بوريل: مذكرات الجنائية الدولية ملزمة ويجب أن تحترم    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    أدرار.. إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الزوايا القرآنية المتحركة ... زوايا الجلفة نموذجاً
نشر في الجلفة إنفو يوم 13 - 01 - 2011

يشرفني أن أساهم بهذا البحث المتواضع في فعاليات الملتقى الأول لجائزة الجزائر في حفظ القرآن وإحياء التراث الإسلامي.خاصة وقد برمج معه ملتقى علمي حول مدرسة الإقراء في الجزائر أملي أن يعود هذا الملتقى بالخير العميم على كافة أبناء الجزائر، مع الشكر لكل القائمين على تحضيره وفقهم الله وبارك في جهودهم الطيبة ...
الكتاب الخيمة أو الزاوية المتحركة عبر التاريخ
إن المتتبع لتاريخ التعليم عند المسلمين يجد أن بيت الرسول أول مدرسة ثم دار الأرقم بن أبي الأرقم.
يقول الدكتور القرضاوي : "الرائع هنا أن هذا النبي الأمي في هذه الأمة الأمية كان أول من مجد القلم وعمل على إشاعة الكتابة ومحو الأمية بين أتباعه بكل سبل" (1).
ويقول كذلك : "فلم تعرف البشرية دينا مثل الإسلام عني بالعلم أبلغ العناية وأتمها دعوة إليه وترغيبا فيه وتعظيما لقدره وتنويها بأهله وحثا على طلبه وتعلمه وتعليمه وبيانا لآدابه وتوضيحا لآثاره وترهيبا من القعود عنه أو الإزورار عن أصحابه أو المخالفة لهديه أو الازدراء بأهله. ومن درس الأديان السابقة على الإسلام أو قرأ كتبها المقدسة ازداد إيمانا بعظمة الإسلام في هذا الطلب.
إنك تقرأ الأسفار المقدسة في العهد القديم أو الجديد فلا تكاد تقع عينك على هذه الكلمات : العقل أو الفكر أو النظر أو البرهان أو العلم أو الحكمة...الخ، فإذا قرأت القرآن وجدت فيه كلمة علم نكرة أو معرفة ذكرت 80 مرة أما مشتقاتها (يعلم، يعلمون، العلماء) فقد ذكرت مئات ومئات المرات" (2).
وبعد دار الأرقم جاءت فكرة سيدنا عمر بن الخطاب أن يجمع أبناء المسلمين على معلم واحد وأمر عامر بن عبد الله الخزاعي أن يعلم الأطفال ويكتب لهم على الألواح أو يلقنهم وجعل له أجرا من بيت مال المسلمين هذا بالنسبة لأطفال المدن والأمصار أما الفاتحون الأوائل فجعلوا الكتاب خيمة متحركة من خيام المعسكر تتنقل مع جنود الفاتحين ونلاحظ هنا قضيتين مهمتين جدا.
أولها: أن جيوش الفاتحين كان معهم معلم القرآن الكريم لتعليم أبنائهم.
ثانيا: أن الكتاب الخيمة المتحركة وجد منذ الفتح الإسلامي الأول وهذا يؤكد مرجعية هذا النوع من التعليم ويؤصل لمدرسة الإقراء ويجعل لهذا البحث روافد من تاريخ التربية والتعليم عند المسلمين وإن كانت المصادر التي تتحدث عن الكتاب الخيمة أو الزاوية المتحركة - كما فضلت تسميتها- قليلة فهناك إشارة متوفرة في المراجع التي بين يدي لكنني لم أجد فصلا أو بحثا منفردا أو عنوانا فرعيا خاصا، كل ما هنالك ذكر لخيمة الكتاب في درج الكلام.
يقول إبراهيم التوزري : "إن الكتاب كان يصاحب الفاتحين في حلهم وترحالهم إذ أن الكثير منهم كانوا يستصحبون نساءهم وأبناءهم في تنقلاتهم فكان الكتاب خيمة من خيام المعسكر" (3).
