يمثل الدكتور والقاص المبدع عبد الحميد بورايو حالة خاصة في ارتباطه الوثيق بالأدب الشعبي و الثقافة الشعبية ويحاول من خلال هذا الحوار مناقشة نخبة من أسئلة الراهن الثقافي الجزائري كما يتحدث عن سر أرتباطه بالثقافة الشعبية ،جهود تدوين التراث الشفوي الجزائري والحفاظ عليه ،مميزات التراث الشعبي الجزائري عن التراث العربي، المناهج العلمية لمقاربة النصوص الحديثة والنصوص التراثية ، وضعية التراث الشفوي في مقررات الجامعة الجزائرية ، تأثير المعطى السياسي منذ الاستقلال إلى اليوم على وتيرة دراسات الثقافة الشعبية الوطنية. س-ما هو سرّ ارتباطك بالثقافة الشعبية؟ ج- تمثل الثقافة الشعبية جزءا من كياننا لأننا نتشرّبها منذ نعومة أظافرنا، إنها الرصيد المشترك الذي نتلقاه في محيطنا الأسري، ثم في نطاق الحيّ وفي محيط القرية أو المدينة التي ننشأ فيها. كل واحد منا تلقى منذ صغره الحكايات والأمثال الشعبية والأقوال المأثورة والألغاز في المحيط الذي تربى فيه، وأقصد بصفة خاصة جيلي الذي عاش طفولته في الخمسينيات وبداية الستينيات، حيث كانت التنشئة الاجتماعية ذات طابع تقليدي، وخاصة في الأوساط الريفية، حيث لم يكن هناك تأثير كبير لوسائل الإعلام الحديثة ولا للمؤسسة التعليمية، إلا في نطاق محدود جدا. لقد كان ارتباطي بالثقافة الشعبية منذ هذه الفترة، فهي التي شكلت مخيلتي وتصوري للكون وللعلاقات الإنسانية، ولما بلغت سنّ النضج والتحقت بالجامعة ودرست الآداب عرفت أن هذه الثقافة يمكن أن تكون موضوعا للبحث والدراسة، سواء في حقل العلوم الاجتماعية أو حقل الدراسات الأدبية، فاخترت أن أتخصص فيها وأن أبذل ما في وسعى لتأخذ مكانتها في المؤسسة التعليمية، وخاصة الجامعية –حيث أعمل-، وفي مجال البحث العلمي، وأن يتم تثمينها عن طريق العناية بها في وسائل الإعلام ومختلف الوسائط الثقافية، وفي دور الثقافة في مختلف الولايات عن طريق التظاهرات والمسابقات، وكذلك في ميدان النشر الخ.. س- ما هو تقييمك لجهود تدوين التراث الشفوي الجزائري والحفاظ عليه؟ ما تم حتى الآن يمثل جهودا فردية قام بها عدد من الباحثين الجامعيين أو المنتمين لمراكز البحث العلمي، أو الهواة أو العاملين في مجال السمعي البصري. أما الجمع المنظم والشامل فمازال لم يبدأ بعد، وهو ما ندعو إليه ونعمل من أجل تحقيقه، وهو أمر لا يمكن أن يتيسر إلا بقيام هيأة رسمية تضع استراتيجية مناسبة لجمع وأرشفة التراث الشعبي الجزائري بمختلف أشكاله ولهجاته في مختلف أنحاء الوطن. س- ما الذي يميز التراث الشعبي الجزائري عن التراث العربي؟ وهل المناهج العلمية لمقاربة النصوص الحديثة صالحة لدراسة النصوص التراثية؟ ج- تنتمي الثقافة الشعبية الجزائرية لمحيط تاريخي جغرافي متعدد الأوجه، فهي أمازيغية إفريقية عربية إسلامية تنتمي لحوض البحر الأبيض المتوسط وللصحراء الإفريقية في نفس الوقت. لذلك نجدها تحمل بصمات مختلف المراحل التاريخية وتعبر عن محيط جغرافي شديد التنوع، يمثل التراث العربي الإسلامي ملمحا من ملامحها إلى جانب الملامح الأخرى التي ذكرناها، نجد فيها ما هو مشترك مع الثقافة الشعبية العربية، ومع الثقافة الإفريقية وثقافة البحر الأبيض المتوسط وثقافة الصحراء الإفريقية