- انتقال النّظام السياسي من نظام فاسد إلى نظام مفسد - تفتيت النّظام بطريقة ديمقراطية سلمية وإعادة بنائه نزيها - الجيش جيش الشّعب لا جيش النّظام السياسي بوجهه السّلبي - العصابة خلقت جيوبا مضادّة رافضة كل المقترحات لإطالة عمرها أوضح الباحث في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الشلف الدكتور فؤاد عيساني، أن ما نتلمسه اليوم في المشهد السياسي هو تفتيت للنظام بطريقة ديمقراطية سلمية من أجل إعادة بنائه بكثير من الشفافية والنزاهة، ونقل السلطة سلميا من نظام فاسد مفسد لنظام صالح مصلح هدفه المصلحة العليا للبلاد، وتحدّث ضيف «الشعب» في هذا الحوار المطوّل عن العديد من القضايا التي تعيشها الجزائر اليوم من انتقال السلطة، المشاركة السياسية، محاربة الفساد، بالإضافة الى مباشرة عملية الحوار مع الشركاء السياسيين والفاعلين، مع توسيعه إلى شباب الحراك الشعبي الذين لا تزال أصواتهم تردّد مطالبهم كل جمعة. - الشعب: تعيش الجزائر اليوم حالة استثنائية في تجربتها الديمقراطية، والانتقال السلمي للسلطة ما هي قراءتكم لذلك؟ الباحث فؤاد عيساني: أعتقد أن الجزائر اليوم تمر بلحظة فارقة حسّاسة، قوامها بداية قوية لتفكيك النظام السياسي السابق من خلال الزج برموزه الفاسدة في السجن كصورة دلالية واضحة لتفكيك الثقافة السياسية التي سادت طوال الفترات السابقة، ما نتلمسه اليوم هو تفتيت للنظام بطريقة ديمقراطية سلمية من أجل إعادة بنائه بكثير من الشفافية والنزاهة، ونقل السلطة سلميا من نظام فاسد مفسد لنظام صالح مصلح هدفه المصلحة العليا للبلاد، مع الإشارة إلى أن هذه المرحلة هي مرحلة شديدة التعقيد والحساسية، وأي خطأ سيكلّفنا غاليا. - يعتبر تاريخ 22 فيفري تاريخا مفصليا أبطل كل قراءات الرّبيع العربي التي راهنت عليها الكثير من الدول والمنظمات؟ما هي أهم أوجه السّلمية التي تميّز بها الحراك بعيدا عن العنف؟ دعني أقول لك أنّ 22 فيفري هو نتاج ترسب حيثيات ووقائع طيلة عقدين من الزمن، أسّس فيها النظام السابق لممارسات وقواعد رسمت في المخيال الجمعي للشعب الجزائري صورة منفرة للنظام السياسي، ممّا جعل الكثير من الدول والمنظّمات تعتقد أنّ ساعة الانفجار قد حانت مراهنة على كم الإمتعاض الذي وصلت إليه الجماهير، مؤكّدة أنّ تسونامي الربيع العربي سيتجسّد في الحالة الجزائرية بأكثر دموية ساحبة حالة تسعينيات القرن الماضي لحاضر اليوم بآليات أشد عنفا، معتقدة أنّ الجيش الشعبي الوطني سيكون له الدور المحوري في ذلك، ليفاجأ الشعب الجزائري وجيشه الجميع بعبقريته السلمية مسقطا كل التكهنات، مستفيدا من التجارب المحلية والدولية السابقة، فكان حراك 22 فيفري 2019 متّسما بأوجه سلمية فاجأت الجميع، وأهم هذه الأوجه ما يلي: 1 - 20 فيفري ممارسة احتجاجية سلمية في شكل نموذج الإدارة المتفق عليه، دعني أقول أن نموذج الإدارة المتفق عليه هو أحد أهم أوجه السّلمية في حراك الجزائر، هذا النموذج يقدّم فيه المحتجّون خططا لمسيراتهم ويحدّدون أوقاتها وخطوط سيرها، ويقدّمون ضمانات عن ضبط السلوك غير الملائم في مقابل الضمانات التي تقدمها الشرطة حول خط السير وضبط المرور، وسلامة الجمهور وفق ترخيص إداري مسبق. هذا النموذج كان حاضرا ميدانيا في حراك 22 فيفري رغم غيابه إجرائيا قبل انطلاق الحراك، وظهرت تجلياته من خلال التنظيم المحكم لسير الاحتجاج وخلق مسارات منظمة تجوب شوارع محددة في كل ولايات الجزائر وفق ضبط سلوكي ملائم يستمد شرعيته من المحتجين ذاتهم، معطين بذلك ضمانات واقعية للمؤسسة الشرطية عن عدم الانزلاق لأعمال العنف والتخريب. وأكثر من ذلك كانت هناك رسالات قمّة في الدلالة الرمزية على سلمية وتنظيمية الفعل الاحتجاجي من خلال خلق فضاء أكثر راحة للشرطة، ممّا سهل بالمقابل على سلاسة الالتزام الشرطي بالعقد المعنوي من جهة ضبط المرور وسلامة المحتجّين، فلم نلاحظ أي اشتباكات عنيفة إلا نادرا مع المؤسسة الشرطية. كل ذلك أعطى حضورا ميدانيا لنموذج الإدارة المتفق عليه كأحد وجوه سلمية الفعل الاحتجاجي الجزائري. 