الكتاتيب في الجزائر
الكتاتيب رمز ذاتنا وعنوان كياننا وأسلوب منهج تعليمنا القديم وهي أبسط مدارس عرفها التاريخ.
يقول المستشرق ديس في دائرة المعارف الإسلامية : "ويظهر أنه قد وجدت منذ فجر الإسلام، أمكنة كانوا يجتمعون فيها لاستظهار القرآن وتدارسه ولاشك، فإن هذه المواضع كانت كالمدارس الأولية يعلمون فيها مبادئ القرآن وأصول الكتابة العربية كما يحدثون الواحد، ويذكر أن عبد الله ابن أم مكتوم كان يسكن دار القرّاء بالمدينة"(4).
بها ابتدأنا ومنها انطلقنا نصدع بأول حروف الهجاء لنضع أولى لبنات التدشين في جدار الثقافة الإنسانية وأضأنا أول مصباح أنار دروب العالم في لياليه الحالكة في تلك العصور وبعدها.
أو لم تكن مدينة بجاية الناصرية شمعة أنارت دروب الإنسانية حينا من الدهر وهي "بوجي Bougie" كما سماها الغربيون وقال فيها الشاعر :
دع العراق وبغداد وشامهما فالناصرية ما مثلها بلد
وكانت الأندلس جسر الحضارة وقد أشاد بهذا الفضل المنصفون من أبناء الأمم الأخرى وقد كتبت الباحثة الألمانية (زيغريد هونكه) كتابا سمته "شمس العرب تشرق على الغرب"، وحبذا لو سمته "شمس الإسلام"، وغيرها كثيرون ممن كتبوا عن عظمة هذا الدين وقوة دعوته للعلم والتعلم وقد كتب أحد الغربيين يقول في ما معناه :"لقد كان التلاميذ والتلميذات يذهبون إلى المدارس وأماكن التعليم في حين أن أشراف أروبا ورجال دينها لا يقدرون على كتابة أسمائهم.
كما أشاد بالعلم والتعليم عند المسلمين جون جاك روسو، غوستوف لبون وفولتير.
هذه الكتاتيب وهذه الخيم المتنقلة التي هي عبارة عن كتاب أو زاوية تحمل ألواح التلاميذ ووسائل تعليمهم كانت ترافق القوافل السيارة وجيوش الفاتحين، وهي أهم معالم مقومات الأمة بها حافظت على ذاتها وتصدت إلى أعدائها وصانت هويتها من المسخ وعلى وجودها من الذوبان وعلى كيانها من التلاشي وبقيت متماسكة تماسكا ميزها عن غيرها وأمدها بعوامل القوة وأسباب البقاء وحماها من الاندثار. فهذا الكتاب الخيمة على بساطتها وفقرها وهو فقر جميل لأنه فقر ونقص في الأموال والثمرات ولكنه غنى في الأرواح وتشبع بالرضا والرضوان فكل منتسب إليها راض بالقليل وبساطة الحياة وربما شضف العيش ولكنه حريص كل الحرص على حفظ آيات التنزيل والفوز برضى الجليل.
فهذه الكتاتيب على بدائية تعليمها وتقليدية وسائلها زودت بالعلم وأشبعت من جوع ثقافي فرضه الأعداء على هذه الأمة فتلك الألواح البسيطة المكتوب عليها حروف الهجاء وقصار السور وآيات التنزيل استطاعت مع مر الزمن أن تروي الأرواح العطشى للمعرفة وخرجت أجيالا تخلصت من قبضة الأمية والجهل يقول أحمد توفيق المدني : "كان التعليم العربي الحر في الجزائر يشمل قديما ثلاث مراتب أولى : ويعطى في الكتاتيب ويقبل الناس عليه إقبالا شديدا فلا تجد حارة من حارات المدن والقرى أو مضرب من مضارب الخيام أو دشرة إلا وبها الكتاب والطالب، وكان التعليم بها بسيطا يمثل القراءة والكتابة والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وبفضل تلك الكتاتيب البسيطة كانت الأمية قليلة الانتشار في القطر الجزائري" (5).
