"علمتني الأيام انه لكي يكيل الناس لي المديح بشدة، يجب أن تتوافر في شروط كثيرة، أولها - للأسف الشديد - أن أموت!". محمد عفيفي. بادئ ذي بدء ... الجزائر كنت قد استعضت في موضع سابق هنا بالعالم الروسي بافلوف المشهور بتجاربه حول الثنائية منبه – استجابة (Stimulus-reaction) ، و هذا في وصفي لحال الدبلوماسية الجزائرية التي كان الدافع وراء تحركاتها في الفترة الأخيرة هو رد الفعل الشرطي و ليس المبادرة بالفعل الذي ينطلق من احترام اللبنات التي وضعها السابقون - بمن فيهم محمد الصديق بن يحيى و قبله الرئيس الراحل هواري بومدين رحمهم الله - في صرح الدبلوماسية الجزائرية ... دعك من التاريخ و الجغرافيا و البترول و الغاز و حتى الطاقة الشمسية "مشروع ديزرتك" التي لن نحسن استعمالها كورقة ضغط اقتصادية - سياسية ... ربما لشدة إشفاقنا على كلب بافلوف إلى حد تأثرنا بالاستجابة الشرطية مثلا بيان اتهام - بيان تكذيب ، تمجيد الإستدمار - تجميد تجريم الإستدمار ، مفاوضات مصنع رونو - تنفير المستثمرين العرب و العجم من غير فرنسا ، الخ. غير أن هذه الحالة البافلوفية لا تقتصر على سياستنا الخارجية - إن جاز هنا استعمال كلمة سياسة – و إليكم هاته الثنائيات من واقعنا الداخلي : إضراب - زيادة في الأجور ، ظاهرة الحرڤة - تجريم الحرڤة ، برلمان مطعون في شرعيته - تكليفه بمناقشة مشاريع الاستصلاح ، النية في الإصلاح - إفراغ كلمة الإصلاح من محتواها، 30 % للمرأة في القوائم الانتخابية – حالة استنفار قصوى في صفوف رجال الشكارة، انتشار الجريمة و الانحراف - بناء السجون و بمقاييس عالمية، الخ.
العلمانية البافلوفية و كما كان الأمر عليه مع كلب بافلوف المسكين الذي سال لعابه بمجرد رؤيته لقطعة اللحم التي حيل بينه و بينها، فان نفس المنعكس الشرطي مع بعض الأشقاء التونسيين بعد ذلك التصريح الذي قال فيه أمين عام حركة النهضة و مرشحها لرئاسة الحكومة - أو لمح كما صحح هو - بما معناه أن تونس مقبلة على "الخلافة الراشدة السادسة" ... فما العيب يا ترى في أن يستشهد الرجل بالخلافة الإسلامية الراشدة ... هل تونس دولة غير مسلمة؟ هل هناك من يريد اجتثاث تونس من الأرض التي يقع فيها جامع الزيتونة و مسجد القيروان؟ ثم هل شعب تونس الذي اختار حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي قاصر إلى الحد الذي يجمد فيه حزب التكتل من أجل العمل و الحريات تحالفه مع "حركة النهضة" و حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" رغم أنه كان سيتم تزكيته لرئاسة الجمهورية في الفترة الانتقالية الجديدة. الم يقل الرجل أنه كان يقصد الرشادة؟ أعتقد لو أن امرأة نصف كاسية قالت أنها تريد تونس على شاكلة هولندا صاحبة الرسوم المسيئة لما قامت الدنيا أو قال أحدهم أنه يريدها ديمقراطية على شاكلة فرنسا صاحبة مجزرة ساقية سيدي يوسف لما ألقى أحد ممن أقاموا الدنيا و أقعدوها بالا لما يقول. و أفتح هنا قوسا لأعقب بالقول أنه قد بدأت تتأكد حجج المعسكر الذي يقول أن هاته الثورات مدبرة بصفة حصرية من طرف الغرب، و هذا من أجل التمكين للإسلام الذي ترضاه أمريكا و ليس الإسلام الذي رضيه لنا الخالق جل و علا. هذا المعسكر من المحللين و أزلام الأنظمة القائمة الذين يقولون أن الدكتاتوريات ليست هي المستهدفة من ثورة الشعوب بل إعادة ترتيب المنطقة بواسطة تبني ثورات الشعوب و استخدام الجامعة اللعوب و اصطياد الحكام من قنوات الماء غير الشروب من أجل غازها و بترولها و طاقاتها و النعم التي حباها الله من كل الأصناف و الضروب. طبعا إن أردنا أن نتبنى موقفا عدلا فان العتاب كل العتاب يوجه إلى من أعطى الحجة للغرب و للمغرر بهم بمن استنجدوا به ... العتاب يوجه إلى من نالوا الفرصة و عندما تحين الدورة الأزلية يحتكرون هاته الفرصة حتى انقلب السحر على الساحر و ما ينبئك مثل خبير. و أغلق القوس لنعود إلى الحديث عن تونس الشقيقة. فكلنا نعرف أن هذا القطر الشقيق قد ابتلي منذ استقلاله برئيسين أو دكتاتورين أولهما حكم حتى اللحظة التي فيها مرض و خرف "أو هترف كما يقال في الجلفة" و الثاني في العلمانية أسرف و في عهده كل طرابلسي أو ماطري في السرقة احترف ... و هما من اضطهدا الإسلام بل و فصلاه على هواهما حتى صدقت فيهما مقولة الكاتب الصحفي اللبناني الكبير أحمد فارس الشدياق (1805-1887): فصلته لكن على عقلي فما مقياس عقلك كان لي معروفا (⊃1;) و بذلك فإنه يجوز لنا القول أن الفترة الدكتاتورية الطويلة التي عاشتها الشعوب ولدت عند بعض العلمانيين فيها منعكسا شرطيا بافلوفيا فقط بمجرد سماع كلمة عن الإسلام من لدن شخصية تمتهن السياسة و على الرغم من أنهم يعرفون جيدا الآية الكريمة "لا إكراه في الدين"... و هو ما حدث بمجرد أن تلفظ أمين عام حركة النهضة بعبارة "الخلافة الراشدة".