وكذلك الثقافة الموروثة عن العهود السابقة على الإسلام. نجد من بين مكوناتها عناصر خاصة بمنطقة شمال إفريقيا وعناصر أخرى ذات طابع محلي تخص مناطق مختلفة من شمال الجزائر أو جنوبها. أما بخصوص المناهج العلمية المناسبة لمعالجتها فيتعلق الأمر بالبعد الذي ندرسه في هذه الثقافة؛ هناك البعد الأنثروبولوجي الذي يمكن أن يعالج عن طريق مناهج مستمدة من العلوم الإنسانية، سواء منها المناهج التقليدية أو الحديثة مثل الوظيفية والبنوية والتحليل النفسي وعلم النفس التحليلي الخ.. وهناك البعد الأدبي الذي يمكن أن يعالج من منظور مناهج الدراسة اللغوية والأدبية مثل السيميائيات والتداولية وتاريخ الأدب. ولعلّ أهم معالجة منهجية يمكن أن تستثمر في دراسة الثقافة الشعبية تتمثّل في اعتقادي في "الدراسات الثقافية" ذات الرؤية الشمولية التي تستثمر فيها نظريات أنثروبولوجية معاصرة منبثقة من فكر مابعد الحداثة. س- ماذا عن علاقة النخبة الجزائرية بالتراث الشعبي وموقفها منه؟ ج-يعود تاريخ اهتمام بعض أفراد النخبة المثقفة الجزائرية إلى نهاية العهد التركي حيث نجد شخصا مثل عبدالرزاق بن حمدوش يهتم بالطب الشعبي ويضع فيه كتابا هاما اسمه "كشف الرموز" ظل متداولا في البلاد المغاربية طيلة القرن التاسع عشر باعتباره أهم مرجع في مجاله. كما كتب عثمان بن حمدان خوجة عن الأخلاق والعادات الشعبية الجزائرية في بداية الاحتلال، كما تكفل تلاميذ مدرسة المعلمين ببوزريعة ببعض مكونات هذه الثقافة وألفوا فيها الكتب في مستهل القرن العشرين مثل محمد بن شنب وسعيد عمار بوليفة وغيرهما. نجد بعد ذلك، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى عناية بالثقافة الشعبية الجزائرية من طرف رواد المسرح ورواد الكتابة الروائية باللغة الفرنسية الذين استندوا في إبداعاتهم على خطاب الثقافة الشعبية، ولابد أن نشير هنا إلى شخصية ثقافية هامة حفظت لنا أشعار المنطقة الغربية من الجزائر وهو محمد بخوشة الذي نشر العديد من الدواوين الشعرية في تلمسان وفي المغرب لأهم شعراء المنطقة. أما بعد الاستقلال فقد انقسم أفراد النخبة الجزائرية إلى فئتين؛ منهم من دعا إلى ضرورة العناية بالثقافة الشعبية وبذل جهده في جمعها ودراستها مثل مولود معمري والتلي بن الشيخ، وهناك من شكك في أهميتها واعتبرها لا ترقى إلى مصاف الثقافة الرسمية المكتوبة. ولازال الموقف إلى اليوم تتنازعه هاتان النزعتان. س- ما هي وضعية التراث الشفوي في مقررات الجامعة الجزائرية؟ ج-لقد تم في بداية الاستقلال استبعاد الأثنولوجيا والأنثروبولوجيا ودراسة اللهجات من جامعة الجزائر باعتبارها علوما من مخلفات المرحلة الاستعمارية. وتم في منتصف السبعينيات إدراج مادة الأدب الشعبي في منهج الدراسات الأدبية. وظلت بعض مظاهر الثقافة الشعبية تدرس في مواد علم الاجتماع الثقافي. غير أن هذه العناية كانت محدودة جدا ولا ترقى لمستوى التكفل بمكونات الثقافة الشعبية الجزائرية. بعد التحولات السياسية التي حصلت منذ منتصف الثمانينيات أدرجت قضية العناية بالثقافة الشعبية مطلبا من بين مطالب بعض الأحزاب السياسية وأدرجت في الميثاق الوطني بعد تعديله، وتم فتح معهد الثقافة الشعبية في تلمسان في بداية