أمّا انعدام الأمية في القطر الجزائري قبل دخول الاستعمار فهناك العديد من الكتاب من أكد هذا غربيون وجزائريون ويقال إن نسبة الأمية في وسط الشعب الجزائري يوم دخول الاستعمار إلى بلادنا سنة 1830 كانت تقدر ب5% أي أن هناك 95% من الشعب الجزائري يعرف الكتابة والقراءة، وهذه الحقائق التاريخية موجودة في كل الكتب التي تتكلم عن التعليم في الجزائر، أذكر منها عنوانين الدكتور رابح تركي في كتابه "التعليم القومي والشخصية الوطنية"، والأستاذ مصطفى الأشرف في كتابه الجزائر أمة ووطن، ومن يريد التوسع فعليه بموسوعة تاريخ الجزائر الثقافي.
بل إن بعض خريجي هذه الخيم المتنقلة وهذه الكتاتيب القارة أو المتحركة المعزولة في الصحراء والمهجورة في الفيافي والبوادي أمدتنا بإطارات ورجال ثقافة بعضهم الآن أئمة ومفتشون ورجال فتوى.
المعلم: كان المعلم ولا يزال قطب الرحى في المنظومة التعليمية فهو الأب الروحي للتلاميذ والمرشد والمربي ورجل العلم الذي تشد إليه الأبصار وتشرئب له الأعناق وتصغي إليه الأسماع، والمعلم عند البدو الرحل بل وعند عموم الشعب الجزائري أرفع منزلة فهو يكاد يكون كامل الأوصاف فهما وعلما ودراية فهو الطبيب والراقي الذي يعالج الداء ويذهب البلاء، بل وقد يؤتمن على الأسرار والودائع ويسأل عن تفسير الأحلام ويستشار في تسمية المولود الجديد، وأحيانا يقترب من درجة الأولياء والصالحين، فهو الرجل المفضل المطاع ومحل احترام والتقدير من طرف الجميع ويستشار ويعمل برأيه يستفتى ويفتي، وهو المرجع في كل الملمات والمنازعات، وهو المستشار الديني والاجتماعي يحل المشكلات ويصلح الخصومات ويعقد قران الزواج، وهو أحد الوجهاء والمبجلين يتصدر المجلس في الجلوس ويدعى في ولائم الأفراح والمناسبات، كما يدعى كذلك في المآتم والمناسبات الأليمة، وهو يلازم القبيلة أو القافلة الراحلة في حلها وترحالها في صيفها وشتائها، وهو إمام الصلوات الخمس والتراويح في أيام رمضان، ومعلم الصبيان والفقيه والقاضي وأحد أصحاب الرأي بعد رئيس النزلة أو الفرقة أو القبيلة، ولا يشترط في المعلم أن يكون أحد أقارب القبيلة أو تربطهم بهم صلة الدم ووشائج القربة بل قد يكون أجنبيًا عنهم بعيدا عنهم لا نسب بينهم وبينه، لكنه يحظى باحترام كبير وتفضيل وطاعة تامة ولا أحد يتجرأ ويقول له إنك غريب أو أجنبي، بل الكل يناديه (سيدي) أو (أنعمسيدي) وهذه الكلمة تركيب مزجي بين كلمة "أنعم" و "سيدي" وهي مسموعة في منطقة الجلفة وغيرها من بعض المناطق.
أما مسكن الطالب أو المعلم فله خيمة خاصة به هو و أولاده وزوجته تعرف في المنطقة (بعشة) الطالب، ووسائل النقل توفرها له القبيلة أو الفرقة أو النزلة التي يعلم عندها وهي بعير أو بعيران يحملون له أمتعته.
ما يشترط في المعلم أما ما يشترط في معلم القرآن وهو معروف بكلمة الطالب أكثر من كلمة معلم، فالطالب الذي تستقدمه النزلة يشترط فيه حفظ القرآن والفقه والانسجام مع الجماعة الذين يعملون عنده والأخلاق الفاضلة كالوقار، ويفضل أن يكون متزوجا بل هو عند بعضهم شرط أساسي ضمانا للعفة والشعور بالمسؤولية نحو الأولاد الذين يعلمهم.
