الجزائر لها دور ريادي في مجال الذكاء الاصطناعي بإفريقيا    ضرورة تعزيز دور الجامعة في مجال الاقتصاد المبتكر    باتنة تحي الذكرى 67 لاستشهاده البطل بن بعطوش    الأونروا) تعلن استمراريتها في تقديم الخدمات الصحية بغزة    نكبات فلسطين والجامعة العربية..؟ !    خنشلة : أمن دائرة بابار توقيف شخص و حجز مخدرات    باتنة : الدرك الوطني بالشمرة توقيف عصابة سرقة المواشي    إحباط تهريب كميات من المواد الغذائية    سعيود يترأس اجتماعا ليرى مدى تقدم تجسيد الترتيبات    الغذاء الأساسي للإعلام في علاقته مع التنمية هو المعلومة    عطاف يحل بالقاهرة لتمثيل الجزائر في أشغال الدورة غير العادية لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة    تكريم 12 خاتما لكتاب الله    دوريات تفتيشية مفاجئة على الإطعام بالإقامات الجامعية    "حماس" تتهم الاحتلال بتعمّد خرق وقف إطلاق النار    تصاعد الهجوم المخزني على الحقوق والحريات    مائدة مستديرة في موسكو حول القضية الصحراوية    ألمانيا تطالب الكيان الصهيوني برفع جميع القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    عادل عمروش مدرب جديد لمنتخب رواندا    غويري سعيد بقيادة مرسيليا للفوز ويشيد بثقة دي زيربي    مدرب بوتسوانا يتحدى "الخضر" في تصفيات المونديال    مشاريع البنى التحتية ودعم الاندماج الاقليمي في قلب النّقاش    "سوناطراك"- "إيني".. رضا تام لمستوى علاقات الشراكة    الخطط القطاعية ستكون نواة صلبة لترقية الصادرات    حجز 2 مليون كبسولة من المؤثرات العقلية    بيوت تتحول إلى ورشات لإنتاج "الديول" و"المطلوع"    صيام بلا انقطاع بفعل الفزع والدمار    السيادة للعروض المسرحية    إطلالة مشرقة على الجمهور بعد سنوات من الغياب    رمضان فرصة لإزالة الأحقاد من النفوس    قانون المنافسة لمكافحة المضاربة والاحتكار وحماية المواطن    المائدة المستديرة لريادة الأعمال : الجزائر وإيطاليا تؤكدان التزامهما بتعزيز الشراكة الاقتصادية    جمعية حقوقية صحراوية تطالب بضمان الحماية للشعب الصحراوي بالمدن المحتلة    وفد من كلية الدفاع الوطني بأبوجا في زيارة الى مقر المحكمة الدستورية    موسم الحج 2025: السيد سعيود يسدي تعليمات للتكفل الأمثل بالحجاج على مستوى المطارات    الذكرى ال 31 لاغتيال الفنان عبد القادر علولة..سهرة ثقافية حول مسرح علولة والبحث العلمي    وزير الخارجية يتحادث مع نظيره الإيطالي    ملاكمة: الاتحادية الجزائرية تعتمد الاوزان الجديدة للاتحاد الدولي "وورلد بوكسينغ"    اليوم العربي للتراث الثقافي بقسنطينة : إبراز أهمية توظيف التراث في تحقيق تنمية مستدامة    المدية: وحدة المضادات الحيوية لمجمع "صيدال" تشرع في الإنتاج يونيو المقبل    فتاوى : المرض المرجو برؤه لا يسقط وجوب القضاء    تبسة.. فتح خمسة مساجد جديدة بمناسبة حلول شهر رمضان    وزارة الثقافة تكشف عن برنامجها خلال شهر رمضان    ترقب سقوط أمطار على عدة ولايات غرب البلاد يوم الثلاثاء    وزارة الثقافة والفنون: برنامج ثقافي وفني وطني بمناسبة شهر رمضان    "التصوف, جوهر الدين ومقام الإحسان" موضوع الطبعة ال17 للدروس المحمدية بالزاوية البلقايدية    