يبتدئُ الشّاعر قصيدتَه ببيتٍ رائع له معنًى تاريخيّ ودينيّ عميقٌ و معبّر.. فهو يقارن مأساته و حزنه الذي يعيشه بتلك التي عانتها مريم (عليهاالسّلام) حين ابتلاها الله بحمل وهي العذراء الطاهرة .. ولما وضعتْ قيل لها ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ). ومع اختلاف المعاناة بين الصّورتين..إلا أن الشّاعر ينقلنا إلى تلك الصّورة القرآنيّة البهيّة .. التي توحي بالأمل والأمان والطّهر فهو يقول: هُزِّي شِراعَ المُنى,,يا نخْلةَ الوادِي شَوقِي يُلوّعُني .. و البَيْنُ جَلَّادِي ولأنه بدأ كذلك .. فلابدّ أن يكملَ الصّورة المتألّقة في بيته الأوّل بما يناسبها في بيته الثّاني .. وهو الشّكر لله على فضله ومنّته ولكن على طريقة الشّعراء ... (الوجدُ سجّادي).. فهو يسجد لله ولكن بطريقة عميقة تعبّر عن آهاته ومعاناته في السّجود .. مَلَّ الفُؤادُ لِحافَ اللّيلِ,,سَهرتَهُ كالشَّارِدينَ.. و هَذا الوَجدُ سِجَّادِي فوجده لا يكاد يغيب عن باله في كل حال. ثم بعد سكونه وهدوء ألمِه يعود إلى الحبيبة يسألها أن تسقي ربوعَ قلبه الظامي .. فيستعيضُ عن الماء بما يناسبه وهو الخريرُ وهو صوتُ الماء الجاري وذلك أبلغُ في التّصوير إذ لو قال ماءً لكان ممكن التّفسير بكونه ماءً راكدًا مثلا .. فيقول: و اسْقِي الرُّبوعَ خَريرًا ؛غَرَّ عاشِقَهُ دِفْءُ المساءِ و هَمسُ الجَدولِ الشّادِي ويعود ببيته التّالي إلى حيث ابتدأ في مطلع قصيدته التي طلب فيه هزّ النّخلة .. بعدما ذاق تمرَها اللّذيذَ و هذا يثبّت ما ذهبنا إليه من اختيار الشّاعر لتلك الصّورة الشّعريّة المعبّرة في القرآن الكريم .. فتراه يقول : يا نخْلةَ العِزِّ ؛ كمْ لِلتّمْرِ مِنْ ألَقٍ مِلْءَ الشُّموخِ..الذِي في عُمقِ تنهادِي؟ يَرْقَى ؛ و تسْجُرُ بالأنفاسِ حالِمَةٌ عَطْشَى ،و تبحثُ عنْ ساقٍ و عنْ هادِ هامَتْ مُلبّيَةً صَرْخاتِ ما فقَدَتْ أيَّامَ نشْوتِها ,,في فُسحةِ النّادِي ولكن الشّاعر يبقى برغم كلّ ذلك رهينَ مأساته وحبيسَ آهاته لعمقها وتأثيرها البالغ في قلبه ..فيبدو كأنّه فاقدٌ للأمل ،مستسلمٌ لما كتب في طالعه وحنايا ضُلوعِه فيقول وكلّه ألمٌ و حسرة : لا عَزمَ يُشرقُ في آفاقِها سَنَدًا صحْراؤُها غَدَرتْ بِالكَوكَبِ الحَادِي فاسْتَبْقَتِ الأمَلَ الغَدَّارَ,, باحِثةً بعدَ الغُروبِ عنِ الأحلامِ ..و الزَّادِ ويبدو أنّه كان في حلم فاستفاق منه ..أو أجبرته ظروفُه للاستفاقة منه .. فوجده وهْمًا وبناءً على رمال متحرّكة .. فلا نخلةَ ولا تمر و لا خرير .. يا نخلةَ العِزِّ ؛ ذِي الأحلامُ رائِحةٌ خلفَ الفُؤادِ أسًى، و اسْتسلمَ الغادِي ضلَّتْ عُيونُ المَهَا في نَجْدِ قافيةٍ مِثلَ الطّريدةِ في هَيجاءِ صَيَّادِ لو تُسْعِفيني..سيبقَى الشَّوقُ ملحَمةً في القلبِ شاهدةً عنْ حُبِّكِ الصّادِي هُزّي شِراعَ المُنى لحْنًا يُهَدْهِدني يا نَخلةَ العِزِّ .. شَوقُ الجُرحِ إنْشادِي لقد نجح الشّاعرُ في إغرائنا بالأمل والحبّ المليء بالحنان في أبياته الأولى .. حتى غمرنا الفرح والشّوق وتذوّقنا معه تمرَ نخلته المعطاء في زمن الجدبِ واليأس .. وسمعنا خريرَ مياه العشق وهي تروي عروقَه الظّامئة لقطرِ مطر .. ثم استفقنا معه لنجدَه وأنفسَنا في صحراءَ قاحلة .. فلا نخيلَ و لا خريرَ و لا أمل .. ..صحوةٌ قاتلة تعصر قلوبَ العشّاق..و تهزّ المشتاقَ بطريقة ذكيّةٍ تجعلنا وقُوفا بكلّ احترام وتقدير لما رسمته ريشتُه المميّزةُ من صورٍ فاقت التّصوّرَ ..هنا تعجزُ المفرداتُ من أن تجتاز حاجزَ صمتِك وصوتِك ومعاناتك .. كرخ بغداد :1/10/2012