لباسه أما لباسه المعروف والمشهور فهو البرنوس إما أبيض أو رمادي "أشعل" كما يقال أو جلابة هي الأخرى تكون رمادية أو بيضاء وسروالا واسعا فضفاضا "سروال عربي" ولا يقبل المعلم حاسر الرأس بلا عمامة، فالعمامة شرط صحة ووجوب معا، فلا يقبل المعلم بدون عمامة بل يعتبر عيبًا ويفضل في العمامة أن تكون بيضاء على الأشهر وطويلة ضافية تغطي العنق، وفي الغالب تكون هيئة المعلم مميزة مما يعطيه هيبة في نفوس التلاميذ وعند الجماعة وهو يسعى أن ينزه نفسه عن مجالس اللغط وأماكن اللهو.|
أجرته أما أجرة المعلم فتتكفل بها الجماعة التي يعمل عندها ويقدمها له سيد القوم أو كبير الجماعة بعد اتفاق قد تم بينهما قبل استقدامه، وتكون هذه الأجرة إما مشاهرة أي كل شهر أو مقاطعة كما يسمونها، وهي أن يتفقوا معه على مقدار معين من مال أو أنعام أو حبوب (قمح أو شعير)، وقد تعطى للمعلم هبات أخرى ومساعدات من باب التفضل عليه والتقدير له، وهذه المساعدات تكون في المناسبات الدينية كأن تجمع له أموال في نهاية شهر رمضان أو يوم عيد الأضحى أو يوم جني المحصول (كحصاد القمح والشعير). أما عندما يختم أحد التلاميذ القرآن كله أو بعض أجزائه فإن المعلم يكرم كذلك.
وقد روى لي أحد معلمي القرآن كبار السن من مدينة الإدريسية أن ولي تلميذ قدم بقرة من أحسن الأبقار في قطيعه مكافأة للمعلم عندما حفظ الطفل البقرة فقال الأب : "إن سورة البقرة تكافئها".
إذن الكتاب الخيمة أو الزاوية المتحركة حقيقة اجتماعية واقعة لها أمثلة كثيرة في تاريخ الجزائر، وسأركز في بحثي هذا على نموذجين أو ثلاثة نماذج لهذا النوع من الخيمة الكتاب أو الزوايا المتحركة، وآخذ ولاية الجلفة كعينة لوجود هذا النوع، ومن الولاية آخذ ثلاث دوائر إدارية دائرة مسعد وتقع جنوب الولاية، ودائرة الإدريسية وتقع غرب الولاية، ودائرة البيرين وتقع شمال الولاية وفي هذه الدائرة الأخيرة المعلم الذي درس في الزواية المتنقلة لا يزال حيا يرزق وهو إمام بدائرة وسارة.
كان هؤلاء المواطنون البدو الرحل يتنقلون من مكان إلى مكان بحثا عن مواطن الرعي والكلأ لأنعامهم التي هي مصدر رزقهم والأنعام في الغالب هي الغنم والماعز والإبل وحصان أو اثنين وبعض الحمير.
التلاميذ :
التلاميذ هم المحور الأساسي في عمل المعلم، وهم في الغالب أبناء النزلة، وقد يوجد بينهم تلاميذ أجانب جاءوا لتعلم القرآن ويكون عددهم غير محدد، لكنه ليس كثيرا فلا يزيد على 20 تلميذا،ولا يقل على 07،وهذا العدد يزيد وينقص حسب الظروف. أما أعمار التلاميذ فليست محددة، وإن كان يفضل أن تكون أعمارهم كبيرة نسبيا من 08 سنوات فما فوق، خاصة إذا كانوا من غير أبناء القبيلة ربما مراعاة لنضجهم، وحرصا على فائدتهم وقدرتهم على التنقل وظروف الترحال الصعبة وتسهيلا لعمل المعلم، وقد يستفاد من بعض خدماتهم كرعي المواشي وجلب الماء والحطب، وقد روى لي بعض المعلمين المسنين ممن تعلم بهذه الطريقة وعاش التجربة أنه كان يكتب لوحه ويأخذه معه أثناء رعيه للغنم أو الإبل وعندما يعود في المساء يستظهر ما حفظه عن المعلم.