الثورة دائما يقطف ثمارها الجبناء ... و إن كانت ثورة ناتو أو ياسمين أو حتى ثورة فجل و بصفة عامة فان أغلب العلمانيين و اللائكيين في العالم العربي من المتشدقين بالديمقراطية (الأقلية الساحقة) ينطلقون في قناعاتهم تلك من نظرتهم إلى أن الشعب قاصر و من تجاهل تعاليم الإسلام و أن القوانين العلمانية القائمة "كالقروض الربوية" يجب أن يتقبلها الطرف الآخر (الأغلبية المسحوقة) و لو غصبا و إن كانت تناقض معتقداته و قناعاته و إلا فان مصيره إما الحرمان أو العقاب أو التهميش و هذا ضرب في الصميم للديمقراطية و حرية الرأي و المعتقد ... و الحال هو نفسه مع الكثير من الأقطار التي قامت بها ثورات الربيع العربي لأن البعض مازال ينظر إلى أن الواقع القسري للفترة السابقة على أنه "مكسب" - و إن كان يناقض توجه أغلبية الشعب - يجب الحفاظ عليه و بالنتيجة فان الثورة لن تعدو أن تكون مجرد تصفيات حسابات شخصية ضد ذاك الرئيس و زمره فقط ... فيهرب الرئيس أو تشوى مؤخرة رأسه أو يموت أو يسجن و يحاكم أصهاره و عائلته و أتباعه و يتشرد "المحظوظون" منهم في مشارق الأرض و مغاربها و يستمر النظام القمعي الذي وطد الحاكم بنفسه أركانه. إن جميع العلمانيين الذين ذكرتهم آنفا لا يعتبرون من موقف الرجل العلماني "رشيد نكاز" الفرنسي الذي جعل مليون أورو من ماله الخاص وقفا لتلك النسوة اللائي اضطهدن اليمين الفرنسي بسبب دفاعهن عن قناعتهن في ارتداء البرقع ... و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على احترامه لقناعات الآخرين التي يراد لهم أن يتخلوا عنها تحت ضغط القوانين الظالمة. و لأن التاريخ علمنا أن الثورة دائما يقطف ثمارها الجبناء، فإن الجبناء ليسوا هم من يهربون بالطائرة في جنح الظلام أو من يتحصنون داخل قنوات الصرف الصحي أو في الحفر و ليسوا من عامة الشعب الذي يدفع فاتورة الدم أولا و أخيرا و ليسوا ممن يتصدرون التلفزيونات الحكومية من جماعة "الدنيا مع الواقف و لو كان بغلا" ... بل إن الجبناء هم المستفيدون دائما عبر الأزل، تراهم في مواقعهم لا يتزعزعون، لا يعرفهم الكثير من عامة الناس لأنه في عرفهم لا يجب أن يظهروا للعلن و لا يجوز أن تسيل قطرة من دمائهم كون هذا الدور محجوز لعامة الناس، هم أذكياء جدا و يحسنون استعمال عامل التوقيت و ركوب الموجة و يعرفون كيفية اللعب بالعواطف، يتلونون كالحرباء و لكن حسب الحاجة فهم وطنيون و إسلاميون و تقدميون و رجعيون و ثوريون و ديمقراطيون ، يتناولون العشاء مع اليساريين ثم يواصلون السهرة مع اليمينيين ، يجيدون مهارة الالتفاف فهم أولئك الذين يلتفون على الثورات و يركبون موجتها، و الظهور أمام عامة الناس عندهم تكتيكي و تقتضيه المصالح أو عند حالة الخطر المحدق بهم و لذلك تراهم يضحون بالحلقة الأضعف في مجموعتهم فيخرجوه لنا و يجعلوا منه رمزا لكي يكابر و يرافع و يتحدث بلغة الخشب ... مجرد ملحوظة ... هناك فرق بين غنائم الثورة و ثمارها فالغنائم هي مكاسب شخصية آنية يتركها الجبناء للشجعان المتهورين إرضاء لغرورهم و أناننيتهم أما الثمار فهي ما يمنح القوة لمن يقطفها فيما بعد و يتم الإستيلاء عليها باستخدام ذكي للإعلام.
