كبير: "الفتوحات اليوسفية" فالفتح لفظ غلب استعماله في مواطن الخير، والنسبة اليوسفية: نسبة إلى حسن القسام، وجمال المعنى وكمال المبنى» بهذه الكلمات قدم فضيلة الأستاذ الدكتور: محمد السرار، أستاذ التعليم العالي كلية الشريعة بفاس، لكتاب "الفتوحات اليوسفية للدكتور محمد تاج الدين الطيبي، بل واعتبر قراءته أشهى إلى نفسه «من الماء البارد على الظمأ، لما فيها من الإتحاف بالإفادة، وهي حسنى العاجلة والزيادة.» أما الدكتور تاج الدين الطيبي، فيقدم للكتاب بقوله: «فهذه محاولة تدبرية لسورة سيدنا يوسف (عليه السلام)، ليست تفسيرا» مبينا أن «التدبر متاح لكل إنسان» ذلك لأن «كتاب الله تعالى بحر تلاطمت أمواجه» ويضيف «وإنه لقرآن كريم، ومن كرمه أنه لا يجود على الأولين فحسب، بل مائدته مبسوطة لكل متدبر في كل زمان ومكان.» وسورة يوسف (عليه السلام) حسب الأستاذ تاج الدين الطيبي: «هي سورة الفرج المرتقب للنفس والأمة» كما أنها «تعرج بالنفس المؤمنة من كرب الأرض إلى سعة الملكوت» ولنبدأ بفاتحة قوله تعالى: (الر تِلكَ آياتُ الكِتابِ المُبينِ ﴿1﴾ إِنّا أَنزَلناهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعقِلونَ ﴿2﴾ نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ بِما أَوحَينا إِلَيكَ هذَا القُرآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلينَ﴿3﴾) حيث يرى الدكتور "تاج الدين الطيبي" «أن في الإشارة هنا إشادة بالكتاب المبين، وما كان مبينا إلا في نزوله عربيا» ليضيف: «وعبارة القرآن العربي فيها من التشريف للعربية مدد لا ينضب» «ومن كان فقيرا إلى ذوق العربية وأسرارها كان فقيرا إلى التدبر والفهم عن الله تعالى» وما أجمل قوله: «إن رهبة "نحن نقص" لتأخذ بمجامع القلوب المؤمنة، وتجعلها تصغي في عبودية، وارتقاب لتميز هذا القص عن القص البشري، وفي أثناء القص الإلهي يتناثر بره وفضله وهداه -سبحانه- على القارئ» وعن سر عودة الضمير إلى النبي في (نَقُصُّ عَلَيكَ) و (أَوحَينا إِلَيكَ..) يقول: «وإنما نزلت قصة يوسف (عليه السلام) تثبيتا لقلب سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يواجه تحديات الدعوة في مكة» ثم ينتقل إلى قوله تعالى: (إِذ قالَ يوسُفُ..) ليؤكد أن: «الرؤيا هي ميلاد يوسف الحقيقي، ميلاد إرهاصاته النبوية» ففي الرؤيا «دلالة على أنه سيصبح في رتبة لا تقل عن رتبة الشمس التي هي -بإذن الله-واهبة الضوء والنور والحياة لعالم المادة، وكذلك تفعل شموس الأنبياء في عالم المعنى» ولكم أعجبني قوله: «وبعد هذا الإجمال يأتي التفصيل في بقية السورة، وكأن الآيات الثلاث الأولى هي الملخص الذي ينبغي أن تفسر وفقه السورة.. وهذه طريقة قرآنية في التشويق لتفاصيل القصة القادمة» كما شدني طرحه السؤال التالي: «ولكن ما تفسير هذا الحب للأب ومحاولة الاستئثار به؟» مضيفا: «أم كانوا يفكرون في المستقبل ويريدون وراثة أبيهم في النبوة والسلطان الروحي» ليكون الجواب: «وبالرجوع إلى رؤيا يوسف نلمح ذلك» ثم يميل إلى تأكيد استنتاجه: «لأن قدر الله في نبوة يوسف (عليه السلام) ووراثته لأبيه نافذ ولو كره إخوته ودبروا» وفي قوله تعالى: (وَجاءوا أَباهُم عِشاءً يَبكونَ) يقول: «وها هي الصدمة تفجأ يعقوب (عليه السلام) دفعة واحدة فيضيق صدره من الفاجعة، ويتنفس هذه المرة من إيمانه لا من رئتيه» أما عن قوله تعالى: (وَجاءوا عَلى قَميصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) فيقول الدكتور الطيبي: «وجاء التعبير ب (دم كذب) دون التعبير ب (دم كاذب) لسر يدركه أهل الذوق في العربية، فالتعبير بالمصدر أبلغ من التعبير بالصفة» ولولا مخافة التطويل لنقلت تحليله الذي يصل فيه إلى نتيجة أنهم "جاؤوا بكذب.." وعن تعامل سيدنا يعقوب (عليه السلام) مع الموقف يبين: «ولم يجزع ولم تخرجه المصيبة عن حلم الأنبياء، فكان المبدأ (فَصَبرٌ جَميلٌ) وما أشد قوله: (وَاللَّهُ المُستَعانُ عَلى ما تَصِفونَ)» وفي تدبره ل (الآية رقم:20) يقول الدكتور الطيبي: «ولهذا جاءت جملة (وكانوا فيهِ مِنَ الزّاهِدينَ) توبيخا لهم بأن هذا ما كان ينبغي أن يزهد فيه كل هذا الزهد، ولو عرفوا مآله لكان لهم أن يتمنوا أن يقبلهم عنده خدما» وعن قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِي اشتَراهُ مِن مِصرَ لِامرَأَتِهِ أَكرِمي مَثواهُ..) يقول الدكتور الطيبي: «وكأن الله تعالى فعل بيوسف (عليه السلام) ما فعله بموسى (عليه السلام) من بعدُ حين ألقى عليه محبة منه، فلا يراه أحد إلا أحبه حتى فرعون، وهكذا وقع يوسف في قلب العزيز وقربه إليه» أما عن جماليات تدبر قوله تعالى: (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ) فلا يسعني إلا أن أترك المجال لقارئ الكتاب ليقف على ذلك بنفسه. وعن قوله تعالى: (وَقالَت هَيتَ) يقول الأستاذ الطيبي: «إنها كلمة مدمرة، وكأن كل الحواجز النفسية والحسية التي كانت عند يوسف (عليه السلام) أرادت تدميرها بهذه الكلمة» «لقد اجتمع كل الإغراء في هذه الكلمة، وحشدت المرأة كل طاقتها في الإغواء فيها» ليضيف: «وفي قول يوسف (مَعاذَ اللَّهِ) إشارة أن (قاموس الشيطان) من كلمات الإغواء يجب أن يقابل ب (قاموس الاستعاذة) الإلهي.. ولو أن كل من تعرض للغواية قابل القاموس بالقاموس لعاش الشيطان البطالة» أما عن (بُرهانَ رَبِّهِ) فله تحليل يتسامى إلى العلياء، حيث الأنبياء الأطهار، صفوة خلق الله، أولئك الذين لا يكادون يلامسون ببشريتهم الأرض إلا لماما، فحاشا في حقهم الإثم أو اللمم، ومن هنا نجد قوله: «.. هو برهان التولي الإلهي للأنبياء لأنهم موقع القدوة فلا يقع منهم ما يخالف كونهم قدوة، هو برهان (الحفظ الإلهي) الذي رآه يوسف (عليه السلام) في نفسه» ودونك -قارئي الكريم- هذه الكلمات المفعمة بالحب لسيدنا يوسف (عليه السلام)، واليقين بعفته، هذه العفة التي تناقلت خبرها البشرية جيلا بعد جيل: « وفي عطف السوء على الفحشاء بيان أن يوسف (عليه السلام) لم يصرف عن الفحشاء فقط، بل عصم من مقدماتها.. ولم يقع منه حتى حديث النفس (الهم) لأنه من السوء أيضا، لأنه لا يليق