وأنا أقرأ النص الشعري الموسوم ب”اعتراف” للشاعر الجزائري الطاهر مقرودي الطاهر، لاحت في ذهني عبارة المسرحي الفرنسي جان جنيه والتي يقول فيها: “يجب علينا أن نتعلم الإصغاء إلى ما لا يقال وما لا يمكن التعبير عنه”، فهذا النص عبر مستوياته المتعددة يقدم خطابا مغايرا بعكس ما يدعيه، ويروم زعزعة النسق الثقافي الشائع عبر تشكيلات لغوية تخفي أكثر مما تبدي، لذا سنحاول هنا البحث فيما لم يقله الخطاب الشعري والكشف عن المسكوت عنه، فأن تعرف شيئا كما يقول فاليري معناه أن لا تكون أنت إياه. العنوان: يكشف العنوان عن هوية مخبوءة، تحاول أن تطوف على سطح النص لتشكل وعيه المحايث، فهو نص مواز كما يذهب لذلك السيميائيون وقد اختاره الشاعر نكرة وكأنه يعلن عن لحظة التوتر التي يخلقها الاعتراف المبهم، أو أنه تأجيل يروم إسكات الفضول من خلال دعوته الصريحة إلى الدخول في عالم القصيدة... اعتراف من؟. ينفتح العنوان على تأويلات متعددة، فهو مبتدأ دون خبر ويكون الأخير إجابة يبحث عنها في ثنايا النص...ومن ثمة يترك الاعتراف مقرونا بلغة النص ومستوياته المختلفة،حيث يقبع السؤال حول طبيعة الاعتراف وصفته والجهة الموجهة لها.. النص”اللغة : يعلن النص عن ارتهانه للحظة البوح، حيث يتحول إلى مزيج من المتعالقات النفسية والاجتماعية والثقافية.. فتقاسيم المماثلة بين زمن الإبداع وزمن الحقيقة موجودة على طول النص المقرودي، ومعها تتحول اللغة إلى اعتراف،إلى انتفاء الأقنعة.. إلى احتفاء بهوية النص”المرأة،فمع هذه الثنائية يتم التأسيس لزمن التماثل المنبني على جملة خصائص ومعطيات أنطولوجية،ومعها رؤية تستمد حضورها من الواقع السوسيوثقافي ومرجعياته المختلفة. لا أملك قبلك موهبة فالحب قصيدة وجداني والشوق أول مدرسة قرأت للعالم عنواني لغة الاعتراف توضح مساراتها عبر زمن التماثل، من خلال الكشف عن كينونة الشعر.. إنه صوت المتعدد في شكل الواحد.. وكأنه ينزع نحو منحى صوفي متأملا في حقيقة الشعر.. اللغة اعتراف، ومن ثمة الشعر اعتراف يترصد لحظة اللامعقول ليتعالى بمنطقه عن المألوفية، وهذا ما يعلنه في نصه الموسوم ب “حبيبتي”،حينما قال: إذا ما التقيت بها أخبرتني بأسرارها ووجهها الملائكي ليقنعني أنها رمز القصائد يباغتنا النص بحقيقة مغايرة فالمرأة لم تعد صانعة اللغة،فالنص”اللغة هو الذي يحاول التأسيس براهنيته المتعددة ومستوياته المختلفة للمرأة”النص،إذ ما يقوله الخطاب الشعري المقرودي يعاكس المنظور المتوارث فيتحول الاعتراف إلى النص”المرأة أو اللغة”المرأة،ليكسر نمطية التصور المعهود والمألوف،وهنا مكمن الاعتراف إذ تغدو المرأة رمزا للغة أو رمزا لكل عالم إبداعي. يعيد النص المقرودي للغة مركزيتها والتي تقوم بصياغة المرأة وفق منظور يحاول التأسيس للبديل،أو يحاول الثورة على سلطة الرمز باختراق فاعليته وتطويع مسلماته ونمذجتها حسب ثنائية معكوسة اللغة”المرأة،ليصبح هم الشاعر لا المرأة كما النصوص التقليدية وإنما همه اللغة.. الهوية.. المعبرة عن اختراقات الذات الشاعرة وأملها في تغيير لعبة العالم الشعري وزلزلته بخلق عالم محايث لعالم الواقع،إنه عالم الإبداع الذي يعلن من خلاله تمرده على سلطة كل مألوف وثابت.. أو إعلان عن كسر زمن التماثل لتأسيس زمن الانفصال. لا أملك قبلك موهبة فالحب قصيدة وجداني يبدأ الشاعر نصه بفعل مضارع منفي يصرح بانتفاء الفعل أمام الذات الشاعرة،وبين أملك وقبلك تنفلت لحظة التحديد لتحدث مفارقة أو اختلالا زمنيا ،وكأن به أي الشاعر ينفي وجود المستقبل في زمن الماضي ،أو ينفي لحظة الإبداع التي تشكل هوية الشاعر حينما ترتبط بالقبلية التي تصبح مرادفة لزمن الموت:موت الحب أو موت اللغة ومن ثمة موت النص،فاللغة”النص منجز آني يمتثل للزمن الأنثوي الذي يكرس زمن القصيدة”زمن اللغة. حينما ننتقل إلى السطر الثاني نجد الشاعر