الخلافة السادسة و عمر بن عبد العزيز إن مشكلة التيار العلماني عندنا - شمال إفريقيا - أنه لا يستجيب استجابة بافلوفية بحتة أي يقارع الكلمة بالكلمة و الحجة بالحجة أي أن الثنائية "منبه – استجابة شرطية" يتدخل فيها عامل "منبه" ثالث عابر للقارات فتصبح ثلاثية مشوهة "منبه1 (الخلافة الراشدة مثلا) - منبه 2 (جهل أو تجاهل للذات و استيراد القيم و طلب ود الغير) - استجابة شرطية" و لعل عذرهم الوحيد هو أن "من جهل شيئا عاداه" ... فيا ليت القيادي في "الحزب الديمقراطي التقدمي" التونسي عصام الشابي تريث في قوله "هذا الخطاب خطير جدا على الديمقراطية" لأن إطلاق هذا الكلام يحمل بين طياته تتفيها للخلافة الإسلامية و تقويضا لما حملته للإنسانية من قيم و علوم و حضارة سبقت و صنعت الحضارات التي جاءت بعدها. فلو أنه قال مثلا انه "ضد الوراثة في الحكم (الخلافة) التي وضعها معاوية بن أبي سفيان و نحن مع الحكم الراشد للخلافات السابقة" لكان كلاما متوازنا من رجل يدعي الديمقراطية. و لكن فاقد الشيء لا يعطيه و لأن الرجل يبدو أنه لم يقرأ مثلا عن الخلافة الخامسة و كيفية ترشيد الحكم و التسيير آنذاك... خلافة عمر بن عبد العزيز الذي قيل عنه أنه ذات ليلة على ضوء شمعة كان يناقش وكيل بيت مال المسلمين في أمور تصريف الأموال و وجوه ذلك إلى أن انتهى النقاش و عندما أراد وكيل بيت مال المسلمين الحديث في شأن يخصه طلب منه الخليفة عمر بن عبد العزيز إطفاء الشمعة لأن ثمنها من بيت مال المسلمين و لا يجوز استخدامها في غير شؤونهم.
الحداثة الشدياقية الحداثة في معناها الصحيح تعني أن نستفيد من الأمم المتطورة في العلوم و التكنولوجيا و نحافظ في نفس الوقت على هويتنا و شخصيتنا و قراراتنا (الصفر الأسود فوق الرأس لا يعني أنك قد حافظت على هويتك كما أن البذلة لا تعني أننا قد فرطنا فيها) ... و تحضرني هنا تلك الكلمات الرقيقة و اللطيفة المفعمة بالحب و الشوق و الغيرة على البلاد المسلمة للكاتب أحمد فارس الشدياق الذي عاش فترة قصيرة من حياته في تونس ... من "كتاب الرحلة" الذي ألفه عام 1283 ه وصف فيه سفره إلى بلاد "الإنكليز المتمدنة" و التي قال عنها كلاما رائعا عن عمرانها سرعان ما استدركه بشوقه إلى البلاد التي جاء منها ثم ذكر بعضا من مثالب أهلها: "و يعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب، و أدركت فيها من الرغائب، كنت أبدا منغص العيش مكدره، كمن فقد وطره، و لزمته معسرة،لا يروقني نضار و لا نضرة، و لا نعمة و لا مسرة، و لا طرب و لا لهو، و لا حسن و لا زهو، لمّا أني كنت دائم التفكر في خلو بلادنا عما عندهم من التمدن، و البراعة و التفنن، ثم تعرض لي عوارض من السلوان، بأن أهل بلادنا قد اختصوا بأخلاق حسان، و كرم يغطي العيوب و يستر ما شان، و لا سيما الغيرة على الحرم، و صون العرض عما من هذا الصوب يذم ، ثم أعود إلى التفكر في المصالح المدنية، و السباب المعاشية، و انتشار المعارف العمومية، و إلى إتقان الصنائع، و تعميم الفوائد و المنافع، فيحفل السلوان و أعود إلى الأشجان، و كذا كانت حالة أمير الأمراء السيد حسين رئيس المجلس البلدي بتونس، فانه لبث في باريس مدة طويلة، و خواطره أبدا ببلاده مشغولة، فكان يلازمه الأرق، و الهم و القلق، حتى مكنه الباري تعالى من تحسين تلك الحاضرة، و إمداده بالمرافق الوافرة، فلله الحمد على بلوغ إربه ، و حصول مطلبه، فان تبهية الأمصار الإسلامية، أشهى إلي و الله من كل أمنية، كيف لا و عن المسلمين كان أخذ التمدن و الفنون في الأعصر الغوابر، و كانوا قدوة في جميع المناقب و المفاخر ، و المحامد و المآثر".
(1) بيت من قصيدة طويلة في مقدمة كتاب "الساق على الساق في ما هو الفارياق" حول تأليفه لهذا الكتاب و كيفية تفصيله و تبويبه له.