قرن كامل من التحديات والصراعات ولم يستطع الغرب أن يقضي على طموحات أمتنا في حياة كريمة ولم يستطع أن يحقق أمن الكيان الصهيوني، ولم يستطع أن يقضي على الشعب الفلسطيني.. ولكنه أيضا قرن وقف بتحدياته عنيدا ضد تمكيننا من استعادة فلسطين أو تحقيق وحدتنا وانجاز نهضتنا.. فماهي قصتنا مع القرن.؟ لم يكن القرن العشرين عاديا في تاريخ أمتنا.. كان الأكثر عنفا وخطورة في التدخل بشؤون بلداننا وسياساتنا والأكثر عنفا في الإملاءات الخارجية علينا.. قرن تمت فيه أبشع المحاولات لتغيير هويتنا، وتغيير معالم حضارتنا، وانتزاع الأرض من تحت أقدامنا، وصناعة كيانات تابعة وهزيلة تمنع النهضة وتشرع الانصياع للغرب ومؤسساته. قرن من الفوضى "الخلاقة" التي انطلقت في عام 1916 بعد فشل الثورة العربية في إنجاز دولة عربية كبرى في المشرق العربي وبالتحالف مع الانجليز للانفصال عن السلطنة العثمانية.. فوضى بثلاثية شريرة تقدمت دفعة واحدة متكاملة: 1- سايكس بيكو "التجزئة" و2 - احتلال بريطانيالفلسطين انتدابا خاصا و3 - وعد بلفور الذي صوت لصالحه البرلمان البريطاني وأصبح أحد عناصر المشروع الغربي.. وبضربة واحدة سقطت السلطنة العثمانية، وتجزأت بلادنا العربية، لاسيما بلاد الرافدين والشام، وتكرس التغريب في مناهج التربية والتعليم، والقوانين والثقافة، وأقيم كيان صهيوني على أرض فلسطين.. وفي المغرب العربي - والجزائر القلب منه- كان الاستعمار الفرنسي يرسي آخر برامجه ظنا منه أن توقف المقاومات الجزائرية المسلحة بحلول سنة 1916 إلى هزيمة تاريخية يترتب عليها فرض واقع جديد بمزيد من الاستيطان لتحويل الجزائر إلى جزء من دولة فرنسا.. أدت الخطة الاستعمارية الفرنسية البريطانية مراحلها المتتالية خلال ثلثي القرن بكامل التركيز لإقامة جسد بشري غريب عن المنطقة يكون امتدادا ثقافيا للغرب ويقوم بمهمات استراتيجية للمشروع الغربي في المنطقة وتولت الإدارات الأمريكية بشكب شبه كامل المسئولية في ثلث القرن الأخير.. فكان الكيان الصهيوني في القلب من المنطقة العربية قرارا غربيا يمسك بمقاليده المركز الغربي حسب تنقله ويقوم بفصل شرق العرب عن غربهم وإفريقيهم عن اسيويهم.. فكان الجهد الأوروبي شرقيه وغربيه يتجه للإسراع في إنجاز الكيان الصهيوني على أرض فلسطين بإمداده بالعدة والعتاد بل وبالخبراء العسكريين وبالمال وسخروا لذلك المؤسسات الدولية التي بنوها في اعقاب الحرب العالمية الثانية.. وأدرك الغربيون أن النجاح في هذه المهمة يستدعي نشاطا دؤوبا على محاور المشروع الأخرى: تكريس التجزئة والتفرقة في الأمة وخلق مشكلات بينية فيما بينها، وفرض قوانين التغريب والتبعية عليها والسيطرة على ثرواتها.. هذا من جهة كما أن قوة الكيان الصهيوني تمنحه دورا سيكون ضروريا في إنجاح محاور المشروع الاستعماري الأخرى.. وهكذا أصبحت قضية فلسطين مركزية بالنسبة لقضايا لعرب جميعا والمسلمين قاطبة. على مدار قرن كانت المقاومة الفلسطينية للتحدي الغربي تلقائية لم تتوقف.. ومن ثورة إلى ثورة ومن مقاومة إلى مقاومة كان الفلسطينيون يبددون