احتفل الشعب الجزائري أمس الثلاثاء بالذكرى 49 لعيد الاستقلال والشباب ، وكانت المناسبة سانحة لاستحضار مآثر الثورة وانجازات المجاهدين ، وترحم الجميع على أرواح الشهداء التي مضت الى ربها راضية مرضية عن أداء واجب الجهاد في سبيل ما يستحق مقام الشهادة . فهل حققت الجزائر كامل مكاسب الاستقلال ؟ وماذا أضافت 49 سنة من عمر الاستقلال لتاريخ البلاد ما بعد الاستعمار ؟ فكرة الاستعمار تتمدد تحررت شعوب كثيرة من نير الاستعمار، لأن بعضها قاوم الاحتلال بذهنية التحرر والاستقلال السياسي، وبعضها استفاد من الشرعية الدولية في إطار القرار الأممي الشهير 1514 العام 1960 القاضي بتصفية الاستعمار، ولكن لا ذهنية التحررالسياسي ولا القرار الأممي تمكنا من مقاومة الامتداد الاستعماري في حقول الثقافة واللغة والسلوك الاجتماعي والوعي النخبوي، وسرعان ما كشفت مرحلة الاستقلال لكثير من الدول ? ومنها الجزائر - عن عدم اكتمال منظومة التحرر من التبعية للمستعمر سواء تعلق الأمر بالقرار الثقافي أو القرار الاقتصادي، وتحولت لغة المستعمر من اللغة التقنية أسوة ببقية اللغات إلى أداة للتواصل الاداري والاقتصادي والنخبوي وحتى العلمي مما أثر سلبا على اتجاهات التقدم وأفرغ التنمية من جزء مهم من مدلولها الاجتماعي، وحول الدولة المستقلة الى دولة محتلة ثقافيا ولغويا، في حين أن وضعيتها كدولة مستقلة لا تمكنها من جني مكاسب التقدم لدى الدول المحتلة لها تاريخيا، وبالتالي وقعت جل الدول المتحررة حديثا في فخ التبعية الثقافية واللغوية الذي حرمها من مزايا الاستقلال كوضع بإمكانه أن يحرك الامكانات الاجتماعية الكامنة في ثقافة المجتمع وفي لغته أيضا . وفي الجزائر المستقلة بعد صدور القرار الأممي 1514 الخاص بتصفية الاستعمار تم وقف العمل بقانون يفرض على الادارة استعمال اللغة الوطنية بدل لغة الدولة المحتلة تاريخيا دون أن تتمكن الفئة التي قادت عمليات التحرر السياسي من مقاومة ذلك . ولهذا ظلت مكاسب الاستقلال الذي نحتفل اليوم بذكراه ال49 مقيدة بحالة التخلف حتى عن وضعية فرنسا نفسها ، وهاهي مؤشرات التنمية تبتعد تدريجيا عن معايير التحرر عندما يتعلق الأمر بتطبيق سياسات مستقلة وذات جدوى وبإمكانها ابتكار نموذج وطني في ادارة التعليم والثقافة والاقتصاد والاعلام وفي الادارة والديبلوماسية والعلاقات التجارية الخارجية . حقيقة، نحتاج اليوم الى التحرر من فكرة الاستعمار نفسها أي من بقايا الممارسة الاستعمارية التي استغرقت قرنا ونصف القرن وذلك باستكمال التحرر تحت غطاء تمكين البلاد من تقرير مصيرها بشكل كامل أي دعم فكرة الاستقلال بفكرة التحرر من بقايا الاستعمار وحينها فقط يتحقق شرط التنمية والتقدم، مادام هذا الأخير يحمل مدلولا اجتماعيا ومعنويا، فضلا عن مدلوله التقني والمادي. الاستعمار المتبقي يقاوم فكرة الاستقلال مرّت 49 سنة على تصفية الاستعمار السياسي والعسكري الفرنسي لجزائرنا الحبيبة دون أن نتمكن من التخلص نهائيا من فكرة "الاستعمار"، حيث رحلت الجيوش وبقيت الفكرة تقتات من الأوضاع التاريخية التي صاحبت عمليات الاستقلال ومن تلك الأوضاع التبعية لباريس على صعيد الأسواق والتجارة ، تكوين النخب، مستوى الوعي، الثقافة والاعلام واللغة. وهكذا انضمّت البلاد الى "الفرانكفونية" وأسلمت أسواقها للشركات الفرنسية وإدارتها للتشريع الفرنسي ولولا بقية من مقاومة ثقافية وفكرية لتحولت إلى قاعدة خلفية للدولة الفرنسية المحتلة ، تماما مثل ما وقع للدول المحتلة بريطانيا والتي انضمت الى محفل "الكومنولث" وشكلت امتدادا للفكرة الانجليزية فيما له علاقة