أرقام غير مسبوقة تمّ رصدها لبرنامج الاستثمارات العمومية للتنمية على مدى الخمس سنوات القادمة، ولوحدها تستوقف المتتبعين لمسار عجلة التنمية التي تستكمل حلقاتها بنوع من الإصرار والتحدي على الرغم من تأثيرات الأزمة المالية العالمية.حقيقة قرّر رئيس الدولة ضخ ما يعادل 286 مليار دولار، أي 21214 مليار دينار للفترة من 2010 إلى 2014 (مقابل 17500 مليار دينار للخماسي الأخير)، وتخصص منها ما يعادل 130 مليار دولار لاستكمال المشاريع القائمة في طور الإنهاء، وأولها في قطاعات النقل والأشغال العمومية والري. غير أن الموقف الراهن بتداعياته المحلية والعالمية يتطلب مضاعفة الحرص على الاستخدام العقلاني للموارد المالية وفقا للمعايير الاقتصادية السليمة بما يدفع إلى بلوغ الأهداف المسطرة لمواجهة أي اختلالات محتملة، خاصة وأن المحروقات لا تزال المورد الأكبر لمداخيل خزينة الدولة، وكلما تراجعت تم اللجوء إلى حلول سريعة مثل تفعيل أسلوب الرسوم والإتاوات ممّا يضغط في نهاية المطاف على الجبهة الإجتماعية. هاجس المديونية الخارجية المؤشرات لا تزال تضيء باللون الأخضر، أبرزها التحكم في معادلة المديونية الخارجية التي توجد حاليا في قبضة محكمة لا ينبغي أن تلين، والسهر على الدفع بأدوات الإنتاج المحلية في مختلف القطاعات إلى إنتاج القيمة المضافة التي تمثل الورقة الرابحة في التعامل مع مسالة المنافسة في الأسواق الخارجية. للإشارة، من سقف مرعب للمديونية بلغ 30 مليار دولار سنة 1999 أمكن تخفيضه إلى 16 مليار دولار، وإلى حوالي 4 ملايير في الظرف الراهن. وتم التوصل إلى تقليص حجم الديون إلى حوالي 500 مليون دولار قبل سنة. وكان القرار الحاسم في التعامل مع مسالة المديونية إعلان رئيس الدولة في سنة 2005 قرار التوقف عن الاستدانة الخارجية، وجعل البلاد في مواجهة حقائقها بكل ما يلزم من تحدي، وعدم السقوط في الحل السهل من خلال اللجوء إلى الدين الخارجي بكل ما يترتب عنه من انعكاسات مكلفة تسقط نتائجه السلبية مباشرة على الجبهة الاجتماعية مثلما حصل في الماضي، وهو ما يستدعي ما يلزم من ضوابط لتفاديه. وهكذا، فإن قرار التوقف عن اللجوء إلى الدين الخارجي أمر أصبح من ثوابت الإستراتيجية التنموية، لذلك ترتكز المنهجية الجديدة على القيام بضبط الوضعية المالية العامة للبلاد كل سنة ودوريا، واتخاذ ما يلزم من ترتيبات ملائمة في ضوء المؤشرات. ومع ذلك لا يزال ينتظر الكثير من العمل، جودة في الأداء والتزاما بالمقاييس والآجال الزمنية لمضاعفة الموارد البديلة للمحروقات من تصدير، وهو أمر ليس سهل المنال على ما يبدو في ضوء ما تعرفه اتجاهات حركة التجارة الخارجية، والتي لا تزال تكاد تنشط في اتجاه واحد تهيمن عليه عمليات الاستيراد، وإن كانت حدته بدأت تعرف تراجعا في الأشهر القليلة الماضية مثلما هو الأمر بالنسبة لاستيراد المواد الغذائية التي تقلّصت فاتورتها بشكل معتبر يدعّمه عودة تصدير منتجات فلاحيه إستراتيجية مثل الشعير بفضل قوة المحاصيل المسجلة الموسم الماضي، ويرشح أن ترتفع هذا الموسم. وجديد هذا البرنامج الذي يعدّ بمثابة دفتر شروط لأداء الوزراء أن هؤلاء ملزمون بتقديم حصيلة سنوية كل فيما يخصه، والتدقيق في مدى تقدم وتيرة تمويل المشاريع، الأمر الذي يقتضي منهم حضورا مستمرا في الميدان بعيدا عن ذلك الأسلوب الإعلامي المبالغ فيه أحيانا لتحافظ الورشات على ديناميكية عمل مقبولة على مدار الأشهر. ومن ثمة ينتظر أن تفعل طريقة العمل بنظام الأفواج المتناوبة خاصة في قطاعات الأشغال العمومية والبناء والري وغيرها. خيار المؤسسات الصغيرة الرهان في القريب المنظور يقع على الدور الريادي لمنظومة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي ينتظر منها أن ترتقي إلى مستوى التحديات الاقتصادية بفعل