حينما اعترضوا طريق ذلك الشبح الذي كان يتلحف قلنسوة وبرنوسا بنيا و هو يسارع فرسه باتجاه هدف مجهول، لم يخطر ببال ثلاثتهم بأن صيدا ثمينا وسمينا قد ساقه حظه العاثر إلى موقعهم حيث كانوا مرابطين في انتظار ليل يسدل الستار على مسارهم بعدما أصبح للرعب وللخيانة أقدام تتجول بها بين الشعاب والوديان والقفار، فقط هالهم وسط عطشهم وريبتهم في الشجر والحجر ،شبح شخص مجهول كان يخترق الأفاق ويتحدى الشمس الحارقة مخلفا وراءه غبار فرسه تشق العباب وتسارع أنفاس راكبها الذي تربص به ثلاثتهم وما أن أوقفوه حتى انهار الرجل واعترف بأنه رسول الجنرال إلى شيوخ وقادة المنطقة..كان ثلاثتهم أمام مفاجأة وقوع صيد ثمين بين ايديهم عن طريق الصدفة ليقتاد الأسير ومعه ثلاثين رسالة تحمل أسرار جنرال بنايشين فرنسية ، انتهى به المطاف إلى التواري في خيمة معزولة بسيدي عامر بمنطقة تسمى رأس الضبع في انتظار معجزة ومدد يعيد له سطوته وجبروته وسابق ملكه.. التاريخ 5 جويلية 1958 ، الطقس جاف وحار وملغم وموبوء برائحة الخيانات وطعنات الظهر تتحين الفرص حيث الجميع يشك في الكل ولا شعار ثابت سوى الحذر والحيطة واعتناق الشك كدين نجاة ،كانوا ثلاثة ورابعهم خوف مستشري بين الحجر والشجر وكان المكان منطقة تسمى "الخرزة" تابعة لجبل بوكحيل حيث كمن ثلاثتهم تحت إمارة وقيادة "المبخوت البار" البوسعادي ليلقوا القبض على الصيد الثمين القادم من سيدي عامر ويأخذوه إلى الرائد عمر أدريس ومعه حكاية اليوم الأخير من قصة بلونيس .. ثلاث رصاصات و"بلونيس" واحد.. رغم أن الأمر لا يبعد إلا بمسافة الخمسين سنة ولا يحتاج لعلماء أثار لكي يستنطقوا الصخر والحجر إلا نهاية الخائن بلونيس ظلت تراوح مكانها بين روايتين ثالثهما رواية شعبية تم اجهاضها لأهداف غير معلومة تحمل من الشبهات والتعتيم المقصود والمبيت أكثر مما تحمل من براءة الجهل بالحقيقة ،ومن الرواية الفرنسية المتداولة بشكل أنها المسلمة والحقيقة المطلقة إلى قصة "البيوعي" أو الحركى المجهول وانتهاء بالحقيقة المغيبة والمدفونة عن معجزة راعي من رعاة المنطقة حرمه التاريخ من حقه في أنه كان قاتل الجنرال وقتيل إبنته تترواح القصص وتتضارب الروايات والثابت أن "بلونيس" دخل حدود ولاية الجلفة في الأشهر الأخيرة من سنة 1956 وقبيل استشهاد أسد الصحراء زيان عاشور بثلاثة أشهر كان بلونيس قد تسلل باتجاه جبل مناعة بمنطقة الجلفة هروبا من صراعات زعامة أزاحته من الواجهة بالشمال ورفقة ثلة من مرافيقه فتح الخائن بلونيس قناة اتصال مع زيان عاشور طالبا حمايته وذارفا أدمع التماسيح على أنه ضحية دفع الثمن كونه من أتباع مصالي الحاج ولأن زيان عاشور كان وجها معروفا في حزب الشعب فإنه تأثر للمستجير به وزوده بالمؤونة دون السلاح إلى حين تظهر دافعه وحكايته وصدقه وهو ما دحصته الأيام بعدما عاثت الثلة التي رافقت بلونيس فسادا وسط البدو والرحل وقاطني الخيم ، حيث يذكر أن زيان عاشور بلغه بأن جماعة "بلونيس" تنتهك الحرمات وتغتصب نساء الفقراء مستغلة ظروف الثورة وهو الأمر الذي أثار غضب قائد الصحراء الذي أعطى أوامره بطرد بلونيس وزمرته خارج حدود المنطقة وتقفي إثارهم بأي شكل ، وفي خضم قراره بإنهاء الطاعون استشهد القائد التاريخي زيان عاشور بتاريخ 7 نوفمبر 1956 مخلفا وراءه جيشا يفوق تعداد الألف جندي سقط إمامه في ساح الوغى بمنطقة تسمى "خلفون" بجبل سيدي ثامر بعد معركة حامية