لما إنطلقت شرارة ما يسمى بالثورات العربية في تونس ثم مصر وأطاحت برئيسهما، لم يكن أحد يتوقع أن يمتد لهيبها الى دولة من دول الخليج العربي الثرية، لكن اللامعقول أصبح معقولا في زمن »ويكيليكس« والاعلام الالكتروني، الذي لا يعرف حدودا أومحظورا، واهتز ميدان اللؤلؤة بقلب البحرين منتصف مارس الماضي في وجه النظام الذي تجسده أسرة آل خليفة الحاكمة، يلومها على سياستها الاقصائية للجزء الأعّم من الشعب ويطالبها بإصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية وليس مجّرد إجراءات استعراضية لم يلمس البحرينيون نتائجها رغم مرور عقد كامل منذ إعلان المسار الاصلاحي عام 2001. على خطى الربيع العربي في تونس ومصر ورغم أن الشارع البحريني استلهم انتفاضته مما يجري في الشوارع العربية الثائرة، إلا أن دوافع اهتزازه وإن كانت تتقاطع في مجملها مع أسباب اهتزاز الشارع التونسي ثم المصري وبعدهما الليبي واليمني والسوري، فإنها بالمقابل كانت تحمل بعض التميز والخصوصية على اعتبار أن الإحتجاجات البحرينية كانت مدفوعة بعامل طائفي حساس وخطير ومثير للفتنة والإنقسام الداخلي، إذ كانت وراءها الطائفة الشيعية، إذ تمثل الأغلبية السكانية التي انتفضت للتعبير عن رفضها لسياسة الإقصاء التي تتعرض لها كما يقال ممثلوها من طرف الأقلية السنية الحاكمة، ولمواجهة أيضا قانون التجنيس الذي باشرت بموجبه سلطات المنامة منح الجنسية لرعايا أجانب من السنة حتى تقضي على الغلبة التي يتمتع بها الشيعة. لماذا اهتز ميدان اللؤلؤة..؟ من صور تميز انتفاضة الشارع البحريني عن انتفاضة باقي الشوارع العربية، أن المعارضة التي تقودها جمعية الوفاق الوطني الشيعية لم تدعو وهي معتمصة بميدان اللؤلؤة الى الإطاحة بالأسرة الحاكمة وإنما طالبت بإصلاحات تقود الى برلمان منتخب لديه صلاحيات كاملة وحكومة منتخبة وقضاء نزيه مستقل وأصّرت على إجهاض ما سمته مشروع تغيير التركيبة السكانية من خلال اصرارها على وقف تجنيس الأجانب السّنة والذي رأت بأنه يهدف الى »السطو« على الأغلبية المذهبية التي تتمتع بها وتمنحها الحق لو تم تطبيق الأسس الديمقراطية الحقة في اكتساح البرلمان، ومن ثم تولي تشكيل وقيادة الحكومة التي يستأثر برئاستها عمّ الملك منذ أكثر من 35 عاما والذي طالب المحتجون بتنحيته. ومثل الأنظمة العربية التي تحركت الرمال من تحتها، اختار النظام البحريني هو الآخر المواجهة الأمنية الحاسمة واجهاض الحركة الاحتجاجية في مهدها قبل أن تتفاقم الأوضاع وتتحول المطالبة بالاصلاح الى المطالبة بالتغيير وإسقاط النظام وبررت القيادة الحاكمة خيار القبضة الحديدية لتفريق المعتصمين، بكون الحركة الاحتجاجية ما هي في الأساس غير مؤامرة نسجت خيوطها إيران لزعزعة استقرار البحرين كمقدمة لنسف الأمن في دول الخليج العربي.. لكن الخيار الأمني زجّ بالوضع في البحرين الى منزلق خطير وشهدت المملكة أجواء رعب “حقيقية” خاصة بعد أن تحول السلاح الى لغة بين الطرفين وبدأ الضحايا يتساقطون والإدانات الدولية تتهاطل.. « درع الجزيرة” يُخمد “ الثورة” توسعت رقعة التوتر في البحرين وعجزت السلطات هناك عن مواجهتها لمحدودية خبرتها وقدراتها الأمنية. الأمر الذي جعلها تعلن حالة الطوارئ وتستنجد بقوات »درع الجزيرة« فأرسلت السعودية ألف جندي والامارات 500 ضابط شرطة للمساعدة في إستعادة الهدوء واستتباب الأمن وقد ساعد هذا التدخل العسكري الذي يدخل في نطاق المعاهدات الأمنية المبرمة بين دول الخليج العربي على تهدئة الأوضاع بالبحرين ومكن السلطات هناك من إحكام قبضتها وسيطرتها على مختلف أرجاء البلاد، ومن ثم اعتقال من قضت بوقوفهم وراء الفتنة التي