هل من مغيث؟ هل من صاحب قلب حنون؟ هل من معين؟ كلمات لطالما سمعناها من أفواه المتسولين على طرقاتنا، أسواقنا، أمام مساجدنا ولكن هناك وقفة خاصة مع اقتراب شهر رمضان المبارك، حيث تكثر وتنتشر بشكل خيالي تحت مصطلح ''التسول''. هذه الظاهرة ونحن من يغذيها يوما بعد يوم، لا أبالغ إذا قلت بأنه لا يمضي علي يوم دون أن يستوقفني هؤلاء المتسولون بعباراتهم المنمقة، خاصة قرب مداخل المساجد والبريد المركزي ومواقف السيارات أيضا، حيث يحترف البعض مهنة التسول من أصحاب السيارات ويستغلون بذلك توقيت إخراجهم النقود من جيوبهم ليسهل عليهم الإغداق عليهم. أليس منا من لا يجد لقمة عيش يسكت بها جوع أبنائه؟ بلى هم موجودون، ولكن لا أحد له علم بهم.. لماذا؟ لأن المتسولين غطوا عليهم وصاروا كمن يجني المال بلا تعب ويكدس أموالا طائلة من التسول. استوقفت أحد زملائي اليوم بعد مشاهدتي له وهو يرمي المال لأحد المتسولون فسألته لما فعلت ذلك، كان رده نفس رد غيره ممن سألته قبله حين قال ''دير النية''، بأن هذا مسكين وأنت في نيتك التصدق ولك الأجر على ذلك، ولكن ألم يعلم هذا بأنه بذاك المبلغ قد ساهم بشكل أو بآخر في تفاقم ظاهره مشينة في مجتمعنا المعاصر، أعلم أن منكم من سيقول بأن بعض المتسولين هم فعلا محتاجين، ولكن في الحقيقة أن جل من يتسولون، تذهب أموالهم التي جمعوها من الناس، في شراء الخمر وما إلى ذلك أو ربما يرجع مردودها لشركات متخصصة في جمع الربح من هذه الأعمال. وبإجماع من كل المواطنين، فقد أصبحت ظاهرة التسول مقلقة مع قرب الشهر الفضيل، حيث مست كل المناطق الحضرية والريفية، عبر ربوع الوطن والعاصمة الجزائر على وجه الخصوص إذا وأنت تتجول تصطدم بأعداد هائلة من المتسولين الذين ينتشرون في كل مكان، في الشوارع الرئيسية والأزقة، في الحدائق والساحات العمومية، عند إشارات المرور وفي مفترقات الطرق، وبوسط طريق المدينة عند ازدحام السيارات، في الأسواق الشعبية والمقاهي، في مواقف السيارات ومحطات المسافرين، وحتى أمام مراكز البريد والبنوك، وعند أبواب المقابر. في كل هذه الأماكن، يستوقفك متسولون من الجنسين، ومن مختلف الفئات العمرية، أطفال، نساء، رجال وشيوخ وعجائز، وحتى الفتيات الشابات أصبحن يمتهن هذه المهنة بكثرة، والعديد منهن يعملن بالتنسيق مع شباب منحرفين يضمنون لهن الحماية نظير مقابل مادي أو جنسي يتغير حسب الحاجة، ولاسيما عندما يكون التسول في الفترة الليلية. وما يلفت الانتباه أن النساء والأطفال هم الفئة الأكثر ممارسة لهذا النشاط، حيث يغتنمون فترة شهر الرحمة الذي يكثر فيه معظم المواطنين من العبادات بكل أنواعها بما فيها الصدقة. التسول ''ظاهرة'' تنتعش في المناسبات الدينية ''لله يا محسنين'' جملة ضمن قاموس معروف، تتردد مفرداته على مسامعنا كثيراً في الطرقات والميادين، كما تتردد بصفة خاصة أمام ''المساجد'' وتزداد في ''المناسبات الدينية'' كيوم الجمعة، طوال شهر رمضان، وفي عيدي الفطر والأضحى ... الخ، إنه ''قاموس التسول''، هذه الظاهرة المخزية المنتشرة المزعجة للغاية، خاصة في هذه الأيام الأخيرة لشهر شعبان وحلول شهر رمضان. والأكثر إزعاجا هو استغلال هؤلاء المتسولين للدين في التأثير على