لقد أثارت مسألة دفن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الكثير من الجدل بين من حَكَمَ بدفنه في قبر مجهول على اعتباره طاغية والطغاة كما قال هؤلاء يجب أن لا تعرف قبورهم حتى لا تتحول إلى مزار لمؤيديهم ومريديهم. وبين من أفتى بإلقائه في البحر ليكون وجبة للقرش كما حصل لزعيم القاعدة أسامة بن لادن. في الواقع لقد استغرب الكثير منا هذا الجدل لإيماننا بأن الإسلام يوصي بإكرام الميت والاسراع بدفنه دون تمييز إن كان هذا الميت صنع جميلا في دنياه أو صنع قبيحا، لكن يبدو بأن الشعب الليبي الذي أصدر حكم الإعدام على القذافي منذ أن أثار عليه الربيع الماضي واقتص منه شر قصاص، أراد من خلال اصراره على دفنه في قبر مجهول أو إلقائه في البحر، إلغاء وجوده، حيا وميتا من جهة، وحتى لا يتحول مرقده من جهة أخرى إلى ضريح ومزار لأبناء قبيلته ومقربيه ومؤيديه، مثلما يحصل مع قبر الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي تحول بالفعل إلى مزار يقصده الكثير من العراقيين، يقرأون عليه الفاتحة ويتحسروا على أيامه وعلى ما آل إليه حال بلاد الرافدين من بعده. صدام ... القبر المزار نتذكر جميعا لما وقف القذافي يحذر نظرائه اصحاب الجلالة والفخامة في إحدى القمم العربية من أن الدور آت إليهم بعد إعدام صدام، دون أن يدري »المسكين« بأنه سيكون التالي وبأنه سيشاركه ذات المصير والنهاية الدراماتيكية مع اختلاف في بعض الجزئيات والتفاصيل. إذ احتل الامريكان العراق واسقطوا النظام، وطاردوا صدام إلى أن عثروا عليه في حفرة ليسجن ويحاكم ويعدم في 30 ديسمبر 2006 صبيحة عيد الأضحى. أما بالنسبة للقذافي فسقوطه تم بثورة داخلية مدعمة بسلاح الناتو، الذي يبدو جليا بأنه من أمسك به ليسلمه إلى ثوار مصراتة، الذين وبدل أن يقدموه للعدالة، فضلوا القصاص منه بأنفسهم، وذاقوه شر ميتة.. وإذا كانت مسألة دفن صدام لم تثر أي جدل، حيث سلمت جثته لأهله وعشيرته لتوارى الثرى بمسقط رأسه في العوجة، فإن دفن القذافي تحولت إلى قضية شائكة بعد أن تضاربت الآراء بين من يدعو إلى القاء جثته في أي قبر منسي ككل الجبابرة والمجرمين وبين من اقترح عدم تدنيس أرض ليبيا ببقاياه والتخلص منها في البحر، والمبرر وراء كل دعوة واقتراح هو الحيلولة دون أن يتحول قبره إلى ضريح مثل مرقد صدام الذي يزوره مئات العراقيين خاصة في الذكرى السنوية لاعدامه أي أول أيام عيد الأضحى، يحملون الأزهار والاعلام العراقية القديمة، يقرأون عليه الفاتحة ويبكون أحيانا ويلعنون ما فعله الجبناء كما يقولون بحقه وبالعراق... ويبدو جليا بأن جثة صدام كانت أكثر حظا من جثة القذافي، فلم تهان وأكرمت بالدفن السريع والقبر المعلوم، ولم يشكل الأمر أي مشكلة أو معضلة للعراق والعراقيين. قبر مجهول لكل طاغية إذا كنا قد دهشنا فعلا كيف لمسلمين أن يقترحوا إلقاء جثة في البحر أو حتى دفنها في قبر مجهول، فإننا للأمانة يجب أن نسجل بأن الشعب الليبي لم يخترع هذين الاقتراحين، فجثت الطغاة والجبابرة والمجرمين كانت على مر العهود تحرق أو يلقى بها في البحر أو تقدم كوجبة للوحوش أو تترك إن شنقت معلقة وحتى تنهشها النسور، وفي أحسن الأحوال تدفن في قبور مجهولة بشكل سري... والتاريخ يسجل كيف كان مصير أكبر المجرمين الذين شهدهم القرن الماضي وإلى أي منتهى انتهت إليهم جثتهم.. ولعل أكبر هؤلاء المجرمين هما الزعيم النازي الألماني »أدولف هتلر« والفاشي الايطالي »بينيتو موسولوني« اللذان مازال اسميهما إلى غاية الآن يتصدران قائمة أكبر مجرمي الحرب، واللذان حظيا بنهايتين الواحدة أسوأ وأفظع من الأخرى. ولنبدأ »بموسوليني« على اعتبار أنه أول الراحلين، لقد تأثر هذا الدوتشي (القائد) كما لقب نفسه بصديقه »هتلر« ومثلما صنع هذا الأخير النازية، اخترع هو الفاشية وكون الاثنان تحالفا وعاثا تقتيلا وتدميرا في العالم، ولما حانت ساعة السقوط والرحيل جاءته المنية بأبشع الطرق. لقد حاول »الدوتشي« في 26 أفريل 1945 بعد