مع انتشار شبكة الإنترنت على نطاق واسع ،ومع تعدّد المواقع الإلكترونية و سهولة فتح صفحات و مدوّنات في هذا المجال أو ذاك، تحوّل الأدب الرقمي إلى ظاهرة تعيدنا إلى طرح أسئلة قديمة جديدة عن ماهية الأدب ومقاييسه الجمالية ووظائفه الإجتماعية والثقافية. ف كون الأدب الرّقمي ينفلت إلى حد بعيد من الرقابة التي يمكن أن توجّهه أو تعيقه ،كما هو الشأن بالنسبة للأدب الورقي الذي يخضع عادة للرقابة قبل نشره وربّما بعد نشره ،رقابة قد تمارسها دار نشر أو لجنة قراءة أو جهة رسمية ما، مع اختلاف في مستويات الرقابة ودرجاتها من بلد إلى آخر ومن هيئة إلى أخرى، ومن ثمّ، فإن الأدب الرقمي هو من جهة فضاء مثالي للإبداع ،إذ يجد المبدع - شاعرا كان أو روائيا أو قاصا ? حرية أرحب وأكبر في التعبير وتشكيل النص،بعيدا عن تلك الرقابة، إلا أنه من جهة أخرى ،فإن تلك الحرية البرّاقة تضعنا إزاء أسئلة كثيرة حول طبيعة الأدب الرقمي وتقنياته وتمظهراته البصرية، والتي تختلف عن تلك التمظهرات الشكلية الورقية المألوفة،إبداعا وقراءة، والتي لم يعرف الأدب مثيلا لها من قبل، بحكم غياب هذه التكنولوجيا الجديدة المسماة “ الإنترنت “ فقد عرف الأدب العربي الورقي- على سبيل المثال- تحولات عديدة منذ مطلع القرن العشرين، ارتبطت بحركات تجديدية ما فتئت تزعزع المقاييس الجمالية التي وضعت للشعر والنثر بمختلف أجناسه، وكان لتلك الحركات تأثيراتها العميقة في الأدب العربي، لكنها رغم ذلك ظلت تنشط تحت ظل رقابة معينة، توجّهها قواعد الحركات التجديدية في حد ذاتها ، بحسب ميولات الأديب وانتمائه الأدبي،دون أن يخرج ذلك الأدب عن إطار الأدبية بما تشترطه من شعرية في الآداء الأسلوبي، وتقنيات في التشكيل الهندسي للنص وبناء الخطاب،إضافة إلى الرقابة النقدية النشطة،التي ظلت ولا زلت تدعم الأدب الورقي بدراسات وبحوث، تزخر بها المكتبات العربية عامة كانت أو خاصة ،على مدار قرن من الزمن، وفي خضم هذا التحوّل والتطوّر، داهمتنا التكنولوجيا الحديثة بمستجدات تقنية في الكتابة والنشر والعرض، جعلت الأدب ينحو منحى آخر،إنْ على مستوى الكتابة والتأليف أو على مستوى القراءة ،من خلال المواقع الإلكترونية والصفحات المجانية، التي سمحت ببروز عدد هائل من المبدعين الذين لم يتسن لهم نشر أعمالهم ونصوصهم ورقيا، أو أولئك الذين هم في بداية التجربة الإبداعية ،كما ازداد عدد القراء المتصفحين لما يُنشَر من نصوص،وهذا شيء إيجابي في حدّ ذاته، إذْ بات من السهولة بمكان على المبدع أن يرسل نصه بنكزة على لوحة مفاتيح جهاز حاسوبه، فيظهر النص للقارئ على الموقع أو الصفحة في زمن قياسي ، كما أتيحت للقارئ فرصة قراءة النصوص ومتابعة ما يكتبه المبدعون بصفة متزامنة متتابعة، دونما تقطّع ، بل لقد صار من السهولة بمكان على القارئ أن يتواصل مع شاعر أو روائي أو قاص مبديا رأيه أوانطباعاته حول نصوصه، وكل ذلك لم يكن متاحا إلا نادرا للقارئ والأديب من قبل على حد سواء،في زمن ما قبل انتشار شبكة الإنترنت وظهور الأدب الرقمي،بل إنّه لم يكن متاحا للقارئ في غالب الأحيان الحصول على كل النصوص، التي قد لا يعلم بوجودها أصلا، كما لم يكن متاحا له متابعة الجديد ومواكبة التّحولات والتغيرات المناخية الأدبية المرتبطة بالتغيرات التي يشهدها العالم في حدّ ذاته. وبخاصة ما ينشر من نصوص خارج بلده، مع استثناء لنوع من القراء الذين تسمح لهم ظروفهم ومسؤولياتهم السفر والتنقل للحصول على تلك النصوص، غير أنه من جهة أخرى، يطرح هذا الإنتشار الكاسح للإنترنت جملة من الإشكالات الخاصة بالأدب الرقمي،كما سلف الذكر،ففي انفلات الأدب الرقمي من الرقابة الأكاديمية والعلمية - ما عدا ما ارتبط بالمواقع العلمية والأدبية المحكمة التي تخضع الراغب في نشر عمله لشروط ومقاييس علمية صارمة- فإن المبدع باختلاف في الدرجة والمستوى بات يتعجّل نشر نصوصه وعرضها على القراء ،وكان