بمن يُهَيَّأ للنبوة أن يخطر في باله حتى مجرد التفكير في المخالفة، فما الظن بأن يهم بها ويعزم عليها، وذلك من خصائص الأنبياء» أما عن (السجن اليوسفي) فيبين الدكتور الطيبي أنه: «لم يزل عزاءَ كل من سجن ظلما.. فقد دخله يوسف مظلوما وخرج منه (عزيزا) وزيرا» «وأن السجن كان (خَلوتَه) التي جاءته فيها النبوة، ودليل ذلك اشتغاله بالدعوة في السجن» وهناك التفاتة رائعة لا يمكنني إغفالها ألا وهي: «فنجده استعمل عبارة (أما أحدكما) و(أما الآخر) ولم يواجه صاحب المصير المشؤوم بعبارة (أما أنت فستصلب وتأكل الطير من رأسك)، لأن العقوبة قاسية ولم تسمح له إنسانيته بمواجهة هذا الفتى بمصيره مباشرة.. وإنه لخلق نبوي رفيع في التعامل مع أصحاب الحالات المأساوية» ولنواصل القراءة في الكتاب لتبهرنا هذه الجلجلة: «وتأتي رؤيا الملك (فتحا إلهيا) محضا ليوسف (عليه السلام).. وإعلاما بأن الله لا يتخلى عن أوليائه» وما أروع توضيحه: «وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهدي كَيدَ الخائِنينَ) هو الأصل الذي تنبني عليه القاعدة التي تقوم عليها (التحقيقات الجنائية) من أنه لا جريمة كاملة، وأن المجرم لابد أن يترك وراءه دليلا وثغرة تدل عليه.. فإن استئثار الله تعالى بكمال التدبير يمنعه من استكمال كيده» «وفي (أَستَخلِصهُ) تعبير عن حلوله محل القبول والتَّجِلَّة من الملك نفسه حتى جعله خاصا خالصا له من دون الآخرين» وهكذا حسب الدكتور الطيبي فقد «كان يوسف (عليه السلام) من "الأنبياء الملوك" يسوس الرعية بسياسة النبوة» كما يطيب لي أن أنقل هنا قوله: «وفي سياق: (فَدَخَلوا عَلَيهِ) دلالة رائعة على تواضع يوسف (عليه السلام) وأنه كان يمارس تدبير شؤون الرعية في المجاعة بنفسه دون احتجاب عن الرعية تصديقا لقوله: (اجعَلني عَلى خَزائِنِ الأَرضِ إِنّي حَفيظٌ عَليمٌ)» وعن قوله تعالى: (قالَ بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمرًا فَصَبرٌ جَميلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَني بِهِم جَميعًا) نجده يقول: «ومن أصعب الابتلاء أن يجِدَّ بلاء جديد يشبه تماما البلاءَ القديم الذي أثخنك، فلا يجد في نفسك متسعًا لحزنٍ جديد، بل يثير فيك شجن الحزن القديم ليعصف بك كإعصار خاطف» ويضيف: «قال (عسى) ولم يقل (ليت) لقوة رجائه مع تضاعف مصيبته، وكأن من طبيعة المؤمن أن يتضاعف رجاؤه ويزداد حسن ظنه بربه إذا اشتد بلاؤه» أما عن الحزن اليعقوبي فيقرر: «ولا ينافي الحزن الصبر الجميل مطلقا، وما ينزل البلاء بالمؤمن إلا ليعبد الله بالضراعة، وإن بلاءً رد المؤمن إلى الضراعة لهو نعمة لا نقمة» وعن قوله تعالى: (وَلا تَيأَسوا مِن رَوحِ اللَّهِ): يؤكد أن سيدنا يعقوب (عليه السلام): «فتح باب الأمل على مصراعيه، وإنها (لعبودية نادرة) تليق بمنصب النبوة حين يرتفع سقف الرجاء وصاحبه في حضيض الكمد!» وأستسمحك -قارئي الكريم- في الانتقال بك إلى قوله تعالى: (وَلَمّا فَصَلَتِ العيرُ) لنغوص معا في أدبيات شاعر أديب ملك زمام اللغة وأداتها