إن عملية إعادة المراجعة لمشروعية مكونات النظام السياسي الفلسطيني تتطلب إعادة ترتيب لأولويات مكونات المشروعية نفسها كخطوة أولى، بحيث يأتي القانون في مقدمة هذه المكونات وخاصة في تحديد الطبيعة البنيوية – الوظيفية لمكونات النظام السياسي، إضافة إلى تأطير العلاقة التفاعلية بين مكونات هذا النظام نفسها من ناحية، ومع مجتمعها وإطارها المجتمعي العام من ناحية أخرى، فالقانون مجرد ويمثل العقلانية بعيداً عن تأثير الأيديولوجيات العاطفي في غالب الأحيان، ولكن رغم ذلك فإن التأثير العاطفي في إطار عقلاني يظل حاضراً ومطلوباً في الحالة الفلسطينية، كونها قضية وطنية بأبعاد وأعماق متعددة تتطلب ترسيخ مشاعر الانتماء والتجذر فلسطينياً وقومياً - عربياً. ثم تأتي مسألة الكاريزما وامتلاك القدرة على التأثير في المرتبة الثانية، وأخيراً تأتي الأيديولوجيا والتي هي نسق الأفكار المخاطبة للعواطف والمشاعر، ويظل هناك اشتراط ألا تكون هذه الأيديولوجيا عاملاً مولداً للصراعات، وهذا لن يكون بدون إعادة قراءة نقدية بناءة لهذه الأيديولوجيات بما يتوافق مع الواقع الفلسطيني، بحيث تشكل إضافة لمكونات الهوية الفلسطينية تساهم في تطورها وعدم جمودها. حتمية المراجعة النقدية الشاملة لبنيوية ووظيفية النظام السياسي الفلسطيني إن عملية المراجعة النقدية المعمقة للنظام السياسي الفلسطيني ضرورة ملحة لا ترف يخضع لحسابات مصالح فصائلية وحزبية ضيقة، فالتحديات التي تمر بها القضية الفلسطينية هي تحديات وجودية، تحديات كل واحد منها يشكل تمفصل من شأنه إحداث تغيير جذري قد يكون من الصعب التصدي لمفرزاته ونتاجاته المدمرة والكارثية على القضية الفلسطينية والحقوق الأصيلة للشعب الفلسطيني. أولى هذه التحديات هو الإنقسام الفلسطيني والذي يؤشر وبشكل واضح إلى حتمية القيام بالمراجعة العميقة النقدية الشاملة لبنيوية ووظيفية النظام السياسي الفلسطيني، ففي ظل الإنقسام تراجع زخم القضية الفلسطينية إقليمياً ودولياً، الأمر الذي أتاح المجال أمام الاحتلال الصهيوني للعمل على محاولة ترسيخ حقائق على الأرض تهدف إلى إضاعة الحقوق الفلسطينية واستلاب هوية الأرض والمقدسات، إضافة إلى أن هذا الانقسام منح الاحتلال الفرصة لإحياء مشاريع تتمثل في الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ما يعني القضاء على حلم الدولة الفلسطينية وإنهاء القضية الفلسطينية، وفي تراتبية احتلالية صهيونية وبرعاية ومشاركة فاضحة من الولاياتالمتحدةالأمريكية، جاءت الخطوة الأمريكية بالإعتراف المجرم بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وتكريساً لذلك الإعتراف والذي يخالف القانون الدولي وكافة الأعراف والمواثيق الدولية كان القرار بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، في تأكيد سافر وفاجر على أن القدس خارج معادلة الصراع وفقاً لقرار أميركي باطل لا يلزم أحداً. وتجسد التحدي الوجودي الثاني في صفقة القرن والتي تأتي امتداد للمشروع الصهيوني برعاية العراب والشريك الأميركي، هذه الصفقة التي تستند إلى تكريس الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة استغلالاً للواقع الفلسطيني في ظل الانقسام، ولكن في سياق آخر أكثر خطورة، هذا السياق يهدف إلى تحويل القضية الفلسطينية من طبيعتها السياسية – الوجودية إلى مجرد قضية إنسانية هامشية تستلزم العمل على تحسين الظروف المعيشية لقطاع غزة، أي مواصلة الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة والتعامل على أن غزة هو كيان منفصل. إن صفقة القرن تعتبر تتويج واستغلال مجرم للواقع الفلسطيني والمساومة على معاناة الشعب الفلسطيني، صفقة عنوانها بعض التسهيلات المتعلقة بالظروف المعيشية مقابل التنازل عن الحقوق التاريخية السياسية والوجودية للشعب الفلسطيني، صفقة تتصف بالوقاحة وتهدف لاستلاب كافة مبررات وجود شعب بأكمله على أرضه، شعب يملك الحقوق التاريخية والشرعية والقانونية في أرضه