كرة القدم داخل القاعة (دورة الصحافة): إعطاء إشارة انطلاق الطبعة الرابعة سهرة اليوم بالقاعة البيضوية بالعاصمة    جيجل: ضمان الخدمة على مدار 24 ساعة بميناء جن جن    العاب القوى: العداءة الجزائرية لبنى بن حاجة تحسن رقمها القياسي الوطني بفرجينيا الأمريكية    كانت تعمل بيومية الجمهورية بوهران    يخص الطورين من التعليم المتوسط والثانوي    أوغندا : تسجل ثاني وفاة بفيروس "إيبولا"    عبد الباسط بن خليفة سعيد بمشاركته في "معاوية"    صلاة التراويح    مولودية الجزائر تعزّز صدارتها    ذهب الظمأ وابتلت العروق    بحث سبل تعزيز ولوج الأسواق الإفريقية    شهر رمضان.. وهذه فضائله ومزاياه (*)    العنف يتغوّل بملاعب الجزائر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



متى يتمّ إحصاء قرن وثلث من جرائم الكولونيالية؟
ثورة التحرير الوطنية

شرعت الهيئات المعنية والجمعيات المختصة منذ مدة في عقد ملتقيات عامة وحلقات دراسية متخصصة، تخرج عن روتين المناسبات المهرجانية، وتولي عناية كبيرة للتعريف والتعرف على تراث المقاومة الوطنية وثورة التحرير الكبرى، وهو من محاور الاهتمام في مركز الدراسات الذي تشرف عليه وزارة المجاهدين.
يمهد هذا المجهود إذا تواصل داخل الجامعات ومراكز البحث بصورة منظمة، لدراسة شاملة لتاريخ بلادنا، باعتباره كلا متماسكا أشبه بحلقات يشد بعضها بعضا، واستعمال المناهج والأدوات العلمية الكفيلة بتدوين وقائعه وتصنيفها وتفسيرها بعين نقدية تمهد لما يعرف بالتاريخ العام وفلسفته التي تربطنا بحركة التحرير الوطني في العالم ونضالات الأمة العربية الإسلامية والإفريقية ومجالها الحضاري الواسع فقد كانت بلادنا رائدة في النضال السياسي والعسكري ضد الكولونيالية بأشكالها الاستيطانية وتحت عناوين الحماية والوصاية على كثير من شعوب العالم الثالث.
ينبغي أن نشجع ونرحّب بكل توجه يستهدف إبراز عبقرية شعبنا، والتوصيف الدقيق لمعاناته وتضحياته طيلة ليل الاستعمار الأسود، والاهتمام بإشراك شهود العيان من القياديين والناس العاديين، جنبا إلى جنب مع العلماء والباحثين الشباب والكهول الذين ساهم الكثير منهم من مواقع مختلفة في حرب التحرير، وقد تحمل الكثير منهم مسؤوليات نضالية في مرحلة الكفاح المسلح وبعد الانتصار.
من المهم جدا الجمع بين التجربة النضالية لرجال ونساء عايشوا وأثّروا أو تأثروا بآلام وآمال الحمل والمخاض الثوري في مرحلة استثنائية من تاريخنا، وبين باحثينا الشبان بوجه خاص، فالعديد منهم يبحث عن الحقيقة التاريخية بشغف كبير، ولا يتخلى في نفس الوقت عن ضرورات المنهج العلمي وما يتطلبه من تمحيص واستقراء ونقد وتنقيب.
في البحث التاريخي بالذات يلتقي الحس الوطني (patriotique) بالصرامة العلمية، فليس بين العلم والوطنية أي تعارض إلا عند أدعياء التعلمن (scientisme) والمشعوذين، فالتاريخ جزء من ذاتنا الجماعية وذاتنا المفكرة، هو عقلنا الباطن (Cogito ergosum)، والأمة التي تكره أو تعاف تاريخها هي مجرد جغرافيا بلا محتوى ولا وجدان، لأن الوطن تاريخ أولا وجغرافيا ثانيا، بهما معا يتحقق الانتماء المشترك وتتحدد الحقوق والواجبات، وتأخذ المواطنة أبعادها في ضمير الفرد والجماعة.