المؤثرة الفذة ليبهرنا حين يقول:« وهذه معجزة ليعقوب.. وكأن الله تعالى أراد تهيئته للخبر السعيد، فبسط له حاسة الشم حتى استنشقت رائحة القميص الذي خرج لتوه من مصر وانفصلت به القافلة عنها.. وشَمَّ يعقوب (عليه السلام) رائحته وهو بالشام، ويا للشوق يختصر المسافة! وإنها رائحة المحبوب أسرع إلى المحب الصادق من سرعة الضوء!» وهو ما نجده في جماليات تدبر قوله تعالى: (فَلَمّا أَن جاءَ البَشيرُ): «وحين جاء البشير اعتذر القميص عن القميص..! اعتذر قميص يوسف الجديد عن الحزن الذي سببه القميص القديم، وقميص يوسف أكثر من واحد: قميص الجب، وقميص امرأة العزيز، وقميص البشارة، ومع قميص البشارة انتهت الأحزان اليعقوبية دفعة واحد؛ عاد البصر، وظهر أن يوسف ليس حيا فقط بل هو عزيز مصر!.. إنها مفاجأة مذهلة لا يتحملها إلا قلب نبي! وقلوب الأنبياء كما تتحمل الاستثناء من الحزن، تتحمل الاستثناء من الفرح» و في تدبر الأستاذ الكريم لقوله تعالى: (رَبِّ قَد آتَيتَني..) نجد: «أتخيله وقد انعزل عن كل من حوله.. وخلا بربه سبحانه حامدا مثنيا معترفا بفضل الله تعالى عليه، وقد تمت عليه النعمة، وبلغ من منصبي الدنيا والآخرة مالا مزيد» «ومع هذا الثناء ينبعث رجاء حار، وحب غامر لله رب العالمين، ذلك الإله الذي لم يتخل عن يوسف (عليه السلام) في الدنيا وهو المرجو أن لا يتخلى عنه في الآخرة.» وما أروع إشارته: «وهنا انتهت تفاصيل قصة يوسف (عليه السلام) ولم يرد أي ذكر لتفاصيل حياته بعد انتهاء محنته.. ويستفاد من هذا أن عمر المحن، والتقلبات وفصول البلاء هي الحياة الحقيقة لأولي الألباب.. وأن الله يبارك للأبرار في أيام البلاء والمحن والمجاهدة، وأنها هي مقياس عبوديتهم الخالصة له، وما يقع لهم بعد التمكين هو فضل ونافلة حياة.» وفي الختام يقرر أن: «آخر آية في سورة يوسف (عليه السلام) ليست خاتمة للسورة فقط، بل هي مفتاحها أيضا، إنها فاتحة القراءة والتدبر» فالقارئ يراد له «أن لا ينساق وراء متعة القص ونزواته، بل عليه أن يستخدم منظار الآية الأخيرة (لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ ما كانَ حَديثًا يُفتَرى وَلكِن تَصديقَ الَّذي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ). وبعد قارئي الكريم، كانت هذه قراءة محتشمة لكتاب "الفتوحات اليوسفية" للدكتور "محمد تاج الدين الطيبي" حاولت من خلالها إماطة اللثام -ولو بالقدر اليسير- عما في هذه المحاولة التدبرية لسورة سيدنا يوسف (عليه السلام) من نفحات ربانية ولفتات إيمانية وسياحة أدبية جمالية. ولقد قرأت الكتاب أربع مرات، فوجدت متعة التدبر والتذكر والقرب، وقمة البلاغة والبيان ولا يسعني إلا أن أردد مع الدكتور السرار قوله: «تبقى هذه الفتوحات عملا رائدا، وخطوة في سبيل المحاولات التدبرية لسُوَّر القرآن الكريم ثابتة وهي أولى قطرات غيث سينسجم سَحْسَاحًا عن قريب إن شاء الله تعالى» (*) قوادري خناثة (الخنساء): أستاذة تعليم ثانوي، ليسانس آداب إسلامية ودراسات قرآنية، كاتبة في الأدب الإسلامي