الوطيس مع جنود الاحتلال دامت ثلاثة إيام بغروبها وشموسها وأمام صدمة فقدان القائد والزعيم والأب الروحي لمنطقة الصحراء تناسى المصدومون أمر بلونيس الذي استغل فرصة الألم والحزن ليصطاد السذج من العروش وخاصة بمنطقة سييدي عامر وبمناطق نائية بالجلفة وتحت عباءة الأب الروحي للحركة الوطنية دغدغ الغريب مشاعر البدو والرحل والحطابين ليشتري ويصنع له أنصارا حتى بين المجاهدين بجبل بوكحيل بالجلفة حيث يتمركز جيش التحرير تحت قيادة الرائد عمر إدريس خليفة زيان عاشور الذي لم يفطن ورجاله بمخطط "بلونيس" وما يخفي من طموحات في أن يكون هو ذراع فرنسا وأفعتها السامة التي تسربت إلى داخل الخيمة وفي غمرة المعارك والانكسارات الفرنسية على صخرة الكفاح ، اكتشفت المخابر والعقول الفرنسية رجلها وذراعها الأمين وخاصة بعدما انتقل الرائد عمر أدريس في مهمة عاجلة إلى غرب البلاد ومنها إلى المغرب بناء على أوامر فوقية لجلب السلاح، فرنسا وابواقها وخاصة ذراع بلونيس الأيمن "لعربي القبايلي" الذي كان مندسا في صفوف جيش التحرير ، أشاعو وسط الجنود أن الرائد عمر أدريس رفقة مرافقيه على رأسهم الحاج لخضر الساسوي استشهدوا في كمين بالغرب الجزائري وهو الأمر الذي أثار بلبلة وخوفا وتفرقا امام تآمر مطلق وتصفيات مجهولة كانت تقودها أطرافا لتشتت الجيش، كان الأمر يشبه القطيع بلا راعي فرغم أن الرائد عمر إدريس خلف وراءه عالما وإماما جليلا من منطقة الجلفة يدعى الرائد حاشي عبدالرحمان كقائدا للجيش إلا ان حجم المؤامرة وقوة مهندسيها واحترافية منفذيها كانت أكبر من تقوى رجل زاهد وعالم وخاصة أمام أمية المجنديين وجهلم بعلم المؤامرات وكذا خلافات هذا "جبهوي" وذاك "مصاليست" كان الأمر يعني الجهاد وكان العدو هو فرنسا أما ما عداها ف"أفتات خاطي قصعة".. من اليمين إلى اليسار : مزيان العربي المدعو "العربي القبايلي" ، سعد عطاوة ، الجنرال محمد بلونيس بلونيس "جاب" الاستقلال.. !! المنطقة كانت تغلي والمؤامرة طبخت وأستوت على نار هادئة وبلونيس استطاع أن يستميل قادة الكتائب في جيش التحرير وساعة إعلان الإنقلاب تزامنت ونهاية سنة 1957 ورجال بلونيس المزروعين بين أوصار الجيش تمكنوا من تصفية كل من يشتم فيه فهمه للمؤامرة ، وبدخول سنة 1958 ، اعلن بلونيس أو "سي محمد" كما ينادونه استقلال الجزائر بعدما دخل في معارك مصطنعة مع جنود الاحتلال رسخ من خلال جثثها المستأجرة من أفريقيا أنه مجاهد كبير وخصم لدود لفرنسا التي فرض عليها أن تعترف به وبراية الاستقلال التي رفعها بحوش النعاس أو دار االشيوخ حاليا بالجلفة حيث مركز قيادته وبدأ مخططه أو مخطط المخابر الفرنسية ، ولأن الحيلة انقضت على "الجاهلين" وكذا على الطامعين والخونة فإن الرائد حاشي عبدالرحمان قائد جيش التحرير وجد نفسه في قلب اعصار يكاد يعصف بالثورة برمتها ليدخل في سباق مع الزمن لوقف زحف المغالطة التاريخية ، ويعلن التعبئة بين جنوده لاجتثاث الخديعة قبل سريان سمها ، وكانت الحرب سجال وبقدر ماقاوم الرائد عبدالرحمان حاشي بقدر ما اصبح هدف بلونيس كأخر حجرة عثر أمام مشروعه الكبير وخاصة بعدما فرش له البساط كل من العربي القبايلي و وعبدالقادر جغلاف ومحمد بلكحل وعبدالقادر لطرش بالإضافة إلى الضابط مفتاح الذين بايعوه على الإمامة التي دشنها بلونيس بإمامة الناس بمسجد زاوية الشيخ النعاس وكأنه شيخ زاوية أو سيد الطالب والمهم أن بلونيس استطاع أن