أما وقت كتابة الألواح فهو غير محدد فيكون تارة بعد صلاة الفجر على ضوء القناديل أو الشموع أو نار الحطب، أو ضحى. وإماليلا مابين صلاتي المغرب والعشاء.
ونشير هنا أن التعليم مرتبط بالتربية الأخلاقية والروحية فالتلاميذ يصلون جماعيا مع المعلم وشيوخ النزلة ويطالب التلميذ بالحياء والطاعة والأدب وحسن الاستجابة، ويتعرض للعقاب إذا تلفظ بكلمة فيها سوء أدب، وقد يقوم أحد التلاميذ بتأدية صلاة التراويح في شهر رمضان امتحانا له على حذقه للحفظ وتدريبا له على الإمامة وتحفيزا له أمام أقرانه حتى يتنافس التلاميذ في الحفظ.
ونادرا ما توجد وسائل الترفيه واللهو عند التلاميذ، وإن وجدت بعض وسائل الترويح عن النفس فهي لا تعدو أن تكون مدائح دينية أو قصائد يؤديها أحد أفراد القبيلة وتعرف بالذكر وهي ذات صبغة دينية صرفة، وقد يأتي ضيف للقبيلة ويكون معروفا بالإنشاد والمدح و التقصيد، فيطلب منه أن ينشد للحاضرين، وهذا الإنشاد يكون في مناسبة فرح أو قرح وفي مناسبة الوفاة غالبا ما تكون قصيدة البردة.
أما القراءة الجماعية والحزب اليومي فهو مفروض يوميا، حيث يقرأ التلاميذ القرآن جماعة وهو مايعرف بالتكرار، ويمنع على التلاميذ منعا باتا استعمال المصحف في القراءة أو في الكتابة أو في الحفظ أو في التكرار، وإن وجد مصحف فهو نسخة عند المعلم، والمعلم هو الوحيد الذي له حق استعمال المصحف.
لباس التلاميذ : أما لباس التلاميذ فهو من واقع الحال جلابة وعمامة بيضاء تغطي الرأس وإن كانت تظهر عليهم مظاهر الحاجة والفقر.أما البنت فلا حظ لها في التعليم إلا القليلات جدا من المحظوظات وهذه البنت إما بنت كبير الجماعة أو بنت المعلم، أو لها من يساعدها على التعلم في البيت كالأب أو الأخ، أما بعض النساء الفقيهات فعلى ندرتهن فهن موجودات، ويختلف هذا من عرش إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى، اكتسبن الفقه أو العلم عن طريق السماع أو المشافهة أو التعلم من أحد أقاربهن كالزوج إن كان إماما.
وأثناء تنقل التلاميذ فإنهم يقطعون مسافات شاسعة من تراب ولاية الجلفة حتى صحاري حاسي رمل وحاسي مسعود بولاية ورقلة والأغواط وفيافي بلدية أم العظام وشمالا إلى حدود ولاية تيارت، لكن القوافل التي أجعلها عينة البحث لم تتنقل أكثر من مسافة 150 كلم.
والزوايا التي هي عينة البحث زاوية الشيخ سيدي يوسف بدائرة مسعد وزاوية الشيخ سيدي بولرباح بدائرة الإدريسية.
الزاوية الطاهرية : تعرف هذه الزاوية بالطاهرية أو زاوية سيدي يوسف وسميت باسم مؤسسها الشيخ الطاهر بن محمد، و أسست حوالي سنة 1837.