الذاكرة الفارغة يمكن أن تصبح حقلا للتجارب
لا يمكن أن ننقذ تاريخنا من الدس والتشويه والتقطيع المفتعل إذا استهوتنا المهرجانية وتبادلنا التأسف والرثاء على تقاعسنا وتفريطنا في كنزنا المشترك، وهو ذاكرة الأمة وأمجادها الباقية، فكما أن الطبيعة تنفر من الفراغ، فإن الذاكرة الفارغة يمكن أن تصبح حقلا للتجارب يزرع فيها من يشاء الأكاذيب والمغالطات، عندما لا يجد الكبار والصغار صورة واضحة عن ماضيهم القريب والبعيد، أو جاءتهم تلك الصور عن طريق التضخيم والتهويل الخرافي، أو التقزيم المغرض للوقائع بهدف تصغير ماضي الأمة وتشكيك المجتمع في حاضره ومستقبله.
الإنقاذ العلمي- الوطني لتاريخنا مهمة عاجلة مطلوبة، أساسا من النخب السياسية والثقافية التي ترى طوفانا مما نسميه شبه التاريخ (Pseudo-Histoire) يعرض على شبابنا ذاكرة مزيفة ومدغولة، يأتي أكثرها من وراء البحر، تتحدث عما يسمى الإمارة البربرية (Réjence Barbaresque) وحرب الجزائر.
نعتقد أن الجمع بين ''شهود العيان'' أي الفاعلين قبل فوات الأوان، والعلماء هو الطريق الصحيح لتحليل الوقائع وتوصيفها وتفسير حركيتها الداخلية ومقارنتها بغيرها في الزمان والمكان، والسياق المحلي والإقليمي تمهيدا لتنظيرها (théorisation)، أي وضعها في صورة بناءات نظرية حسب الاختصاص وفرضيات البحث بطريقة تنصف تاريخنا الوطني وتضع ثورتنا في مكانها المتميز باعتبارها تحولا استراتيجيا على مستوى المنطقة الأفرو-عربية، وعلى مستوى العالم أجمع.
نصف هذه المبادرات بالشجاعة، نظرا لما تتعرض له بلادنا من اضطراب، ومحاولات التفكيك من الداخل مصحوب بموجة عارمة من التشاؤم، والإحساس بالانحدار (Decline) وترويج الكارثية (Catastrophisme) وشيوع النزعة العدمية (Nihiliste) التي تتدعي أن جزائر ما بعد ثورة نوفمبر 1954 هي لا شيء أو أسوأ شيء، وكأن بلادنا كانت قبل 1962 في خير ونعيم!
وكان القهر والعبودية يتساويان، بل يفضلان الكرامة والحرية! فليس كل الماضي نكسات ونكبات من فعل شياطين أشرار وليس كل ما حدث بعد 1962 وحتى أثناء الثورة وراءه ملائكة أطهار، فهناك اٌجتهادات ناجحة وأخرى أقل نجاحا إنّها كلّها من فعل الإنسان، وفي بلد ينهض من محرقة الاحتلال.
تعمل هذه الادعاءات - عن وعي أو غير وعي على تبييض (Blanchissement) الوجه البشع وجرائم الهلوكست التي اقترفتها فرنسا الكولونيالية ضد شعبنا الأعزل إلا من سلاح الإيمان بقضيته العادلة، والمعزول عن العالم الخارجي في معتقل كبير هو وطنه الذي تحول إلى محتشدات ومراكز للتجميع وأخرى للقصف المباح والعقاب الجماعي للسكان الأبرياء يحيط بكل ذلك سياج من الحديد والنار هو الخطوط التي أقامها مجرمو الحرب من الساسة والضباط الفرنسيين، ومن بينهم السفاحان شال وموريس وبابون والقائمة طويلة.
ينبغي أن تبقى أجزاء من الأسلاك الشائكة، وتوضع لوحات تذكارية على حقول الألغام المزروعة على طول حدودنا البرية لتكون علامة مادية وشاهدا على تقنيات الإبادة والقهر الذي تعرض له الآباء والأجداد تزورها الأجيال الصاعدة من التلاميذ والطلاب، والشباب بوجه عام وتكون معلما تاريخيا أشبه بمتحف في الهواء الطلق يطلع عليه الزائرون من مختلف الجنسيات، فقد شاهدنا في بلاد أخرى شواهد صغيرة مقارنة بما عانته الجزائر قبل الثورة وأثناءها، تحاط تلك الشواهد بهالة من الاهتمام والعناية وتوضع في برنامج زيارة الوفود الأجنبية.