والتي تشكل بمقدساتها وتاريخها وثقافتها وجغرافيتها مكوناً أساسياً للهوية الفلسطينية. ويشكل قانون القومية الصهيوني التحدي الثالث، فهذا القانون جاء ليكمل التراتبية الصهيونية ويضع الإطار الشامل لكل المخططات والأهداف العنصرية الإجرامية للمشروع الصهيوني. إن قانون القومية الصهيوني جسد العنصرية الصهيونية، وهو لا يشكل تهديدا وجودياً للشعب الفلسطيني بمفرده، ولكن يشكل تهديداً للعالم المتحضر بأسره، ويهدد بإعادة العالم إلى العصور الوسطى وانبعاث الحروب الدينية، إضافة إلى إحياء الأنظمة الفاشية – الشمولية المجرمة والتي لا تقيم وزناً للقوانين أو الأعراف أو المواثيق والمعاهدات الدولية. إن قانون القومية الصهيوني ومن خلال إقراره بأحقية اليهود بأرض فلسطين، وبأن لليهود وحدهم الحق الحصري بتقرير المصير، وأن القدس الكبرى الموحدة بما تمثله من مكانة لدى المسلمين والمسيحيين هي عاصمة دولة الإحتلال، وغيرها من البنود التي تصب في نفس السياق. الأمر الذي يكشف وبشكل جلي طبيعة الاحتلال الصهيوني في عدم اعترافه بوجود الشعب الفلسطيني صاحب الحق الأصيل في فلسطين، ويؤشر إلى أن هذا الاحتلال يؤكد على الطبيعة الجدلية الوجودية للصراع، مما يعني أن هذا التحدي لا خيار معه سوى مواجهته بنقيضه، فالتمفصل الآن وجودي والصمت أمامه قد يهدد بصعوبة استعادة الحقوق الفلسطينية. إن المواجهة مع الاحتلال الصهيوني تتخذ أبعاداً وأعماقاً، فالاحتلال يحاول جاهداً نزع مكونات الهوية الوجودية للشعب الفلسطيني، وفرض رؤاه المستندة إلى الرواية الصهيونية بتكوينها الأسطوري الديني المزيف البعيد تماما وبالمطلق عن العقلانية – التاريخانية، وهو يحاول النيل من الإنسان الفلسطيني بتجريده من كافة حقوقه الوطنية والسياسية والثقافية والإنسانية، في الوقت نفسه الذي يحاول النيل من الأراضي والمقدسات الفلسطينية بتجريدها من هويتها وتاريخانيتها وجذورها الفلسطينية الأصيلة الضاربة في أعماق التاريخ الإنساني. إن التحدي الأساس هو الأرض والإنسان الفلسطيني وبكل ما يرتبط بهما من تاريخ وحاضر وهوية ووجود، هذا التحدي يستوجب من الكل الفلسطيني بشكل عام، ومن النظام السياسي الفلسطيني بشكل خاص، العمل تحت قاعدة الارتباط الجدلي الذي لا افتكاك منه بين الأرض والإنسان، فالأرض هي حاضنة الوطن وعليها كل استحقاقات الحياة الوجودية، والإنسان هو قيمة عظمى وهو مبرر وجودي تكاملي تبادلي في علاقته مع الأرض، فإذا استهدف الإنسان كان الخطر فادحاً على الأرض، وإذا استهدفت الأرض تهدد مبرر وجود الإنسان. قاعدة العلاقة الجدلية المطردة بين الأرض والإنسان في سياق الصراع الوجودي واستناداً إلى قاعدة العلاقة الجدلية المطردة بين الأرض والإنسان في سياق الصراع الوجودي مع الاحتلال، فإن النظام السياسي الفلسطيني وبكافة مكوناته مطالب بإعادة المراجعة لكافة علاقاته التفاعلية الداخلية لمكوناته، إضافة إلى مراجعة القواعد والأيديولوجيات والثقافة المستندة إليها هذه مكونات، وهذه المراجعة يجب أن ترتكز إلى الشجاعة والمسئولية الوطنية والتاريخية، بحيث يتم التخلي عن أي مفاهيم مؤسسة لا تتوافق مع الواقع الفلسطيني، وتشكل عاملاً كابحاً لتطور الهوية الفلسطينية في صراعها الجدلي التناقضي مع الاحتلال الصهيوني. كذلك يجب التخلي عن تلك المفاهيم المؤسسة لتناقضات داخل مكونات النظام السياسي الفلسطيني التي أدت لحدوث الإنقسام الفلسطيني، تحت قاعدة وطنية جامعة بأن التناقض الوحيد هو مع الاحتلال الصهيوني. ويجب أن تشمل هذه المراجعة الاستفادة من تفصيلات كافة الأيديولوجيات والفكر المؤسس للمكونات بما يمكن من تطوير المشروع الوطني الفلسطيني لمواجهة كافة التحديات المفصلية الوجودية التي تهدد القضية الفلسطينية، وتنحية التفصيلات التي باتت لا تتوافق مع المتغيرات والأخطار الحالية المحدقة بالقضية الفلسطينية، وتصيب الفكر الوطني بالجمود نتيجة لتمسكه بمكونات أصبحت عاملاً كابحاً لا دافعاً. الإنسان هو