حجج الصهاينة وادعاءاتهم الدينية والايديولوجية فلم تكن فلسطين كما ادعوا أرضا بلا شعب لتصبح لشعب بلا أرض.. بل أثبت الفلسطينيون للعالم كله أن لهم مدن على الشواطئ جميلة وعواصم عتيقة ومعالم حضارة راسخة لم تكن لسواهم في ذلك الوقت.. ولقد كانت فلسطين إحدى الساحات المهمة في الأمة تعج بالصحف والمسارح والنشاط السياسي والثقافي.. فكانت المقاومة متعددة الأشكال ثقافيا وعسكريا وحراكا شعبيا هي الأسلوب المباشر والناصع في تصرف الفسطينيين تجاه الاستعمار البريطاني.. على طول الجغرافيا العربية كانت المعركة محتدمة فجاءت ساعة الصفر في الإعلان عن الكيان الصهيوني في مرحلة عربية هشة حيث كان العرب على المستوى السياسي في المشرق العربي يسيرون ضمن التوجه الاستعماري الأمر الذي دفع الجامعة العربية الى رفض اعتبار الهيئة العربية العليا الفلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني والتي سعت الى الاعتراف بها لتملأ شغور الوضع القانوني والإداري لحظة انسحاب بريطانيا.. وبعد أن تقدمت العصابات الصهيونية لاحتلال المواقع والقيام بمجازر رهيبة في يافا والرملة ودير ياسين وقبية وأكثر من مكان تحركت الجيوش العربية من سبع دول بجيوش ضعيفة محدودة العدد والعدة لتواجه جيشا مدربا وخبراء عسكريين باسلحة متطورة وبإمكانيات فائقة.. فكانت هزيمة الجيوش العربية عبارة عن تكريس لقيام "دولة إسرائيل" على أرض فلسطين وطرد معظم أهلها خارج فلسطين أوإلى غزة والضفة الغربية..فيما كان العرب في المغرب العربي يقبعون تحت نير الاستعمار الفرنسي مشلولين عن القيام بأي فعل مؤثر لايقاف سرقة فلسطين. كان الشعب الفلسطيني من ثورة البراق إلى ثورة القسام والإضراب الكبير والثورة الكبرى والهيئة العربية العليا وجيش الجهاد المقدس رغم كل ماسبق يوجه ضربات قاسية للاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية وكاد في بعض الأحيان أن يصل إلى ذروة الانتصار لولا تدخل الدول العربية. من العبث الحديث عن فلسطين في أي مرحلة من المراحل في غياب رؤية ماعليه الواقع العربي في تلك المرحلة.. فالحال في فلسطين هو انعكاس لضعف العرب أو قوتهم.. ومن هنا تأتي الجدلية التي تجعل فلسطين جوهر قضايا العرب ذات الصلة بكل قضاياهم ليس فقط على الصعيد الروحي بل وأيضا على الصعيد الاستراتيجي الامني والسياسي والاقتصادي.. لقد تكبل المشرق العربي في النصف الثاني من القرن العشرين بالدولة القطرية حتى وإن كانت شعاراتها قومية فهي أسوأ وصفة ابتليت بها أمتنا حيث بدأت الحسابات القطرية العاجزة والخطط القطرية الفاشلة في التنمية مما فرض على الدولة القطرية حالة التبعية والتي تدور حول عصبها ألا وهو التخلي عن أهم عناصر التكوين الحضاري للبلد وهو انتماؤه لأمة وهوية حضارية. لم يكن تشتت الفلسطينيين إلا باعثا جديدا لجمع عناصر القوة لانبعاث جديد بمقاومة جديدة بصيغ جديدة وإن كانت الخطورة قد ركبت أمواج التحدي الوجودي للشعب الفلسطيني.. وجد الفلسطينيون فرصة لفعل جديد عندما تمكنت الجزائر من كسر المعادلة وطردت الاستعمار وأبرزت القيم الثورية فكانت الجزائر بالنسبة للفلسطينيين أكثر من معين ومساند مادي وسياسي فلقد كان انتصار الجزائر بالنسبة للفلسطينيين قيمة معنوية مرجعية..