اسلحة غير مرئية تستهدف استقرار الجزائر
محاولات التفكيك من الداخل تتزامن (وليس ذلك صدفة طبعا) مع هجمات من الخارج بأسلحة جديدة للنظام الدولي الظالم، أسلحة غير مرئية، تستهدف زعزعة الجزائر، وطمس تضحيات شعبها، وإطفاء شعلة ثورتها والتشكيك في منجزاتها وتقزيم مكانتها على المستويين الإقليمي والدولي، واستدراجها للاندماج في المخططات الكونية (Planétaires) الجيو سياسية للتسلط والهيمنة، تحمل اليوم أسماء مزيفة ظاهرها الرحمة والتعاون وباطنها الاحتواء والتدجين.
نحن على يقين بأن تلك المحاولات لن يكتب لها النجاح أبدا على الرغم من مظاهر الاضطراب والانكفاء المؤقت، فالجزائر هي واحدة من البلدان القليلة، التي تتوفر على ثوابت القوة المادية والمعنوية
(Constantes de puissance) التي لا نظير لها في بلدان الجوار المغاربي والقارة الإفريقية، إذا استثنينا جنوب إفريقيا (بريتوريا) التي تتوفر على الثروة والخبرة، ولكن تنقصها موارد الطاقة من الغاز والبترول، وهما شريان الصناعة إلى عقود أخرى قادمة.
تجتاز ثوابت القوة الجزائرية مرحلة كمون (Latence) لأسباب كثيرة لا تتسع لذكرها هذه المناسبة، وهي تتعرض بلا شك للحصار والتعطيل (Neutralisation) ولذلك يبدو لبعض محترفي البكاء والملاحظين السطحيين أو المغرضين أن الجزائر بلد هامشي لا وزن له ولا تأثير في الرهانات (Les enjeux) الجهوية والدولية القائمة على علاقات القوة (Rapports de force) لحماية المصالح واكتساب مناطق النفوذ، وليس على العواطف والذكريات.
لا نشاطر المذهب الانهزامي (Défaitiste) في هذا الرأي، لأن الحقيقة غير ذلك، فللجزائر إمكانات دائمة (Potentiel) تجعلها قوة لا يستهان بها، إذا تم توظيف تلك الإمكانات في منظور استراتيجي بعيد المدى، وتعبأ شعبها لتحقيق أهداف كبرى لم تخرج طيلة تاريخه الطويل عن الدفاع عن الحرية والعدل والتقدم والهوية، بل إننا نذهب أبعد من ذلك، ونرى أن للجزائر مسؤوليات تتجاوز حدودها الجغرافية تتمثل في حماية مجالها الجيوسياسي الأفرو-عربي ونصرة المظلومين وتحقيق السلام والتضامن الحقيقي في المنطقة كلها، إن الانحياز للحق والحرية والسلام ليس تدخلا أو طلبا للهيمنة، فتجربتنا المريرة خلال الاحتلال الغاشم تجعل من شعبنا نصيرا طبيعيا لمن يستجير به، ولا يقبل أبدا ممارسة الظلم على غيره أيا كانت الذرائع والأسباب.
ينبغي أن نؤكد في هذه المقاربة الموجزة على قضيتين: أولاهما: أثبتت التجربة التاريخية عندنا وعند غيرنا أن الروح المعنوية للأمة هي سلاحها الأقوى وحصنها الذي لا يقهر، وقد تمتع شهبنا في أحلك الظروف، وعندما وجد نفسه وحيدا وجها لوجه ضد أوروبا وامبراطورياتها الصليبية الحاقدة، وحتى في لحظات اليأس القصوى، بروح معنوية عالية، هي مزيج من الإرادة والأمل، لنتأمل كلمات هذه الرسالة التي وجهتها هيئة قيادة المقاومة بعد أسر الأمير عبد القادر سنة 1847، وبينما كانت جيوش الاحتلال تندفع لتطبق على الجزائر من الشرق والغرب والجنوب، تقول هذه الرسالة الموجهة إلى السفاح ''لامورسيير(Lamorcière) '' : '' ستزحف فرنسا إلى الأمام، ولكنها ستجبر على التقهقر، وسوف نعود، هل ترى الموجة التي يثيرها جناح عصفور يحلّق؟ إنّها الصورة التي يمثلها مروركم بإفريقيا.''!
