ثلاث سنوات من غربة داخل "دبابة" تترصد بها التفجيرات والألغام والكمائن ، انتهت به إلى إطلاق صرخة مدوية فرحاً حينما أعلموه بأن قيادة الجيش قد سمحت له بعطلة لا تتعدى الأسبوعين من أجل رؤية أهله، وعائلته التي تفصله عليها آلاف الأميال ومئات من تجارب الموت المتربص به، ثلاثة سنوات بالتمام والكمال كانت هي المساحة التي فصلته على والديه وعلى أولاده وزوجته ومدينته التي افتقدها وافتقد أمسياتها ولأنهم سرحوا له بالعودة إلى الوطن ، الى الأرض بعدما عاش ثلاث سنوات داخل دبابة كانت هي سكنه وداره وعائلته فإنه "طار" فرحا وعاد إلى الوراء إلى ليلة مظلمة وممطرة من شهر أكتوبر 1973 حينما نزل قرارا عاجلا من سلطات عليا تم بموجبه إعلان حالة الطوارئ واستنفار اللواء الثامن في سلاح المدرعات من أجل نقله إلى أرض معركة ملتهبة قررت روابط الدم والدين أنها معركة الجزائر بدلا من معركة مصر ، فالقضية كانت القدس وحجم القضية كان أكبر من أن تحتويه دولة أو "مصر" بعينها .. كان واحد من الآف الرماة، وكان قبل نزول القرار العاجل بالإنتقال إلى ساحة المعركة يحزم حقائبه للإلتحاق بعائلته بعدما استفاد من عطلة أيأم، لكن الحقائب التي حزمت باتجاه الأهل بولاية الجلفة قدر لها أن تغير وجهتها باتجاه صحراء سيناء وبدلا من أن ينتقل بسيارة أجرة أو فوق حافلة إلى ذويه وجد نفسه يتحرك وسط دبابة في صحراء سيناء التي لم يكن يعلم عنها شيئا..هو "لمقدم محمد" واحد من عشرات الآلآف ممن حملوا أراوحهم فوق كف عفريت واختاروا الذود عن شرف الأمة العربية بالذود عن مصر العظيمة التي تنكر "فراخها" الحاليين من فراعنة آخر زمن لتاريخ وتضحيات المئات والآلآف الجزائريين الذين سقت دمائهم أرض سيناء ليأت عليهم حين من الدهر و"العهر" المصري ويعيشون زمنا تلغى فيه كافة تضحياتهم وموتهم ودمائهم لأن مصر خسرت مباراة في الكرة فقررت أن تخسر شعبا كاملا لازالت أثاره تدل على استشهاده حينما كان "سادات" مصر يتفاوض على بيع القضية برمتها.. الشبح الشهيد لمقدم محمد وهو جلفاوي من بلدية حاسي العش الذي وصله خبر عطلته في نهاية سنة 1975 غادر دبابته مخلفا وراءه ذكريات دم وألم وموت عاشه رفقة أصحابه في رمل تحول إلى "مقبرة" التهمت المئات من جزائريين من مختلف جهات الوطن أنتهى بهم المطاف إلى أن يكون جزء من حبات رمل هي هوية صحراء "سيناء" اليوم، "لمقدم" ذلك دخل الجزائر ومنها إتجه إلى قريته والثلاث سنوات التي قطن فيها بدبابة كانت تستجعله لكي يحضن حياته السابقة التي فقد منها ثلاث سنوات، لكنه بمجرد أن طرق الباب ليلا وجد نفسه أمام "كابوس" مؤلم، بعدما هرب من أمامه فاتح الباب، كان ظهوره هو الرعب في حد ذاته، وعائلته التي تلقت العزاء فيه لم تصدق بأن إبنها "لمقدم" حيا يرزق وبين أن يكون الطارق "شبحا" لمرحوم أثار ظهوره رعبا، أو يكون "لمقدم" بلحمه وشحمه اختلطت فرحة الخوف بمعجزة البعث، لتروي العائلة لإبنها حكاية "الموت" والعزاء.. وكذا صلاة الغائب بالإضافة إلى المدرسة التي أطلق عليها الرسميون إسم مدرسة "الشهيد لمقدم محمد"..وهي المدرسة التي كان يشتغل فيها معلما قبل أن يذهب إلى الخدمة الوطنية لينتقل بعدها إلى مصر وتنقطع أخباره ويدفن وهو حي يرزق بعدما انقطعت أخباره ورسائله.. اللواء الثامن مدرعات..ملحمة كفاح قبل أن تكشف مباراة مصر الجزائر لؤم القنوات الإعلامية المصرية في تجاوز لأي روابط دم أو دين أو عرف كان "لمقدم محمد" النقابي المعروف ومدير المدرسة الإبتدائية ، يعتبر أن جهاده في مصر، أمر بينه وبين ربه فما حدث حدث وما قدمه هو و أصحابه كان لوجه الله وحده، لكن التنكر المصري لما فعلته الجزائر وكذا وهذا هو الأهم تنكر قنوات الصرف الإعلامي المصري لتضحيات شهداء سقوا صحراء سيناء دفاعا عن أبواب القاهرة ودفعوا أراوحهم ثمنا للإخوة وللشرف فإن ذلك ما أثار "لمقدم" في دفاع عن ذاكرة أصحابه ممن لقوا حتفهم، وهو يروي لك قصة حرب أكتوبر كواحد كان منها وفيها تعيش وتحس وتشعر كم هو مؤلم وقاس ومقرف أن يتنكر لك من ذدت عنهم ومت لأجلهم ودفنت حيا حينما كنت تدافع عن شرفهم.. يذكر لمقدم محمد أن الجزائر التي كانت حاضرة قبل بداية حرب اكتوبر 1973 ووسطها