ما يتوفر أمامها من إمكانيات مالية وإجراءات تحفيزية، ناهيك عن إيجابية نظامها المرن من حيث المتطلبات التي لا تمثل هاجسا في مجال التجهيزات ومن حيث التكلفة، إذ أنها تعتمد على حجم متوسط من الموارد البشرية، وهي متوفرة على مستوى الكفاءات والمؤهلات لليد العاملة، كما تتوفر حولها سوق وفيرة من حيث المشاريع الاستثمارية التي يكرسها الاستثمار العمومي الهائل، والموزع بشكل مدروس إقليميا وفقا لقاعدة التوازن الجهوي المؤسس لتصور جديد للتهيئة الإقليمية التي ينبغي أن تواكب كل هذا الخيار الاستراتيجي. وفي هذا الإطار، فإن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأغلبها يتبع القطاع الخاص الوطني ستستفيد بشكل أكبر من النظام التفضيلي في الوصول إلى الفوز بصفقات المشاريع العمومية. السياحة البديل الفعّال وفي خضم هذا التوجه التنموي الذي يقلل من التبعية للمحروقات وبشكل تدريجي، تبقى السياحة أحد الدعائم الكبرى التي يمكنها أن تلعب أدوارها كاملة غير منقوصة. وبلا شك إعادة هذا القطاع الخدماتي إلى دائرة وزارية قائمة بذاتها وتخليصه من ضغط التبعية لدائرة البيئة والتهيئة الإقليمية في التشكيل الوزاري الأخير، سيحرره بما يدمجه في السوق الاقتصادية من منطلق القناعة من جعل الجزائر بتنوعها الجغرافي والثقافي وجهة سياحية بالبعد الاقتصادي المطلوب لتكون سوقا حقيقية تجلب إليها السياح على مدار العام والفصول، وعدم التوقف عند التشخيص والاكتفاء بما يزخر به القطاع، وإنما المطلوب اليوم هو إرساء جسور لا تنقطع تربط بمختلف الاتجاهات المصدرة للسياح ضمن الأطر القانونية السارية، وتحويل المرافق السياحية التي تعاني من بطالة خدمات مزمنة إلى فضاءات لا تتوقف عن النشاط يكون فيها الوكالات ذات الصلة بمثابة الدينامو المولد لتلك الطاقة التي يتوقع أن يلعب فيها القطاع الخاص الاحترافي المحلي دورا متقدما من خلال إنجاز مشاريع سياحية جديدة كما هو معلن من بعض المتعاملين مثل رجل الأعمال جيلالي مهري أو من خلال عمليات شراكة مندمجة عمومية وخاصة تكون أكثر تطورا من تلك التجارب السابقة، وتفادي الحلول السهلة مثل الخوصصة المباشرة خاصة للأجانب كما هو الحال بالنسبة لعمليات مست وحدات فندقية غرب العاصمة يثير التساؤل دوما حول مدى التزام الأطراف المستفيدة بدفتر الشروط. الفساد أو الخطر المدمّر لكن هل يعقل أن تضخّ أموال هائلة في سوق استثمارية واسعة ومتشعبة تسيل لعاب المهتمين دون أن تسيج بما يلزم من أداوت قانونية وإجرائية دقيقة تحميها، وتمنع الفساد من أن يطالها في ضوء ما حصل على مدى الفترة الماضية مما ألزم سن قانون يخص مكافحة الفساد، وهي مسألة تتطلب طول النفس والحزم في العمل على كسر شوكتها لما لها من انعكاسات مدمرة على الوضع العام وتهدد مستقبل مسار التقويم الوطني. وفي خضم هذا التحدي، يقع على القضاء أكثر من واجب لترجمة هذه الإرادة بمعالجة صارمة وفعالة للملفات التي تصل رحابها ضمن القوانين وقيم العدالة من شفافية وموضوعية، وكسر ذهنية اللاعقاب وهي ذهنية أشاعت سلوكات مشينة مما استدعى مواجهة صارمة سوف تزداد حدّة إذا تطلب الأمر ذلك بما يرد الاعتبار لاخلقة تسيير المال العام. إن المال العام الذي يشكل رئة الاقتصاد الوطني ويمثل مصدر التمويل الاستثماري الضخم، والأرقام لا تحتاج إلى تأكيد، بحيث أنها تعبّر بنفسها وتقطع دابر التشكيك، لا يمكن أن يبقى معرضا لأي عبث أو اعتداء. ومن ثمة وإن يبقى الصراع بين قوى البناء والتجديد من جهة وزمر الفساد والتخريب قائما، فإن الطرف الأول هو الذي يجب أن ينتصر لما في ذلك من انتصار للبلاد برمتها، خاصة في ظل عولمة لا تعرف حدودا ولا تتأخر القوى الفاعلة فيها عن تهديد كيانات الدول الحديثة والطامحة لرد الإعتبار لموقعها على الصعيد الإقتصادي العالمي.