أمّا القضية الثانية: فهي تثير الدهشة والعجب، إذ لم نقم نحن الجزائريون أفرادا أو هيئات بجرد أولي أي مجرد إحصاء لجرائم فرنسا الكولونيالية في بلادنا، وذلك بعد مرور 181 عاما (2011-1830) على بداية الهلوكست الإجرامي لا نجد لذلك أي تفسير أو تبرير مقنع، هل هو الكبرياء الوطني الذي يجعل الجزائري يكتم آلامه ولا يجاهر بمآسيه وأحزانه؟.
لا نميل إلى هذا التفسير الذي أورده الأستاذ مصطفى الأشرف، إذ أن الأمر لا يتعلق بمزاج الأشخاص، وحتى إذا افترضنا ذلك فإن طبع شعبنا يؤكد عكس المقولة السابقة، فليس من سيرة شعبنا وأخلاقياته أن يتستر أو يتقبل الظلم والقهر، والسكوت على المعتدين والرضا بما يلحقه من حيف وهوان.
هل هي سياسات طوي الصفحة وعدم نبش الجروح والعمل على بناء علاقات عادية (Normalisation) بين دولتين؟ وهذا المسعى في رأينا تبرير غير مقنع، لأن الطرف الآخر (ونقصد على الخصوص نوستالجيي الكولونيالية الفرنسية من اليمين واليسار والوسط)، لم يكفوا عن النبش، بل إدعاء الوصاية وما هو أكثر من ذلك من قديم وإلى يومنا هذا.
عقدة الذنب
إنّ أكثر ما يكتب ويقال من طرف رسميين وشبه رسميين عن فترة الاحتلال وما يسمونه ''حرب الجزائر(Evènement d'Algérie) '' وأحيانا بأقلام السفاحين أنفسهم هو افتخار بجرائم الحرب وتمجيد لعمليات الإبادة والانتهاكات الصارخة لقوانين الحرب وحقوق المدنيين، فهل تستحي الضحية من ذكر ما لحقها من إبادة ودمار، ويتفاخر المجرم بخطاياه وذنوبه؟ أي منطق هذا؟ إنه بلا ريب اللامنطق وقانون الغاب.! وقانون فضائل الكولونيالية على الرغم من تعديله ومشروع حماية الحركة Collabo والنصب التذكارية لمجرمي المنظمة السرية لن تشرّف دولة فرنسا وهناك في هذا البلد من يعترض على تعميق جرح الذاكرة العميق لدى أغلبية من الجزائريين.
الاحتمال المرجح في نظرنا هو التأثير الخارجي بغرض مسح الذاكرة الوطنية، واستقطاب شرائح من النخب الجزائرية عن طريق إظهار وجه فرنسا الجمهورية التي أعلنت حقوق الإنسان والمواطن، وإخفاء وجهها الآخر المشوه وأياديها الملطخة بدماء العزل الأبرياء.
يعرف من يتابع النشاط السياسي الثقافي في فرنسا أن كثيرا من ساساتها ومفكريها يشعرون بعقدة ذنب Complexe de Culpabilité تجاه ما اقترفته بلادهم في الجزائر، ويستعملون كثيرا من الحيل والنفاق الدبلوماسي لإخفائها، وهم على أي حال أقل شجاعة من نظرائهم في الولايات المتحدة الأمريكية الذين سموا حربهم الأمبريالية في فيتنام وهزيمتهم في سايغون حربنا ''القذرة(OUR dirty war) ''، كما أشار الرئيس الأسبق جيمي كارتر إلى أعراض فيتنام ومرضها في المجتمع الأمريكي
(Vietnaneese syndrome and desease) ليس من السهل اختيار نماذج من الهلوكست المادي والمعنوي الذي تعرض له رجال ونساء وأطفال الجزائر منذ بداية الحملة العدوانية حتى مذابح المنظمة الإرهابية(سءد) (لا ندري لماذا توصف بالسرية، وقد كان في قيادتها ساسة وضباط سامون من هيئة الأركان لجيوش الاحتلال في الجزائر؟!) - فذلك لا يغني بأي حال من الأحوال عن الجرد العام لخسائر شعبنا الباهضة ظلما وعدوانا، والذي ينبغي أن تتبناه هيئات وجمعيات تضم بين صفوفها متطوعين لا علاقة لهم بالحكومة والأجهزة التنفيذية إلا من ناحية التجهيزات والمرافق والإسناد كما تفعل إسرائيل منذ 1948 إلى اليوم لأغراض الابتزاز والسيطرة على الرأي العام الدولي، ونحن على علم بالضجة التي تعرّض لها الفيلسوف الفرنسي المسلم ''غارودي'' بعد أن حاول التحقيق في رقم 6 مليون من الضحايا اليهود في أوروبا وحكاية المحارق، بينما العكس هو الذي يحدث عندنا، احتج رسميون فرنسيون على تصريحات مسؤول جزائري حول التفجيرات النووية في رقان وانعكاساتها على المناخ والبشر الذي يعيشون فيه، يا لها من مفارقة.!