الناس، خاصة في المناسبات الدينية مثل رمضان، حيث التعبد وحرص المسلمين على التقرب إلى الله، وبسط أيديهم في الصدقات، خاصة أن نهاية شهر رمضان تتزامن مع إخراج زكاة الفطر، فضلاً عن حرص الكثير من الأغنياء على إخراج زكاتهم ''الفريضة'' قبيل نهاية شهر رمضان، ومن يتصدقون حتى في النصف الأخير لشعبان. وفي محاولة منهم لامتلاك أدوات التأثير المطلوبة، لربط حالهم بمقتضيات الشهر الكريم من التعاطف والتراحم، يحفظ المتسولون بعض آيات القرآن والأحاديث المحرضة على التصدق والإنفاق في سبيل الله، فضلا عن الأدعية التي يكررونها لاستجلاب عطف الناس. وربما ارتدت الظاهرة ملابس ظاهرها التدين والحشمة كالحجاب أو النقاب، وقد يطلق أحدهم لحيته، فيؤثرون بأدائهم الدرامي على المواطنين العاصميين، ويأخذون أموال الصدقات والزكاة بالباطل، حيث يدعي عدد غير قليل منهم الفقر والحاجة، وهنا يأتي دور المسلم في اختيار من يعطهم الصدقات وأموال الزكاة، لكي يحسن استثمارها في دعم فقراء المسلمين المتعففين. وفي الحقيقة لا أستطيع فهم كيف يقبل مثل هؤلاء الأشخاص إذلال أنفسهم بهذه الطريقة، فمع تعرضهم لكثير من الرفض، إلا أنهم ما زالوا مستمرين في طريقتهم لكسب المال، ربما سبب استمرار وجود مثل هؤلاء الأشخاص، هو وجود فئة من الناس تشفق على مثل هؤلاء وتعطيهم بعضا من المال. ونحن نتجول بالأسواق الشعبية بالعاصمة على غرار كلوزال، مارشي 12 ؛ عين البنيان، الشراڤة مرورا ببعض المساجد الكبرى، كمسجد ''الرحمة'' ببلدية الجزائر الوسطى ومسجد ''الكبير'' بساحة الشهداء، '' النور'' بطاڤارا و''الأرقم '' شوفالي، ما شد انتباهنا خلال جولتنا الميدانية أن هذه الأخيرة مكتظة عن آخرها بالمتسولين باعتبارها من أكبر المساجد بالعاصمة، ويتوافد عليها عدد هائل من المصلين من مختلف أحياء المدينة، وحتى من المناطق المجاورة، حتى أنها أضحت نقطة التمركز لديهم، وهذا منذ الصباح حتى نهاية صلاة العشاء. إلى جانب ذلك يستهدف المتسولون أيضا الأسواق الشعبية، لكونها الأماكن التي يكثر عليها إقبال وتوافد المواطنين. يبدعون في فنيات التسول للتأثير على المحسنين ما اكتشفناه خلال جولتنا الاستطلاعية التي قادتنا إلى مختلف شوارع وأحياء العاصمة، هو أن المتسولين أصبحوا يبدعون في ابتكار فنيات وتقنيات التسول، قصد التأثير في نفوس المارة والظفر ولو بقطعة نقدية، فمعظمهم يستخدم عبارات دينية تدعو للمارة بصيام مقبول وبشهر كريم، وبالخير والرحمة، ومنهم من يعتمد وضع وصفات طبية وعلب الأدوية أمامهم، وتحمل النساء معهن أطفالا حديثي الولادة، وآخرين يبدون عاهاتهم وإعاقاتهم الجسدية، وكل هذه الفنيات ترافقها ملامح حزينة وعبارات مؤثرة يجذب المتسولون من خلالها انتباه المارة ويثيرون شفقتهم. ''الحوار'' اقتربت من بعض النسوة المتسولات مع أطفالهن، لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت بهن للوصول إلى التسول، فأجمعن في شهاداتهن على أن الفقر يبقى أهم الأسباب التي تدفعهن إلى امتهان التسول، كونهن يعجزن خلال هذا الشهر، عن تلبية حاجيات عائلاتهن من متطلبات مختلف المواد الغذائية، كما أكدن على أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المرفقة