أن هزمه الحلفاء، الفرار مع عشيقته »كلارا« إلى سويسرا لكن السائق الذي كان يقلهما سلمهما لأعضاء جبهة التحرير الشعبية الذين قضوا بإعدامه، وفي 29 أفريل تم تجميعه وعشيقته ومجموعة من معاونيه ليشنقوا مقلوبين من أرجلهم في محطة البنزين بميلانو. وكانت هذه الطريقة في الإعدام تعتمد في روما القديمة للتخلص من الخونة. ولم ينته مصير موسوليني عند هذا الحد، بل عرضت جثته واتباعه في ساحة عامة وجاءت الجماهير تسبهم وتبصق عليهم وتركلهم، بل ومنهم من أطلق عليهم النار، وبعد أن تم التنكيل بها واهانتها أخذت الجثث ودفنت سرا في ميلانو، وفي عام 1957 سلمت رفات موسوليني لأهله ليدفن في مسقط رأسه. هتلر لا جثة.. لا قبر في 29 أفريل 1945 تم إبلاغ القهرر الألماني بإعدام حليفه موسوليني، وتم اخباره بالتنكيل الذي تعرضت له جثته، وفي هذا اليوم بالذات كانت قوات الاتحاد السوفياتي تقترب من مقر المستشارية الالمانية (الرايخ) أين يوجد مخبأه الحصين، الذي كان يقود منه العمليات الأخيرة للقوات الألمانية المنهزمة. وفي هذا الظرف العصيب وبعد أن أحس بقرب نهايته، قرر »هتلر« الانتحار، وحتى لا تتعرض جثته للتدنيس والتحقير والتنكيل، كما تعرضت له جثة »الدوتشي«، أمر معاونيه الموجودين معه في المخبأ بإحراقه ميتا. وفي اليوم الموالي أي في 30 أفريل 1945 وقبل أن تطاله يد السوفيات، وضع المسدس داخل فمه وأطلق منه النار، وتناولت عشيقته »إيفابروان« كبسولة السم، وبعد انتحارهما، سكب الضباط المعاونين البنزين على الجثتين، وأضرموا النار فيهما. ولما دخلت القوات السوفياية المستشارية الألمانية لم تجد غير بقايا جثة محروقة، فأخذتها مخابرات الاتحاد السوفياتي (الك.جي.بي) ودفنتها في مكان سري لقطع الطريق مستقبلا أمام أن يصبح قبره مزارا. وفي عام 1970 فتح السوفيات القبر، وأحرقوا ما تبقى من رفاته، ونثروا الرماء في أحد الأنهار حتى يتخلصوا نهائيا من شبح رجل غير معالم العالم بحروب خلفت ملايين القتلى. تشاوسيسكو.. إعدام في عيد الميلاد حكم »نيكولاي تشاوسيسكو« رومانيا من عام 1965 وحتى اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت به عام 1989. فبعد أن طفح الكيل بالرومانيين من ديكتاتورية زعيمهم، الذي حول رومانيا إلى ما يشبه الشركة التي تديرها وتتمتع بخيراتها عائلته وحاشيته، خرجوا يهزون الشوارع، ويطالبون ليس فقط بتنحيته بل بإعدامه. وقد حاول »تشاوسيسكو« وزوجته »إلينا« الفرار بجلديهما، لكن الجموع الغاضبة حاصرتهما، وألقي عليهما القبض في بوخاريست، وتمت محاكمتهما بشكل سريع، ليصدر في حقهما حكم بالاعدام نفذ بسرعة أكبر يوم عيد الميلاد عام 1989.. وقد دفنت الجثتين في قبرين مجهولين ومتباعدين، وشكك أقرباءهما فيما إذا كانت الجثتان موجودتين فعلا في مقبرة بوخارست وبإلحاح من ابن تشاوسيسكو وبعد معركة قضائية طويلة تقرر العام الماضي إخراج رفات والديه لإجراء اختبار الحمض النووي، وفي 3 نوفمبر 2010 أعلن رسميا أن الجثتين المستخرجتين تعودان فعلا للزعيم الروماني السابق وزوجته. وقد أعيد دفنهما في قبرين معلومين. بن لادن... وجبة للقرش وإذا كانت جثت كل من سبق ذكرهم قد وريت الثرى وسكنت اليابسة حتى وإن كان في قبور مجهولة منسية، فإن جثة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن قد تحولت إلى غذاء للحيتان في ماي الماضي بعد أن قرر الأمريكان التخلص منها في المحيط حتى لا يكون له قبر يتحول إلى مزار لأنصاره وأتباعه، وحتى يلقى النهاية التي توازي ما ارتكبه من جرائم..! ومن وجه الغرابة أن أحدا لم يتأثر لمقتل بن لادن ولا لالقاء جثته في البحر، ربما لأن الجميع يستذكر أفعاله وسُرّ للتخلص منه، أو لأن الجميع لا يؤمن حت بوجوده ويعتبره شخصية وهمية اخترعها الأمريكان لتكون شماعة تعلق عليها كل الفظائع المرتكبة هنا وهناك. ويبقى في الأخير الإشارة إلى أن مصير الجبابرة والطغاة على مر العهود والأزمنة كانت دوما مأساوية، لهذا وجب استلهام الدروس منها.