بعد حوالي نصف قرن يحق لنا أن نتساءل ما سبب هذه الشراسة والحقد؟ هل هي رواسب الحروب الصليبية؟ وقد كان البادئ بالعدوان هو أوروبا المسيحية، لأن كل المعارك دارت على الضفة الجنوبية للمتوسط، وليس في أوروبا حتى بعد قيام الدولة العثمانية؟ أم هو الانتقام من الجزائريين الذين هبوا لنجدة إخوانهم في الأندلس، ودحر حملات إعادة الفتح (Reconquista) بالنيابة على كل الغرب الإسلامي؟ أم هو اعتقاد فرنسا بأن إخضاع الجزائر سوف يفتح لها الباب على مصراعيه لاحتلال بقية المغرب العربي والتوغل في إفريقيا جنوب الصحراء بدون أية مقاومة تذكر؟.
على فرنسا دين ثقيل على سحق الجزائريين
على الرغم من وجود عوامل من الاحتمال الأول (رواسب الحقد الصليبي) ومضاعفات من الاحتمال الثاني (سطوة لأسطول الجزائري من 1516 حتى 1827)، فإن الاحتمال الثالث (كسر الحاجز الأقوى أمام المد الامبريالي) يبدو على ضوء ما حدث في النصف الأخير من القرن التاسع عشر هو التفسير المقبول لتكالب الآلة العسكرية والسياسية الفرنسية على سحق الجزائريين وإفراغ البلاد من السكان وتدمير كل ما لا يخضع لجبروتها، أو ما لا تحتاجه، لقد تأكد ذلك بالنسبة لكل جيراننا في المغرب وجنوب الصحراء: لقد أكلوا جميعا يوم أكل الأسد الأبيض، ولم يتطلب الأكل سوى بعض الإنذارات وعمليات لاستعراض القوة في البر والبحر، أما الأسد الأبيض-الجزائر- فقد واصل صموده ومقاومته لتحرير نفسه أولا، والمساهمة في تحرير الجيران عن طريق إضعاف الخصم المشترك عدو الجميع، وهو الهيمنة الكولونيالية.
إذا كنّا نحمّل فرنسا قيادة وأجهزة أمنية وسياسية وعسكرية مسؤولية جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي لا يمكن أن تطوى صفحتها أبدا بحكم القانون الدولي، إذا كنّا نفعل ذلك، فإننا لا نزعم بأن الفرنسيين كلهم أشرار، فلا يكن الجزائريون للشعب الفرنسي أي حقد عنصري أو ديني. فإذا كانوا لا يغفرون للعملاء خياناتهم لشعبهم، فإنهم لا يقبلون أن يقوموا بدور الضحية الصامتة، ومن حقهم أن يشهدوا يوما ما، القيادة السياسية الفرنسية على أعلى مستوى تأتي إلى الجزائر وتركع على هذه الأرض طالبة الغفران عن المذابح التي أودت بالملايين من الأبرياء وكل الدمار الذي ألحق ببلادنا خلال 132 عاما، لقد أعلنت علينا فرنسا الحرب من جانب واحد وحطمت دولتنا وعاثت في أرضنا فسادا، فهل يشعر مواطن جزائري عادي بأنّه مدين لفرنسا بشيء؟ العكس هو الصحيح، إنّ لشعبنا على فرنسا دين ثقيل لن تستطيع الإيفاء به، وعليها أن تطلب من دولتنا إعادة الجدولة فيما بقي من هذا القرن والقرن القادم.