يخدر أمة بالصحراء بعدما أعلن واشياعه بأنه رجل "مصالي الحاج" والمنطقة ككل معروفة بمصاليتها وهو ما سهل الإنقلاب وتوافد المبايعين سواء عن جهل أو خوف لتقبيل يد تدر مالا للمتعاونين وتدر نار للمشككين في وطنية وقدسية الزعيم، المنطقة أصبح الكفر إمامها والرائد حاشي عبدالرحمان ومن بقى معه من "الفاهمين " أضحوا محل مطاردة وقنص أمام انقطاع أي اتصال لهم بالقيادة ليصبح الاجتهاد سلاحهم فلا رسول ولا مرسول ولا رسائل تشرح ما جرى وتعيد للصحراء صفائها وعذريتها.. رجال بلونيس من قادة جيشه الذي استبدلوا قمصانهم منهم من باع نفسه للشيطان ومنهم من سحرته عباءة مصالي الحاج وخدع في لابسها ومنهم من إضطر للالتحاق ببلونيس خوفا ويأسا بعدما أنقطعت أخبار الرائد عمر إدريس ولم يبق في الساحة إلا الثعلب الذي خير القطعان بين أن يكونوا لقمة سائغة للفرنسيين أو يستجاروا تحت قيادته ويحميهم الجنرال بنفوذه ونياشينه الفرنسية،كانت المؤامرة بحجم إجهاض لثورة وكان الرائد حاشي عبدالرحمان هدفها المطلوب من جماعة بلونيس ليقع حاشي عبدالرحمان في الأسر نتيجة خيانة أحد مقربيه ويستغل ختمه كقائد للثورة في الناحية للقبض على عشرة قادة منهم الضابط "محاد بلهادي" من منطقة مسعد نتيجة مؤامرة محاكة بذكاء تم استغلالها عن طريق ارسال استدعاءات عاجلة لقادة كتائب جيش التحرير لعقد اجتماع عاجل لتنطلي الحيلة على رجال جيش بوكحيل ويقع في الأسر رجال صدقوا الله ما عاهدو عليه .. دم العالم الزاهد..بداية النهاية سقوط الرائد حاشي عبدالرحمان بين قبضة بلونيس رفقة قادة كتائبه بين قبضة بلونيس لم يكن انتصار وفتحا للجنرال الواهم بقدر ماكان بداية النهاية وبلونيس الذي بنى له صرحا حتى يرى مجده ، تنازل عن كافة الأسرى لرجاله وعلى رأسهم "محاد بلهادي" ليقرروا فيهم ذبحهم ، فقط ، استبقى لنفسه الرائد حاشي حتى يشفي منه غله لتأت الأوامر لبلونيس من طرف الجنرالين "ماسو " و"سلان" اللذين دخلا في مفاوضات مع الأسير المهم وعرضا عليه أن يوجه بيانا في الإذاعة إلى جيش التحرير بالجلفة يدعو جنوده إلى إلقاء السلاح مقابل أن يحظى بالعفو ولأن العالم عالم ومجاهد وتقي فقد رفض العرض ليعيده الجنرالان الفرنسيان إلى غريمه بلونيس بعد شهرين من العذاب، حتى يرى فيه رأيه وكانت فرصة العمر بالنسبة لسي محمد الذي طرح أسيره في ساحة المركز بدار الشيوخ ودعا المواطنون ليشهدوا كيف ينحر العالم الجليل وكانت الخطة أن يرهب العامة بإذلال عالمهم وإعلان أن جبهة التحرير انتهت لغير رجعة وعبر "سانية" ماء أو "طاحونة" بئر تم ربط العالم الجليل ودفعه للدوران كما "الحيوان" لاستخراج الماء ، ارادة العالم لم تشلها قساوة التعذيب وما اعتقده بلونيس إرهابا وضربا بالحديد والنار على الرافضين لمملكته ، جاءت نتيجته عكسية فبمجرد أن أصدر بلونيس أوامره للعربي القبايلي باعدام حاشي عبدالرحمان حتى تهاوى عرش الجنرال فدم العالم الجليل كان قنبلة انفجرت في وجه بلونيس والعامة وحتى الجنود المخدوعين من سكان المنطقة صحوا على كابوس رهيب بأنهم كانوا يبنون مجد خائن من طراز رفيع ، لا تربطه صله بالمصاليين ولا بإمامة المسجد والزاوية إلا عباءة مصطنعة..وبداية الطوفان والانفجار كانت قطرات دم الرائد حاشي عبدالرحمان و فيضانه كانت دماء الضابط محاد بلهادي وانقلاب الضابط مفتاج ونائبه "نويجم بلقاسم" المعروف بسائق الإبل..فكيف هوى عرش الجنرال في قمة سطوته؟