حز في نفسي كثيرا أن يصل خلافنا إلى درجة الخصومة العلنية بين يدي موتانا في معظم المقابر ، " السلفي" يحتج على الروية في السير بالجثمان و " الطرقي" يستنكر على الناس عدم الجهر بالتهليل أثناء المشي بالميت ، وغيرهما يقترب من تكفير الحشد المعزي على عدم رفع اليدين بالدعاء بعد الفراغ من الدفن ، غير أن ما أثار كل موجدة وحفيظة عندي هو حالة الأموات بدل الاحياء ، وصمتهم امام اندراس قبورهم ودوس الجميع عليها وسط الزحام دون حرمة . يذكر الجميع تلك الضجة التي حدثت في مدينة كولونيا شمال الراين بألمانيا حول القانون المعدل لدفن الموتى الذي أصدرته الولاية والقاضي بالسماح للمسلمين بدفن موتاهم باستخدام الكفن الشرعي بدل التوابيت والذي أثار حفيظة الكنيسة و المسئول عن إدارة المقابر في مدينة كولونيا الذي أصر على وجوب اتباع قواعد الدفن المسيحي بالتابوت وتأجيل الدفن بعد الوفاة لأكثر من يوم بحجة مراعاة المجتمع المسيحي ، وبعد تجاذب تم حل المسالة بتغيير لائحة نظم الدفن لدى المهاجرين ، وإدراجها ضمن مخطط إدارة المقابر للمدينة بعد الاستماع لرأي الأحزاب السياسية وبدائلها المطروحة في هذا المخطط . وتم برمجة انظمة استثنائية في تشييد مقابر الجاليات الأجنبية مع مراعاة طقوس كل ديانة، وحفظ المقاييس المتفق عليها في التوسع وطاقة الإستيعاب لدى كل مقبرة واحتساب معدلات الدفن من سنة إلى سنة مما يبين حرص السلطات في بلاد الاجانب على قيمة الميت واحترام الفضاء الذي يحتويه ، وفي أمريكا قامت إدارة مقابر "فورست لون" في لوس أنجلس باستصدار أوامر صارمة بمنع أي مظاهر احتفالية بالمقبرة غداة ذكرى وفاة مايكل جاكسون وهددت باتخاذ اجراءات قضائية في حق كل من يقوم بتنشيط مظاهر الاحتفال التي أعدها محبو مايكل جاكسون كإطلاق الحمام والبالونات وأداء الأغنيات رغم عدم وجود محظورات دينية في أمريكا لهذه المظاهر . أما في الصين فالحال أفضل بكثير مع مقابر المسلمين البالغ عددهم اكثر من عشرين مليون وثلاثمائة ألف نسمة، حيث تشكل مقبرة لانتشو الاسلامية نموذجا رائدا في الحفاظ على سنة الدفن وتنظيم القبور بعد حرص المسلمين هناك على البساطة من خلال التفكير في احترام المساحة بحكم ان مساحة المقابر الإسلامية تزداد حوالي 3400 هكتار، وهي مساحة تكفي لزرع حبوب تغذي ثلاثة ملايين نسمة في السنة، مما يفرض إدارة صارمة للمقابر وتطويرها باصلاح الذهنيات التي تفشت سابقا كترك مساحات شاسعة بين القبور ، واستدراك المحيط المقبري بالتشجير حيث حدث سنة 2001، أن خصصت الحكومة ما يعادل عشرين ألف دولار أمريكي لجعل مقبرة لانتشو الاسلامية محاطة بسياج أخضر من الشجر . بالعودة إلى الحالة المزرية التي تعرفها وضعية المقابر في بلاد المسلمين وإن كانت متفاوتة من حيث الاهتمام فإن الغالب هو افتقاد نظرة شاملة لتسيير الدفن ورعاية شؤون الجنائز ومتطلبات حقوق الموتى ، ما لم نستثن المملكة العربية السعودية في تجربة الشركات الخاصة التي تناولت المسألة من وجهة نظر إدارية تكاد تكون متكاملة ، ففي مدينة الإحساء تعمل مؤسسات عديدة في توفير جميع متطلبات ولوازم النقل والتغسيل والدفن والتكفل في حفر وتجهيز القبور في جميع المقابر مع مراعاة الاستقبال والدفن من مكان الوفاة في سيارات مخصصة لنقل الموتى وتأمين المغتسل والمغسلين من خلال توفير عدد من المغسلين المكونين ليتعاملو مع الجروح والافرازات بشكل صحيح تحت إشراف متعهد المغسلة والتنسيق مع الدفاع المدني بشأن التجهيز واستصدار الدفن والنقل للمقبرة بعد جهوزية القبر الذي يتم حفره من طرف عمال شركة تنظيم الجنائز وشؤون الموتى . و تنظيم عملية الدفن بتخصيص عاملين اثنين لاستكمال القبر دون جلبة او تهافت عشوائي . أما في الجزائر فإن غياب مخطط وطني لتهيئة المقابر عجل بوجود إشكالات عديدة وأصبحت أزمة المقابر هاجسا يؤرق الجميع ، لا سيما في ظل تصريحات الهيئات المعنية التي دقت مرارا ناقوس الخطر بتنامي ظاهرة الدفن في القبور القديمة وما ينجر عنه من مشاكل بين العائلات إذ صرح مرارا في هذا الصدد محامي مؤسسة تسيير الجنائز والقبور لولاية العاصمة أن القانون الجزائري يرجع ملكية القبر إلى الدولة بعد 05 سنوات من الدفن، أي أن الجزائري لا يملك قبره بعد خمسة سنوات من الدفن ويجوز للدولة أن تستغله في دفن موتى آخرين، خاصة في ظل الأزمة التي تعاني منها غالبية مقابر العاصمة. وبروز اشكالية تطبيق القانون الجزائري الذي يسمح ببيع القبور أو حجزها قبل الموت وكذلك مزاحمة قبور الاعضاء المبتورة التي تدفن هي الأخرى حسب الشروط القانونية إضافة إلى اختلاف النموذج الهندسي للقبر وتفاوته بين التسوية والعلو وبين تكوينه من الحجارة أو الرخام ، هي كلها مظاهر منفلتة لا سلطان في ضبطها . مقابر الجلفة هي الأخرى أصبحت مكتظة على آخرها وبحاجة إلى تسوية القبور المندرسة والمنسية وإعادة تنظيم المعابر بين القبور، وإعادة تشجيرها وصيانة جدرانها وتجديد أبوابها وضمان حراسة دائمة لها في ظل تنامي طقوس السحر والشعوذة التي تحدث دون حسيب ولا رقيب ، واستفحال ظاهرة المماحكة والجدال بين المشيعين حول طريقة الحفر والدفن وتعالم نفر على نفر بالتبديع والغلو . حدثني صديق من خارج الولاية أنه شهد أكثر من جنازة لأصدقائه في الولاية ، وهاله أن تستمر تلك الجدالات دون حياء في حضرة الاموات ، و في ذلك مدعاة لوجوب التعقل وتجاوز ما لا يشرف المدينة ، ويؤسفك أن تمضي لزيارة الموتى فتدهمك جحافل المتسولين بإلحاح بعيد عن التعفف داخل جدران متآكلة وأبواب صدئة وعتاد بالي من الدلاء والصهاريج المثقوبة والعشب الضار على مد القبور . المدينة بحاجة لمخطط ولائي لتسيير المقابر ، كما هي بحاجة إلى رد الاعتبار لمقابر تضم الشهداء والعلماء ، وأهلها بمسيس الحاجة لاستذكار الشرع في دفن موتاهم باحترام .