رجال ونساء لم يخذلو الحق
في فرنسا رجال ونساء لم يخذلوا الحق، ولم تنقصهم الشجاعة الأخلاقية: يقول الأستاذ جاك بيرك في الطبعة الثالثة من كتابه الجزائر بين حربين ما يلي: ''لا ينتفض الجزائريون (يقصد على الاحتلال)، لأنهم فقراء، بل إنّهم يثورون لأنهم يريدون أن يكونوا جزائريين، وقد دافعت شخصيا على هذه الفكرة في أواخر سنة 1955، وذلك على العكس مما روج له اليسار الفرنسي من أن سبب القلاقل (troubles) في الجزائر هو الفروق بين المستوطنين الأوروبيين والسكان الأصليين، لقد رفض اليسار بالإجماع (الأحزاب والمنظمات الاشتراكية والشيوعية) فكرة ''الهوية الثقافية للشعوب''.
كما جاهر الفيلسوف سارتر ) (J. P. Sartre)في منشور ناري سماه عارنا في الجزائري بما يلي: ''إنّ العنف الكولونيالي لا يكتفي بإخضاع هؤلاء البشر المستعبدين، وإنما هو يحاول تجريدهم من إنسانيتهم، إنه لا يدخر جهدا للقضاء على تقاليدهم وإحلال لغتنا محل لغتهم ليهدم ثقافتهم، دون أن يعطيهم ثقافتنا، لسوف يسحقهم تعبا''.
لا ننسى رجالا ونساءا آخرين مثل الزوجين شوليه، وخاصة د، شوليبه (Dr.Cholet) نائب رئيس المرصد الوطني لحقوق الإنسان، وكذلك التنظيم المعروف باسم حملة الحقائب وعلى رأسهم السيد جونسون (Francis Jeanson) وحتى من بين الساسة والنقابيين وحملة جائزة نوبل للسلام الذين دعوا بوسائل مختلفة لرفض التجنيد وإرسال شبان الخدمة العسكرية إلى الجزائر وقاموا بمظاهرات واحتجاجات كثيرة للتنديد بما سماه فرنتز فانون في كتابه المعذبون في الأرض ''بحر الدماء والدموع'' ''الجزائر'': ، ونعرف ما يعانيه مؤرخ نزيه بعد صدور دراسته الجيدة بعنوان'' :الكولونيالية والإبادة (Coloniser exterminer) ''
إنّ شعبنا الكريم المسامح في السراء والضراء.. يحتفظ بالتقدير والعرفان لكل أولئك الرجال والنساء وقد وضع أسماءهم على ساحات العاصمة مثل ''ساحة موريس أودان(M.Audin) '' في قلب العاصمة، إنه لا ينسى المتعاطفين معه في محنته وأصدقاءه، لقد كان على الدوام أعظم من جلاديه، (وبالمقابل لا توجد أية لوحة أو تذكار عرفانا بتضحيات آلاف الجزائريين الذين شاركوا في حروب فرنسا وساهموا في تحريرها من الاحتلال النازي)، ثلاثة وعشرون قرنا من الانتفاضات عبر عنها (بول بالطا (P . Balta بعد مقام طويل في الجزائر بجملة واحدة ''ثلاثة وعشرون، قرنا من التمرد.. لا للمحتلين .
(23 Siècle de rébellion.. non à l'envahisseur)
هذه هي الجزائر التاريخية جزائر المحنة والصمود.. جزائر الحاضر والمستقبل قوتها في وحدة جبهتها الداخلية وضعفها في الفرقة والتناحر، ثوابت للقوة تثير الحسد وشغف دائم بالحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية إعتزاز بالهوية الوطنية وخصوصياتها الأمازيغية التي امتزجت بعمقها الإسلامي وثقافتها العربية، وحّد ذلك المزيج شعبنا وأثرى مخزونه النضالي، وجعل من الجزائر الصمود والثورة جوهرة على رأس حركة التحرر الوطني في المنطقة العربية الإسلامية والقارة الإفريقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.