وبحيوية فائقة أدرك الفلسطينيون أن ضمانة استمرار الوجود الاستعماري الاستيطاني في أرض فلسطين يستند إلى تكريس مقولة "أن فلسطين لا شعب لها ولا هوية حضارية خاصة بها.. هنا كان لابد من تثبيت الوجود بأنهم شعب له ثقافة وتاريخ وانتماء حضاري. دفع الفلسطينيون بعد انطلاق كفاحهم المعاصر 1965 باستمرار الفاتورة سريعا لكل تحوّل سياسي في المنطقة فعندما وافق النظام العربي على مشروع روجرز 1968 كان عليهم أن يدخلوا حمام الدم في الأردن.. وعندما حقق العرب انتصارا جزئيا في حرب أكتوبر 1973 كان عليهم أن يدفعوا الثمن في لبنان بحروب طائفية استهدفت وجودهم الإنساني والثوري.. وعندما انتصرت الثورة الايرانية 1979 التي كانت تربطها بالمقاومة الفلسطينية روابط صداقة قوية تدخل الغربيون ليصبح على الفلسطينيين أن يدفعوا الثمن الأوفر بإخراجهم من لبنان 1982 برضى وبمشاركة عربية رسمية. تقف مقاومة الفلسطينيين الآن على مفرق طرق التسوية أو التطور بكل انواعه.. ومن الواضح أن التسوية عادت عملا عقيما ضيع الوقت وبدد الطاقة وقدم غطاء موضوعيا للاستيطان.. أما المقاومة بأشكالها فهي ترغم العدو إلى العودة الى اسئلته الوجودية الأولى.. ورغم أن هناك اضطرابا في الآداء الفلسطيني لأسباب ذاتية وموضوعية إلا أن عناصر القوة جميعا متوفرة لإدارة مقاومة بحجم التحدي.. لقد وصل الفلسطينيون إلى استنتاجات حاسمة وخطيرة تجلت في وعي وإقدام أولئك الشباب الذين فجروا انتفاضة القدس.. وهي تنبئ بتنامي جيل جديد بميزات خاصة ووعي خاص ورؤية خاصة لطبيعة الصراع مفادها أن العمل الثوري الشامل والذي لا يقبل بالحلول الوسط مع الغاصب والمحتل هو السبيل الجديد أمام طلائع الشعب الفلسطيني. ووصل الكيان الصهيوني الى حالة هستيرية وهو يعيش أزمات حقيقية تتمثل في خوفه وإحساسه أن المستقبل يفتقد مبررات استمراره فهو قد فشل في إنشاء مجتمع كما فشل في جلب الآمان والسيطرة على العنف فيما يحاول تقديم الوهم بأنه يستفيد من ضعف بعض الدول القطرية وينشر في الإعلام أنه في حالة رضى وتنسيق معها بل وتحالفات ضد أخطار تهدّد وجوده .. الخطورة الآن على نهايات القرن تتجدد المحاولة الغربية لتبديد الثروة العربية والدولة العربية القطرية وزجها في معارك اثنية.. فلئن كانت الثورة العربية الكبرى في بدايات القرن هي مفتاح سايكس بيكو واغتصاب فلسطين فلقد أصبح الربيع العربي على نهاياته هو مفتاح بروز دول طائفية وعرقية وشطب الملف الفلسطيني..مع تغيرات موضوعية في المواضيع والأساليب. أجل إن عناصر التحدي الغربي لنا لازالت كما هي وإن كانت ترجماتها تتشكل بصور عديدة ومتطورة.. ومن هنا أصبح لزاما على النضال الفلسطيني أن يتجدد وأن تتجدد أطروحات العمل العربي انطلاقا من بؤر المقاومة والوعي والضمير الجمعي الذي لم يخدش.. والانتصار العظيم هو مجموع الانتصارات الصغيرة..تولانا الله برحمته.