2 - تأطير المطالب بشكل سلمي: فما حدث في حراك 22 فيفري وما بعده هو ظهور رأي تبلور في المجتمع الجزائري تبثه كل وسائل الاتصال المجتمعي سيطر على المحتجين، وقد تمكّن هذا الرأي من تأطير المطالب على أساس أن هناك موقف غير عادل «العهدة الخامسة»، وأنه يتطلب فعلا احتجاجيا جمعيا مشتركا لمنع المؤيّدين للعهدة الخامسة في المضي نحو خيارهم. هذا الرأي حطّم الإطار القديم، وكوّن إطارا جمعيا جديدا يرتبط بعدم العدالة وأعاد تعريف واقع الشعب الجزائري لدى المسؤولين، فأعطى مفاهيم جديدة دمجت في عبارات أو مفهومات تتجول كلها في المخيال الجمعي الجزائري، فكانت هذه المطالب تتّسم بما يلي: - اتّساق داخلي. - مصداقية لدى الجمهور الجزائري. - توافق مع المعتقدات الرئيسة لدى الجمهور الجزائري، ممّا أضفى على هذا الحراك نجاحا استطاع أن يربط مطالبه بالأطر الرئيسة السائدة في المجتمع الجزائري وبشكل سلمي. - الزج بقيادات مسؤولة بالدولة بتهمة الفساد، في رأيكم لماذا جمّد الرّئيس المخلوع عمل لجنة مكافحة الفساد؟ ولماذا وفّرت لهم كل هذه الحماية؟ يتّفق الكثير من الباحثين على أن (الفساد = الاحتكار + حرية التصرف – المساءلة). وفي ظل هذه المعادلة من الطبيعي أن تغيب المساءلة في الحالة الجزائرية، لأن الرئيس المخلوع وبطانته عملت علي مآسسة الفساد وتوطينه في جسد الدولة منتقلة إلى أشد أنواع الفساد المتمثل في الفساد النسقي هذا الأخير بموجبه ينتقل النظام السياسي من نظام فاسد إلى نظام مفسد، حتى صار الفساد إحدى أهم الثقافات المجتمعية، وهذه الحالة المرضية تجمّدت فيها كل آليات المساءلة من لجنة مكافحة الفساد إلى مجلس المحاسبة...الخ وأكثر من ذلك العمل علي التمكين لكل الممارسات المافيوية، وهذا ماقام به بالفعل الرئيس المخلوع وبطانته. - رافقت مؤسسة الجيش الحراك الشعبي منذ بداياته إلى الآن ودافعت عن سلميته، لماذا في رأيكم؟ دعني أقول لك أن النظام السياسي السابق بكل تجلياته عمل على تدجين كل الفواعل السياسية، وإفراغها من محتواها من خلال خلق شبكة زبائينية قوامها الزبون السياسي، فصرنا نرى واقعا الحزب السياسي الزبون والجمعية الزبون وحتى المترشح الزبون، كلها تقوم بأدوار مريبة من أجل التمكين أكثر لذلك النظام السياسي، وهذه الحالة كانت من أشد أسباب حراك 22 فيفري. لذلك نستطيع القول أن مؤسسة الجيش الجزائري لم تخضع للمعادلة السابقة، وكانت كمؤسسة جمهورية اتّخذت مسارا صحيحا بعيد عن كل التجاذبات السياسية وعن التورط في الممارسات المشينة للنظام السياسي السابق، ممّا جعلها مؤسسة متماسكة تعمل لصالح الجزائر وفقط، لذلك رافقت الهبة الشعبية مجسدة أن الجيش جيش الشعب لا جيش النظام السياسي بوجهه السلبي، فكانت المرافقة للحراك من البدايات. - اختارت القيادة العليا للجيش الوقوف في صف الشّعب، عكس خيارات المؤسسة في سنة 1991؟ ما هي أوجه الاختلاف والتقارب؟ ربما وجه الشبه الوحيد هو التشابه في التسمية فقط، والباقي كلها أوجه اختلاف كون قيادات المؤسسة العسكرية في تسعينيات القرن الماضي نحت نحو العنف في معالجة الأحداث وقتها، وذلك راجع للتركيبة البشرية للقيادة وما تطرحه من تساؤلات حول ماضيها وحاضرها حينها من شبكات علائقية مصلحية في المحيط الدولي، هدفها الحفاظ علي المصالح الشخصية لا مصلحة الجزائر، والوفاء للقوي الأجنبية لا القوى الداخلية الخيرة. على عكس الجيش اليوم وقياداته الذي أظهر الولاء الكلي للشعب وللجزائر وفقط، وهذا راجع للصيرورة التاريخية خلال الثلاث عقود الماضية، والتي من أهم تجلياتها التركيبة البشرية للجيش وقيادته بظهور جيل جديد يتوزع جغرافيا علي كل تراب الجزائر، يحمل آمال كل الوطن وآلامه، وفائه فقط للجزائر وللشعب الجزائري، لا تربطه علاقات مصلحية ذاتية مع الممارسات السلبية للنظام السياسي السابق من جهة، ولا القوى الأجنبية التي عاثت في الجزائر فسادا من جهة أخرى. - تصر بعض الأوساط على المطالبة بالمجلس التأسيسي والانتقالي، هل هو الخوف من مواجهة الصندوق أم هي سياسة النعام؟ اسمح لي أن أقول لك أن تلك الأطراف التي تسأل عنها إنما تعيش وتتوطّن في الأوساط الديمقراطية الأقل تركيزا (الديمقراطية الزائفة)، فتجدها تفرض نفسها بطرق غير ديمقراطية، من خلال تزوير الانتخابات مثلا في حالة إستلائها على علبة النظام السياسي أو الإحتكام لنظام الكوطة في المجالس التأسيسة والإنتقالية في الحالة الجزائرية اليوم، مما يضمن لها البقاء والإستمرارية في جسد الدولة خدمة لمصالح ذاتية ضيقة أو حتى خدمة لمصالح قوي أجنبية. بالمقابل نجد هذه القوى متخوّفة من الديمقراطية الأكثر تركيزا (ديمقراطية حقيقة) لأنّها لا تملك الإنتشار الشعبي الذي يضمن لها البقاء كقوى مؤثرة في علبة النظام السياسي، ويلفظها الصندوق بمجرد الإحتكام إليه، بل وتثور ثائرتها بمجرد الكلام على الانتخابات النزيهة،فالعصابة تسعى بكل ما أوتيت من قوى لتعكير كل ما يصب في تحقيق الإرادة الشعبية من خلال خلق جيوب مضادة تنادي برفض كل المقترحات لإطالة عمرها. - ظهرت العدالة بوجه لم نألفه في معالجتها العديد من القضايا الثّقيلة، والزج برموز النّظام السّابق في السجن وكشفها للمستور، ماذا تتوقّعون أن يحدث في المحاكمات؟ جهاز العدالة تقني لا تحكمه العواطف ولا الذاتية، هو جهاز يقوم على توجيه الإتهام مع المحافظة على قاعدة المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ويعمل على التحقيق الدقيق في حيثيات الوقائع المحتمل أن تشكل جريمة، لذلك سنرى محاكمات إحترافية لوجوه النظام السابق من خلال تلمس الركن المادي والركن المعنوي، والركن الشرعي لكل الجرائم المتابعين بها، وكل من يحضر المحاكمة حينها سيقتنع إما بالبراءة وإما بالإدانة للمتهمين أثناء جلسات المحاكمة. - تقوم لجنة الحوار والوساطة بعمل جبّار رغم المعارضة الشّرسة من بعض الأطراف، هل في رأيكم تصل إلى مخرج آمن يخرجنا من هذا النّفق؟ أعتقد جازما أن لا وسيلة للحل غير الحوار الذي ثمّنه الجميع، فقط يبقى الإشكال في الجزئيات التي تذلل بالجلوس لطاولة الحوار، على أن تكون هذه الطاولة مؤسسة على بنيان دستوري بعيد على المراحل الانتقالية، لذلك تبدو لجنة الحوار والوساطة في مضمون مهامها قريبة للنجاح والوصول لأرضية جامعة تؤهلنا للخروج بالجزائر من هذا النفق، أكيد لن يتأتّى ذلك إلا بتضافر جهود الخيّرين في هذا البلد القارة. - كشفت بعض التّقارير أن من وصفتهم مؤسّسة الجيش بالعصابة يتلقّون أوامرهم من دوائر خارجية تريد الشر للجزائر، لماذا لم يتم التعامل معهم بالمثل أو محاكمتهم وكشف الجهات التي تحرّضهم؟ اسمح لي أن أقول لك أن تفكيك العصابة يتطلب وقتا كافيا من خلاله يتم كشف كل تفرعاتها ورصد كل تحركاتها استبعادا لعنصر المفاجئة إذا ماقرر استئصالها من جذورها، تماما مثل تشخيص الأمراض الخبيثة التي تصيب جسد الإنسان، فالمسألة إذا مسألة وقت للتشخيص ومن ثمة السير في إجراءات إستئصالها نهائيا، لذلك أتوقع في المدى القريب الكثير من تلك الآليات التي ستفاجئ الجميع، والتي من بينها محاكمتهم وكشف الجهات التي تحرّضهم. - في حالة ما أجريت الانتخابات الرّئاسية ولم تشارك بعض الأطراف، هل يؤثّر ذلك على نزاهة العملية؟ هنا يجب أن نفصل في الأطراف التي تقصدها، فإن كانت الأطراف الداعية لمجلس إنتقالي أظن أنها لن تؤثر لأنّي أعتقد أنّها مرفوضة شعبيا، وإذا كانت أطراف وازنة ذات امتداد شعبي، فأكيد ستؤثّر هذه الأطراف على مصداقية الانتخابات الرئاسية، ومن ثمّة نزاهتها.