كانت هذه الزواية راحلة متحركة يتنقل أهلها على الإبل بحثا عن المراعي الخصيبة لمواشيهم، لكنها لم تنقطع عن تعليم القرآن فضلت زاوية متنقلة ومؤسسها الأول حفظ القرآن وتعلم الفقه وأصول الدين والحديث في الزواية العثمانية المعروفة بطولقة، وكذلك بالزاوية المختارية بأولاد جلال وقد أذن له شيوخ الزاويتين بفتح زاوية، والإذن من عند الشيوخ مهم جدا بالنسبة للمريد فإذن الشيخ ورضاه هو مفتاح العمل وباب السعادة وضمان النجاح، وهذه الزاوية هي الآن قارة لها أبنية ثابتة وتقع في دائرة مسعد ولاية الجلفة ولا تزال تواصل رسالتها التعليمية إلى اليوم.
زاوية الشيخ بولرباح : سميت باسم مؤسسها المولود سنة 1790 وتأسست هذه الزاوية سنة 1830، وكانت زاوية متنقلة ترحل صيفا وشتاء تؤدي رسالة تعليم القرآن وتنير الدروب في تلك البوادي المظلمة، وتؤنس الموحش في تلك القفار الخالية، فبالرغم من ظروف الحل والترحال واصلت عطائها العلمي ومدها الروحي في عزة وصبر وقناعة وإيمان قوي ورضا بما تقدم من خير، فنالت احترام الجميع وقد تخرج منها العديد من حفظة القرآن بعضهم توظف في وزارة التربية والتعليم، وبعضهم في وزارة الشؤون الدينية، وهي الآن قارة ثابتة وتوجد جغرافيا غرب الولاية تابعة إداريا لدائرة الإدريسية، وتوجد في بلدية عين الشهداء ونشير أن الاستعمار قد تفطن منذ دخوله الجزائر إلى خطورة الزوايا على وجوده فحاربها ودس عليها وشوه سمعتها.
خاتمة البحث
إن فكرة إنشاء جائزة الجزائر لحفظ القرآن والتراث الإسلامي مبادرة طيبة جدا تستحق الثناء الحسن والشكر الجزيل والتثمين الغالي الرفيع والدعاء بالخير والدوام والاستمرارية لما لهذه الفكرة الخيرة من فائدة في إحياء التراث والبحث عن نفائس المخطوطات النائمة في رفوف الخزائن. إننا بحاجة إلى عزم قوي ومصارحة حقيقة مع ذاتنا لدراسة القديم والجديد بمنهج علمي متبصر وبفكر نقدي مشبع بروح الأصالة والمعاصرة وبوعي علمي يربط أسباب الماضي بالحاضر بواقعية تكشف ولا تفضح تصل ولا تقطع تعدل ولا تجرح. وقد أجاد و أفاد القائمون على فعاليات هذا الملتقى إذ برمجوا مدرسة الإقراء في الجزائر فهذه المدرسة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء قد أعطت ثمارها طيبة يانعة على مر العصور. أملي أن أكون قد ساهمت بهذا الجهد المتواضع في إحياء جزء من تراثنا الثقافي والتعليمي على وجه التحديد، وسلطت الضوء على جزئية من مدرسة الإقراء في الجزائر وهي الزوايا المتنقلة هذه الزوايا التي هي حقيقة تاريخية اجتماعية عرفها بعض المواطنين الجزائريين، لكنها غير معروفة لدى البعض الآخر منهم لعدة أسباب، وهي جزء من تاريخ الجزائر الثقافي يضاف إلى رصيد أمتنا الطافح بالأمجاد، وحسبي أنني اجتهدت فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، ويكفي أن الأجر حاصل بإذن الله ولله الحمد على التوفيق وهو سبحانه الهادي إلى الصواب والموفق إليه وهو نعم المولى ونعم النصير.
الهوامش
(1) الرسول والعلم/ د.يوسف القرضاوي ص40 ط 1997.
(2) (نفس المرجع بتصرف يسير ص 3).
(3) إبراهيم التزري/ تاريخ التربية في تونس.
(4) نقلا عن كتاب آداب المعلمين لمحمد سحنون تحقيق الدكتور محمود عبد المولى (ص62).
(5) أحمد توفيق المدني /كتاب الجزائر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.