مصدر الشرعية للنظام السياسي ويأتي الأمر الأهم وهو علاقة النظام السياسي الفلسطيني بمحيطه وحاضنته الوطنية، فشرعية هذا النظام يجب أن تستند إلى القانون في هذه العلاقة، فكما سبق وأن أسلفنا يأتي الإنسان الفلسطيني كقيمة عظمى ومبرر لوجود النظام السياسي الفلسطيني نفسه، وهو الحاضنة الوطنية لهذا النظام استناداً إلى العلاقة الجدلية الطردية ما بين الإنسان والأرض. لذا يستوجب أن يكون القانون كإطار عام هو المحدد الأساسي في هذه العلاقة في المقام الأول، حيث أن الإنسان هو مصدر الشرعية للنظام السياسي وهو صاحبها، إضافة إلى أن الإنسان الفلسطيني هو من يخوض المواجهة اليومية مع الاحتلال الصهيوني، وبالتالي فإن مسئولية النظام السياسي الفلسطيني تقوم على الحفاظ على هذا الإنسان، وتذليل كافة العقبات والقيود التي تعطل إبداعاته في معركته الوجودية في مواجهة الاحتلال الصهيوني. وتأتي مسألة إنهاء الإنقسام الفلسطيني أولى وأهم الخطوات في طريق الحفاظ على الوجود الفلسطيني، فهذا الانقسام الطارئ الخطير في الصيرورة التاريخية للشعب الفلسطيني يشكل حلقة يجب استئصالها، فهذه الحلقة جاءت لتوقف التراتبية العقلانية – التاريخانية لمسيرة الشعب الفلسطيني، حلقة شكلت حقيقة مريرة لمدى التباس وتشوه النظام السياسي الفلسطيني البنيوي والوظيفي، حلقة منحت الفرصة للإحتلال الصهيوني لمحاولة فرض مؤامرته وتصفية القضية الفلسطينية، وما قانون القومية الصهيوني وصفقة القرن إلا نتاج لواقع جاء معاكساً للصيرورة الفلسطينية تجسد في الانقسام، لذا فإن إنهاء الانقسام الفلسطيني يجب ألا يكون خاضعاً لحسابات حزبية ضيقة وتفاصيل تتعلق بالجزء دون الكل، إن الأمر يتعلق بمسيرة تاريخية – وجودية للشعب الفلسطيني. إن الإنقسام جاء كنتاج للخلل في النظام السياسي الفلسطيني، وبالتالي فإن مجرد إصلاح هذه الخلل يعالج هذا الإنقسام، وأولى خطوات هذا العلاج تتمثل في المراجعة النقدية البناءة للنظام السياسي، مراجعة بأبعاد أفقية ورأسية تتسم بالعمق، فالبعد الأفقي يعني مراجعة في آلية التشكيل والتكوين والأسس الفكرية والأيديولوجية لمكونات النظام السياسي، هذه المراجعة تسهم في الفصل ما بين مكوناته فصلاً يسمح لها بأداء وظيفتها باستقلالية، ولكن بدون غياب للتكاملية والتواصل البناء بين هذه المكونات، ولكي يتم تحقيق الهدف من هذه المراجعة يجب إعادة النظر في كافة الأطر الجامعة لهذه المكونات من مؤسسات وتشكيلات وخلافه، وتطويرها بما يزيل الالتباس المفاهيمي ويعالج التشوه البنيوي والوظيفي للنظام السياسي، مما يشكل ضماناً لقيام النظام السياسي بدوره في المعركة الوجودية في مواجهة الاحتلال الصهيوني كمبرر لوجوده نفسه. الإنسان الفلسطيني الضمان الحقيقي لمواجهة وإفشال المخططات الصهيونية أما المراجعة الرأسية فتعني بترتيب أولية العلاقة ما بين النظام السياسي ومحيطه وحاضنته الوطنية المجسدة في الإنسان الفلسطيني، بحيث يأتي هذا الإنسان على رأس الأولوية كونه صاحب شرعية ومشروعية النظام السياسي نفسه، وبالتالي فإن النظام السياسي مطالب بالعمل على الحفاظ على هذا الإنسان كقيمة عظمى لارتباطه الجدلي الطردي بالأرض وبالهوية. إن الإنسان الفلسطيني هو الضمان الحقيقي لمواجهة وإفشال المخططات الصهيونية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، ومن أجل الإنسان وبالإنسان يكون تحرير الأرض وانتزاع الحقوق. إن التحديات وجودية تستوجب إبداعات ومراجعات قادرة على التصدي والقول بأن الشعب الفلسطيني ووجوده هو الصيرورة التاريخية التي ستظل حقيقة حتمية قائمة في مواجهة الرواية والأسطورة الصهيونية الزائفة. في ضوء ذلك يكون السؤال: إلى أي مدى يمكن لأصحاب القرار وصانعيه في النظام السياسي القيام بعملية مراجعة شاملة عميقة للبيت الداخلي الفلسطيني، مراجعة نقدية بناءة تؤسس لنظام سياسي بمقومات وسمات تؤهله ليكون في مستوى مواجهة التحديات الوجودية للكل الفلسطيني ؟؟؟. الحلقة2 و الأخيرة