وحتى نهايتها كيف أن المدد الجزائري لم يتوقف وأنه طيلة أيام الحرب كانت الجزائر هي الحاضرة فبالإضافة إلى الجيوش التي كانت شرارة المعركة والإنطلاقة الأولى حيث ساهمت بشكل مباشر في أول يوم من المواجهة فإن "اللواء الثامن مدرعات" والذي كان "لمقدم" أحد رماته قد جاءته الأوامر بالإنتقال إلى القاهرة حيث ساحة المعركة بتاريخ 8 أكتوبر 1973 أي حينما كانت الحرب معلنة على كافة الجبهات، وكان عبارة عن مدد جزائري وصل إلى ساحة المعركة بتاريخ 22 أكتوبر وقد أسندت له مهمة واحدة أساسية تتمثل في فك حصار الجيش الثالث الذي وجد نفسه في ورطة عسكرية بعدما تمت محاصرته، ويقول "لمقدم محمد" أنه لولا لواء المدرعات الثامن الذي نزل إلى الميدان مباشرة ودخل في مواجهة وجها لوجه مع القوات الإسرائلية لتمّت إبادة الجيش الثالث..وقد استمرت المواجهة من تاريخ 22 إلى 28 أكتوبر، تم خلالها فك الحصار ورد القوات الإسرائلية وذلك بفضل القوات الجوية الجزائرية ولواء المدرعات، وقد كانت القوات الجزائرية تهاجم وتقصف ثم تعود إلى "طبرق" ، لتأت الأوامر بعدها بحماية القاهرة من إنزال إسرائيلي إلتف حول سيناء ليصبح الجيش الإسرائيلي على بعد ساعات من القاهرة ذاتها وهو الأمر الذي دفع اللواء الثامن الجزائري إلى العودة دفاعا عن القاهرة المفتوحة.. صورة للمجاهد لمقدم محمد أثناء حرب 73 . كم مات..وكم مواطن جزائري فجرته المدرعات الإسرائلية وماذا خلف وراءه "لمقدم" من جثث رفاق التحمت مع الرمل، العدد لا يحصى والهويات والأسامي لا تهم لكنهم كانوا بالمئات من أشاوس الجزائر ممن لم يعرفوا معنى "للوراء" فلا مكان لهم إلا الأمام... عددهم فوق أن يذكره "لمقدم" لكنهم مئات كانوا معه وظلوا هناك شهداء ملحمة صنعها الجزائريون وحدهم واعترف بها سعد الدين الشاذلي وقادة الجيش، وحتى مواطني مصر الشرفاء.. بومدين قال لنا..هدفنا تحرير القدس وليس سيناء الحرب انتهت بخيانة وقعها نظام السادات و"تل أبيب" التي كانت على مرمى حجر من قواتنا نجت من نهاية محتومة ووجود الجزائريين في مصر بعد الحرب تحول إلى حماية لمصر من هجومات أو خطط مبيته وبعد أن دافع عنها الجزائريون جاءت الأوامر بأن يحرس الجيش الجزائريسيناء من أي مؤامرات محتملة ورغم أنه كان من المفروض أن يعود "لمقدم" وجماعته إلى البلاد إلا أن القيادة السياسية ممثلة في بومدين أمرت بالمكوث هناك حماية لمصر "العظيمة" ومن سنة 1973 إلى بداية 1975 ظل "اللواء الثامن " بمدراعته مرابطا في سيناء وصحراء سينا دفاعا عن مصر وحدها، وهو الأمر الذي بعث الملل في أوساط الجنود، وما يذكره "لمقدم" أن الرئيس الراحل هواري بومدين جاءهم في زيارة وقال لهم كلمة بسيطة ومؤثرة مختزلة" أنتم هنا ليس دفاعا عن سينا ولكن لتحرير القدس" .. صورة للمجاهد محمد لمقدم في حرب 1973 هكذا ذكر "لمقدم" في لقاءه بالبلاد فقد ذكر أن الرئيس الراحل هواري بومدين ظل لأخر لحظة يمنى نفسه وجيشه بالزحف باتحاه القدس وكلامه كان واضحا حينما قال للجيش أن مهمته هي تحرير القدس وليس حماية "سينا" لكن معاهدة "كامب ديفيد" أنهت كافة الخطط والتمنيات والجيش عاد لأنه خرج ليس لحماية مصر ولكن لتحرير القدس واجتثاث اليهود.. هي ذي مذكرات رجل من آلاف الجنود الجزائريين الذين إكتووا بنار مصر ولم يحتجوا ولكن حينما ترمى التضحيات في الزبالة بفعل قنوات إعلامية مصرية فإن الكلام كان ضرورة وهاته كانت شهادة شهيد بعث من تربته بعدما نعته عائلته وتلقت عزاءه وكتب الرسميون باسمه مدرسة ليظهر بأنه كان طيلة ثلاث سنوات محبوسا داخل "دبابة" جزائرية من أجل حماية "كرامة" مصر التي يتاجر بها "المتمصرون" هاته الأيام..فمن منكم عاش ثلاث سنوات في "دبابة" يا إخوة مصر؟ سؤال خارج النص: في طلب أخير له ، رفع المجند "لمقدم محمد" رجاء إلى السلطات العليا للإفراج عن أرشيف حرب اكتوبر وحرب 1967 من أجل كتابة تاريخ لم يعد ملكا لأحد..وسؤاله ترى لماذا لم تؤرخ الجزائر لشهداء الكفاح ضد اليهود وكم شهيد ومفقود لازال بلا رسم ولا هوية بأرض مصر..وعلى طريقة المطالبة بأرشيف الثورة من فرنسا فإن "لمقدم" طلب من مصر أرشيف الثورة الخاص بالجزائريين فهل من متفهم ومن مجيب؟