بارتفاع القدرة الشرائية التي يعيشونها بمنازلهن، أجبرتهن على الخروج مع أطفالهن للتسول قبيل حلول الشهر الكريم، حيث يعجزن حسبهن عن اقتناء أبسط حاجياتهن خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمواد الغذائية الأساسية كالخضر والفواكه. وفي هذا الصدد، قالت لنا متسولة أرملة وأم لثلاثة أطفال: ''أنا فقيرة ولا أجد خيارا آخر غير التسول، للحصول على المال والإنفاق على أطفالي، خصوصا مع حلول الشهر الفضيل، أعجز عن اقتناء أبسط المواد الغذائية''. كما أشارت المتسولة وهي في مقام جدة، لدى استفسارنا عن سبب تسولها في هذا العمر بالذات، فأجابتنا ''أتسول لأجل تلبية طلبات ابنتي الأرملة وأطفالها الأربعة الذين يعيشون معها تحت سقف واحد''، وهو ما يعني أن المشاكل العائلية كالطلاق والتعرض لسوء المعاملة، سبب رئيسي لخروج النسوة وفلذات أكبادهن إلى التسول في الشوارع وما شابه ذلك. والى جانب ذلك كشف لنا بعض التجار أن بعض المتسولين خاصة منهن النسوة، يمتهنون هذه الحرفة نتيجة تعودهم عليها خاصة في المناسبات الدينية على غرار شهر رمضان، كما يحضر متسولون آخرون من مختلف المناطق الأخرى والبلديات المجاورة للتسول، نظرا لغياب السلطات المعنية وعدن تحركها. يصعب التمييز بين المحتاج والمحتال هذه الأيام بعد اقترابنا من بعض المواطنين لرصد آرائهم حول استفحال ظاهرة التسول بالأسواق الشعبية والمساجد وحتى الأماكن العمومية إيذانا بحلول رمضان الكريم تضاربت الآراء، فالبعض يرى أن هناك متسولين بحاجة ماسة للمساعدة المادية نظرا لظروفهم الاجتماعية والاقتصادية المزرية، خصوصا في هذا الشهر الكريم، حيث تشهد كل أنواع المواد الغذائية ارتفاعا محسوسا، بينما أشار البعض الآخر إلى أن معظم هؤلاء المتسولين معروفون فهم ليسوا بحاجة لمد أيديهم للتسول، واعتادوا التسول وهم يعتمدون تقنيات معروفة في مجال الخداع والاحتيال. وأشار العديد من المواطنين إلى أنه في ظل هذا العدد الهائل من المتسولين، أصبح من الصعب التمييز بين المتسول المحتاج والمتسول المحتال، مما يدفع بالعديد من المواطنين إلى الامتناع عن دفع صدقة. وفي هذا الصدد، يقول عمي علي ذو 65 سنة، إنه يشاهد إقبالا كبيرا للمتسولين، منهم من هم بحاجة للمساعدة ومنهم العكس، وهذا التزايد الكبير والمقلق، يصعب من عملية التمييز بين المتسول المحتاج والمحتال، مما يجعل المواطن يتردد في تقديم الصدقة، وهو نفس الكلام الذي شاطره فيه السيد عبد القادر ذو 45 سنة قائلا: ''أنا بصراحة أقدم الصدقة للمتسولين المعاقين فقط أو الذين أعرفهم من العائلات الفقيرة، لأن هناك الكثير من المتسولين المحتالين''. سؤال طرحه العديد من المواطنين الذين تحدثنا إليهم، حيث حملوا مسؤولية استفحال ظاهرة التسول للسلطات المحلية التي لم تتكفل بفئة المتسولين الحقيقيين، ولم تقدم لهم المساعدات التي من شأنها التقليل من الظاهرة، كما حملوا السلطات الأمنية، كذلك، مسؤولية تفاقم الأوضاع كونها لم تقم بواجبها، ولم تتدخل ميدانيا. وحسب سبر آراء في أوساط المواطنين، فإن المتسولين وجدوا الساحة فارغة مما سهل عليهم مهمة ممارسة نشاطهم بكل حرية، وحتى ممارسة تجاوزات خطيرة في حق المواطنين والمارة.