كادت تعصف بهذه الدولة الخليجية الهادئة.. كما نصبت محاكم عسكرية لمحاكمتهم وأصدرت أحكاما قاسية في حق الكثير منهم وصلت حدّ الاعدام.. إجراءات حلحلة الأزمة غير مبالية بالإدانات الصادرة من هنا وهناك على حملة الإعتقالات والمحاكمات العسكرية والأحكام القاسية الصادرة في حق المعارضة الشيعية، عقدت البحرين العزم على حلحلة الأزمة وتسويتها بشكل يرضي جميع الأطراف، فأعلنت تفهمها لبعض المطالب المشروعة للمنتفضين وقررت إطلاق حوار وطني في جويلية الماضي قصد وضع قطار الاصلاحات على السكة، وقد قبلت جمعية الوفاق الوطني المعارضة المشاركة جزئيا في هذا الحوار الذي ستشكل نتائجه مشروع قرار أمام البرلمان الجديد الذي تم انتخابه بداية هذا الشهر. ورغم جدية الاجراءات التي عرضتها السلطة والنوايا الحسنة التي أبدتها لتجاوز هذا الامتحان بأقل الخسائر، فان جمعية الوفاق الوطني وبدل أن تستغل الفرصة لتدخل البرلمان بقوة وتنتزع السلطة التنفيذية كونها تشكل الأغلبية، فإنها رفضت المشاركة في الانتخابات التشريعية الجزئية التي جرت قبل أيام لانتخاب 18 نائبا من مجموع نواب البرلمان الأربعين، بدلا عن ممثليها الذين إستقالوا إحتجاجا على ما أسموه قمع حركتهم الاحتجاجية في الربيع الماضي. المعارضة وسياسة الكرسي الشاغر لقد قررت المعارضة البقاء خارج الاطار الرسمي لأول مرة منذ بداية الاصلاحات عام 2001 وتركت المؤسسة التشريعية ملعبا شاغرا لنواب يمثلون توجه السلطة ويدورون في فلكها ويبدو جليا بأنها مثلما أخفقت في الذهاب بعيدا بحركتها الاحتجاجية، فإنها فشلت في استغلال الوضع لصالحها وسياسة الكرسي الشاغر التي تبنتها سوف لن تقودها الى تحقيق طموحاتها السياسية المشروعة. ومع غياب المعارضة التي اختارت المقاطعة السياسية، فإن التساؤلات تبقى مطروحة عن قدرة البرلمان الجديد ذو اللون الواحد على إقرار الاصلاحات التي تقود الى اخراج البحرين الى برّ الأمان والتي تطالب بها الأغلبية الشعبية الشيعية إذ تعتبر نفسها مغبونة مجردة من حقوقها في عقر دارها. الفضائيات تُنقذ البحرين لا يمكن لأحد مهما كان توجهه أن ينكر تحول أكبر الفضائيات العربية وأكثرها تأثيرا الى ترسانة اعلامية. استأثرت ولازالت بالدّور الكبير في إثارة الاحتجاجات التي تشهدها دول عربية بعينها، وساهمت بشكل أكبر في إسقاط بعض الزعامات الحاكمة، وهي “تقصف” بأخبارها الموجهة والبعيدة كل البعد عن الموضوعية والنزاهة حسب الكثير من خبراء الاعلام، أنظمة أخرى قصد قطف رؤوسها. ولا يمكن أن نجانب الصواب لو جزمنا بأن هذه الفضائيات التي يعتريها البعض مكلفة بمهمة، هي التي أججت ما تسميها الثورات العربية وهي التي أنجحت بعضها ولازالت تعمل دون كلل أوملل لإنجاح الباقي منها ربما لإشعال أخرى، وذلك بفضل التأثيرالكبير للإعلام الذي حل في عصرنا محل السلاح، لكن المثير للغرابة أن هذه الفضائيات أدارت ظهرها لأزمة البحرين التي يبدو بأنها تفاجأت باشتعالها ولم تعمل على تأجيجها وصبّ الزيت عليها كما تفعل مع الأزمات الأخرى خاصة السورية منها، وهذا التجاهل المقصود ورفض تبني حركة المحتجين هو الذي أفشل انتفاضة اللؤلؤة ومكن السلطات البحرينية من تجاوز محنة نرى صورها السوداء في سوريا وليبيا واليمن ونتائجها المأساوية في مصر وتونس. وإذا كنا نحمد اللّه على تمكن البحرين من تجاوز أزمتها بأقل الخسائر، فإننا نعتقد بأن الطريق سوف لن تكون مفروشة بالورود. فأمامها الكثير من العمل لإقرار الاصلاحات الموعودة والمطلوبة، وأمامها أيضا جهدا أكبر لإستمالة المعارضة حتى لا تسقط في أحضان المرجعيات المتشددة أو أولئك الذين يتآمرون على أمن البحرين واستقرارها.