قد استعمل جملة اسمية ألفاظها معرفة، فلفظة الحب معرفة بالألف واللام ولفظة قصيدة معرفة بالإضافة، عكس لفظة موهبة التي جاءت نكرة وكأن به يحول اللغة إلى سر ينتفي معه الاعتراف، في حين يتحول الوجد إلى فعل واضح بين ينساق للحظة البوح،فتتشكل رؤية مضادة في النص المقرودي لغة”كتمان، وجد” بوح مما يكسر المعيارية المعتمدة بخلق عوالم معاكسة لمنطق المسايرة الشعرية،حيث يتم الاحتفاظ باللغة في مقابل إهداء البوح،وفي ذلك تهديم للنسق المتعارف حينما كان يتم الاحتفاظ بالبوح والاعتراف في مقابل إهداء اللغة،التي تتحايل على النسق المهيمن والمرجعيات القبلية في إطار رمزي وإلا تحول معها الاعتراف إلى موت. يحاول الشاعر أن يقضي على سلطة النص التقليدي أو على تلك الرؤية النمطية المتوارثة لخلق نظرة مغايرة تفضح هذا النسق وتزعزع معياريته الثابتة. والشوق أول مدرسة قرأت للعالم عنواني ويتغير التشكيل اللغوي فبعد أن كان المقطع الأول مبتدئا بفعل في سطره الأول ليتحول إلى اسم في السطر الثاني،في المقطع الثاني يشكل رسما مختلفا أو صورة مضادة ،إذ يبدأ باسم في سطره الأول ليتحول إلى فعل في سطره الثاني،أي بعد أن كان الفعل قبل الاعتراف يعلن في المقطع الثاني عن زحزحة للمعطيات النفسية إذ يتم الاحتفاء بالاسم”الاعتراف وكأنه كينونة ثابتة تتموضع في إطار من التأصيل ،فيتم من خلالها الاعتراف بمركزيتها حيث تبدأ حركية الفعل ابتداء منها الفعل” القراءة ،ومن هنا يصبح الشوق مركز الحركة والتغيير الذي تنبني عليه كل التحولات الشعرية والنفسية أيضا. ما كنت لأعلم يا سيدتي إلى أن يقول: بأنني أحمل مقصلتي وأخيط لفائف أكفاني ثم يقول في شطر آخر: فكتبت إليك قصيدة شعر تحمل كل كلام الحب تحمل كل كلام الشوق.. تكثر الحركة الفعلية باتجاه المضارع مثل:أحمل أخيط أعرف أبحث.. تعبيرا عن ذلك الزمن المأمول زمن الحلم ،إذ الشاعر يحاول الخروج من لحظة الذاكرة ليحولها إلى معطى آني أو مستقبلي، ولا يتم استدعاء الماضي إلا من أجل تعزيز هذا الفعل الذي هو في طور التكوين:عرفتك وضعتك كتبت زرعت.. والتي في مجملها ذات منحى إنجازي توضح كيف أن الذات الشاعرة حاولت التشبث بلحظة التشكل”الهوية، فالنص او اللغة”المراة هي تعبير صريح عن هوية وانتماء للحظة الماضي”التراث،والتي تلوح بمحمولات أيديولوجية وتعبر عن خلفيات ومرجعيات قبلية،تحاول الحفاظ على وجودها المستقبلي بين طيات هذا النص فترفض ممارسة الغياب.وما يؤيد ذلك هو إنهاء الشاعر قصيدته بهذه الحركة المستقبلية: لأبحث عن صدر يأويني عن قلب يرعاني يكثر الشاعر من تقديم الإضافات: لفائف أكفاني وجود الإنسان كلام الحب.. في دلالة واضحة عن هاجسه بالتغيير اللغوي والإضافات الإبداعية،حيث يحاول تقديم رؤية شعرية تجعل من اللغة وجودا وحضورا تمارس انتهاكاتها في حضرة الغياب الموضعي، لتعاود الظهور من جديد في تحد لإظهار مركزيتها،أو توضيح أن كل ما عبرت عنه هي من منجزاتها الفعلية ومن صنعها، من ثمة تسير اللغة نحو تشكيل النص”المرأة لا العكس. لا أريد أن أستنفذ كل ما يقوله النص المقرودي، إذ هو ينفتح على المتعدد،وهذا ما يؤكد أصالة كونه الشعري،والذي كان شكله اللغوي غني ببساطته،وكل ما لحظناه أو ما وصلنا إليه هو تغليب تيمة النص”المرأة أو اللغة”المرأة ،إذ النص الشعري هو احتفاء باللغة ومركزيتها لا كما يظهره هذا الخطاب ويحاول ترويجه من خلال دلالته الواضحة حول مركزية الأنثى،ومن ثمة تصبح اللغة موجودا استثنائيا يصوغ سؤال الهوية المفتعلة لا المتوارثة،وتصبح المرأة أيضا فعلا لغويا يحاول تهديم النظرة القبلية واختراقها. إن هاجس الشاعر هو اللغة”الهوية لا المرأة ،وقد استطاع أن يخفي تحت خطابه الملتبس بفعل الإبداع هذه الرؤية،وهذا يدل على ثراء وأصالة ونضج تجربته الشعرية. الاستاذة : غزلان هاشمي المركز الجامعي سوق أهراس