بالاستثمار وتأسيس الشركات والتبادل التجاري والتشريع. وربما حققت باريس إبان مرحلة استقلال الجزائر منفعة تفوق تلك التي حققتها أثناء الاحتلال مما يفسر سرعة النمو في قطاعات الصناعة والتجارة وميزة التفوق في تراكم رأس المال لديها عندما استسلمت السوق الجزائرية لميزة "التبادل غير المتكافئ" مع فرنسا منذ السنوات الأولى للاستقلال مما دفع بالرئيس الراحل هواري بومدين الى اعتلاء منبر الأممالمتحدة العام 1975 للدعوة الى نظام تجاري دولي أكثر عدلا ولكن لم يبتكر الخطاب السياسي آنذاك فكرة جيدة لتمتين الاقتصاد الوطني على سلم الاستقلالية فذهب شعار التبادل المتكافئ مع ذهاب الرئيس الراحل الى ربه . لقد تولد عن استقلال الجزائر بالنسبة لفرنسا في مجال النمو نشوء سوق جديدة لم تكن معروفة من قبل لفرنسا نفسها هي سوق الدولة المستقلة المناسبة لأوضاع النمو ولكنها في نفس الوقت مرتبطة بالسوق الرأسمالية عبر بوابة التصدير والاستيراد والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وعبر بوابة الثقافة على أساس اللغة وتكوين النخب. والمشهد بعد 49 عاما عن الاستقلال يحكي لنا ما يلي : تبعية مطلقة وتراجع مستمر تحتل فرنسا الرتبة الأولى في تموين السوق الجزائرية بالكتاب بنسبة 70 بالمائة وبمبلغ وصل العام 2010 الى 20 مليون أورو. تحتل فرنسا الرتبة الأولى في تموين السوق الجزائرية بالقمح الصلب بنسبة 96 بالمائة خلال السداسي الأول من العام الجاري 2011 وبمبلغ لامس 314 مليون دولار. تسيطر فرنسا على نصف مشاريع الشراكة الجزائرية مع الاتحاد الأوربي بحجم 121 مشروع . تسيطر فرنسا وحدها على 20 بالمائة من مشاريع الشراكة الأجنبية مع العالم الخارجي ولكنها مشاريع مرتبطة بقطاع الطاقة بنسبة تصل الى 60 بالمائة . تحتل فرنسا الرتبة الأولى في قائمة مموني السوق الجزائرية بنسبة 16 بالمائة ، وتستورد الجزائر حاليا 45 مادة غذائية بقيمة 6 مليار دولار ، و34 مليار دولار قيمة الواردات غير الغذائية وتشمل كل السلع والخدمات عدا النفط الخام والغاز وبعض المعادن ، ولكن على سلم تحويل العملة الصعبة الى الداخل الجزائري تتراجع فرنسا للرتبة الخامسة ، مما يجع الفائض التجاري للصالح الفرنسي . منذ 2002 زادت الواردات الجزائرية من فرنسا بنسبة 238 بالمائة بينما لم تزد الصادرات الجزائرية الى فرنسا إلا بنسبة 90 بالمائة . تسيطر فرنسا على سوق السيارات في الجزائر التي تحصي 70 وكيلا للتوزيع سوقوا في الثلاثي الأول من العام 2011 ، 62771 سيارة بقيمة 800 مليون أورو . تسيطر فرنسا وحدها على 15 بالمائة من سوق الملابس والأحذية المستعملة الشيفون في الجزائر . وبسبب تبعية الجزائرلفرنسا في الادارة واللغة والتشريعات ، وبعد 49 عاما من عمر الاستقلال لا تنتج بلادنا سيارة واحدة ، وتستورد كل شيء مصنوع من الآلات الضخمة حتى دمى الأطفال والمسامير وشرائح الهواتف النقالة والسمك المجمد وزيوت المحركات وبعض الفواكه ، حتى ارتفعت وارداتنا من الخارج من 12 مليار دولار الى 40 مليار دولار في 20 سنة ، وهي نفسها الفترة التي تقلص فيها عدد المصدرين الجزائريين من 280 مصدر الى 40 مصدر ، وتراجع نصيب الصناعة في الناتج الوطني المحلي من 25 بالمائة الى 5 بالمائة ، وتراجع نصيب الفلاحة من 30 بالمائة الى 8 بالمائة ، وتراجع ترتيب الجزائر في كل مؤشرات التنمية بدون استثناء الى المراتب الدنيا ، وعشية ذكرى الاستقلال هذا العام أعلن عن مرتبة الجزائر على سلم الابتكار لتحتل المرتبة الأخيرة في قائمة تضم جل دول العالم . فمن قال إذن أن الاستقلال يعني حقا الاستقلال؟