من نتائج ذلك ظهور جيل أدبي جديد يتعامل مع شاشة جهاز وفأرة بدل الورق والقلم ، يتعامل مع نشر فوري وقارئ مداوم لقراءة نصوصه، وإذا كان ليس من حقنا حرمان المبدعين من استغلال هذا الفضاء الرقمي لنشر إبداعاتهم و عرضها على القارئ، فإنّ ثمة ما يمكن ملاحظته حول ما يكتب وما ينشر رقميا ، وهو ما يمكن تصنيفه موضوعيا إلى ثلاثة أصناف، الأول هو ما يكتبه وما ينشره أدباء متميزون متمرسون لهم تجربة طويلة في الكتابة والإبداع ، والثاني فئة أقل تجربة ولكنها لا تقل أهمية أو قدرة على الإبداع ،أما الفئة الثالثة فهي فئة متطفلة على الأدب، تكتب خبط عشواء ،دونما أدنى احترام لقواعد الكتابة والإبداع ،ودونما رقابة تذكر أو مراعاة للذوق الأدبي.وبشيء من التحليل للأصناف الثلاثة،تظهر لنا الفئة الأولى حريصة على المحافظة على سمعتها الأدبية والإبداعية، فهي لا تنشر إلا ما تراه في مستوى تطلعات الباحثين المختصين والقراء ثم دور النشر التي تعرض عليها إنتاجها الإبداعي. كما تأخذ بعين الإعتبار ردود أفعال النقاد والأكاديميين كون هؤلاء يهتمون عادة بتتبع إنتاجهم ونقد نصوصهم ،لما لها من ارتباط بمجال اختصاصهم وبحوثهم ،وكونها عادة أعمال ترقى لأن تفرد لها جهود أكاديمية في أعلى مستوياتها، لذا، تجد الروائيين والشعراء ممن أوجدوا لأنفسهم حضورا متميّزا في الساحة الأدبية، ينتقون بعناية المواقع والصفحات والمدوّنات التي ينشرون فيها نصوصهم،والتي هي عادة مواقع للنخبة من القراء والمشتغلين في مجال الأدب ،وهي مواقع يسهر على إدارتها أكاديميون وأدباء ونقاد بارزون على مستوى الوطن العربي ، وهي تكاد تنعدم للأسف في فضاءاتنا الإلكترونية الجزائرية، باستثناء بعض المواقع التي أسسها أكاديميون مهتمون بالشأن الثقافي عندنا، و التفاعل معها لم يصل بعد إلى المستوى المنشود،من طرف الأكاديميين والباحثين والمبدعين لتفعيلها بمساهماتهم وبحوثهم. أما الصنف الثاني فيخص فئة المبدعين أقل تجربة ،ولكن نشاطهم الإبداعي لا يقل أهميّة عن نشاط الفئة الأولى، نلمس في إبداعهم روح التجديد والسعي إلى إضفاء طابع الخصوصية على إبداعاتهم ، وإذا استقصينا وجود مواقع أدبية جزائرية من عدمه - بخصوص هذه الفئة - تبيّن لنا أنها هي أيضا شبه منعدمة ، ومعظم أدبائنا من الجيل ينشر نصوصه في مواقع عربية أو أجنبية أخرى على غرار ما ينشر ورقيا. أما الفئة الثالثة فهي فئة متطفّلة على الأدب والإبداع ، لا تتوانى في نشر رداءتها في كل موقع أو صفحة مفتوحة، فئة همّها الوحيد تفريغ ما بجوفها من عقد و ترسّبات أمراض نفسية ، فلا يُراعى الذوق ولا تُراعى أبسط قواعد الكتابة والإبداع ،تنتشر نصوصها مثل الفطريات على شبكة الإنترنت ،وهو من شأنه تشويه وجه الثقافة والأدب معا، ويمكن وصفها بالملاهي الأدبية الرقمية، التي لا تراعي أي مقياس جمالي أو فني سوى أذواق المتطفلين على الأدب ،لغرض أو آخر، بدليل أن عتبات تلك المواقع محفوفة بالإعلانات الإشهارية التجارية وروابط الفيدوهات والأغاني و صور الإغراء الهابطة. ورغم رداءة ما تعرضه تلك المواقع والصفحات التي تمثلها هذه الأخيرة فهي رائجة ،تصدمك كلّما رحت تبحث عن فضاء أدبي يمتعك بقراءة نصوص تشدك إليها، فتتذوقها وتتفاعل معها قراءة ونقدا. وبالنظر إلى ما بات يفرضه علينا هذا الواقع الثقافي والأدبي الجديد، عصر الرقمنة، فإنه بات من الضروري استثماره بشكل يخدم أدبنا الجزائري، بالمساهمة الفاعلة في نشر أدب رقمي يتماشى وطموحات مبدعينا ومثقفينا،والمطلوب أن تتضافر جهود المثقفين والمبدعين جميعا لمواكبة هذا التّحول ، وإننا بحاجة إلى فضاءات رقمية يؤطرها مختصون ، لهم دراية واتصال مباشر بالوضع الثقافي الأدبي في الجزائر، وجامعاتنا ومؤسساتنا الإعلامية والثقافية تزخر بالمثقفين، الذين من شأنهم بعث الحركة الأدبية الرقمية ، بما يليق بالطاقات الإبداعية التي نملكها على امتداد ربوع الوطن.