الثمانينيات، كما تم فتح معهدي تيزيوزو وبجاية الذين يهتمان بالتراث الثقافي الأمازيغي، وهو جزء من التراث الشعبي الجزائري، كما شهدت أقسام اللغة العربية في الجزائر وقسنطينة وعنابة وتيزيوزو ثم بعض المراكز الجامعية مثل مركز خنشلة وتبسة إقبال أعداد متزايدة من طلبة الدراسات العليا على دراسة الثقافة الشعبية وأشكالها التعبيرية، كما أنجزت بعض الرسائل الجامعية في علم الاجتماع وعلوم الاتصال تتناول بالبحث بعض مواد هذه الثقافة. غير أن مثل هذه العناية المتزايدة تظل محدودة بالنظر إلى زخم المادة الثقافية وتنوعها. س- ما مدى تأثير المعطى السياسي منذ الاستقلال إلى اليوم على وتيرة دراسات الثقافة الشعبية الوطنية؟ ج- خضع الاهتمام بالثقافة الشعبية في الجزائر إلى الرؤيا السياسية المهيمنة على الإيديولوجيا الوطنية منذ بداية الاستقلال، فعرف هذا الأمر خلال عقدين (الستينيات والسبعينيات) نوعا من الهروب إلى الأمام، عندما كان المسؤولين على التعليم والثقافة لا يرون في الثقافة الشعبية سوى جانبها الترفيهي والفولكلوري والسياحي، وكونها كانت تمثل ميدانا للبحث الأنثروبولوجي الاستعماري بغرض توظيفها لخدمة سياسته وأهدافه. وكان الطموح كبيرا لإحداث التنمية التكنولوجية وإحداث قطيعة مع كل ما يمت بصلة للتقاليد المتخلفة –حسب المفاهيم الرائجة وقتذاك-. غير أن الهزات العنيفة التي عرفها المجتمع ابتداء من الثمانينيات دفعت إلى التفكير إلى ضرورة مراجعة الأمر والعناية بما يمس الهوية الوطنية، وتعد مواد الثقافة الشعبية الحامل الأساسي لهذه الهوية. من هنا بدأ التنبه لضرورة العناية بها في وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية العالية. غير أن هذه العناية ظلت مرهونة بالإرادة السياسية والخطاب الثقافي الموجه للاستهلاك، وغير مستندة على استراتيجية واضحة تتعلق بجمعها وأرشفتها وتوفيرها للناشئة والشباب في مختلف المراحل التعليمية، وهو ما نتمنى أن يتنبه له المعنيون في مختلف مواقعهم. ساعد على هذا التغير في الموقف السياسي، والذي حدث في الثمانينيات بعض الحركات السياسية التي اتخذت من مسألة الهوية اللغوية والثقافية مطلبا من مطالبها، مما أعطى دفعا لمسألة العناية بالثقافة الشعبية، إلى جانب ما قامت به منظمة اليونسكو من وضع اتفاقيات ومشاريع تتعلق بتحفيز مختلف الدول على العناية بهذه المسألة وتوفير وسائل صيانة الخصوصيات الثقافية وخاصة منها ما أطلق عليه بالتراث اللاّمادّي، والذي يعني مجموع المعارف والممارسات والتقنيات المتوارثة عبر الأجيال. ورغم أن الجزائر لعبت دور هاما في تنشيط اللجان والندوات واللقاءات المتعلقة بهذا الموضوع إلا أنها فيما نرى مازالت لم تضع بعد الخطوات العملية الكفيلة بالتكفل بجمع التراث اللامادي، وهو أمر راهن يحتاج إلى بذل جهد حثيث في هذا الاتجاه، والمبادرة في تهيئة الأرضية لقيام هيئة رسمية وطنية تتكفل بتنفيذ الاتفاقات الدولية في هذا المجال وتستعين بالخبرات العالمية، ولا بد من أن نحذو حذو بعض الدول مثل ليبيا التي أنشأت مركزا وطنيا لحماية التراث الشعبي ومصر التي أنشأت مركزا لحماية التراث الحضاري تابعا لمكتبة الاسكندرية، وتونس التي أنشأت بدورها مركزا للتراث.