تبحرين.. أرض تسامح وتعايش الديانات، جنة فوق الأرض حاول الإرهاب وبعض قنوات الفتنة تدنيسها بعد قضية اغتيال الرهبان السبعة في مارس 1996، والمتتبع للمزايدات التي تسعى بعض الدوائر السياسية والإعلامية الفرنسية استغلالها لتشويه صورة وسمعة الجزائر، يتخيل لك أن المنطقة لازالت تحت طائلة الأعمال الإجرامية في الوقت الذي يسودها الاستقرار والطمأنينة. ومازالت بعض الدوائر الفرنسية التي تحقد على الجزائر تنفخ في رماد القضية حيث مازالت خرجة الملحق العسكري لسفارة فرنسابالجزائر الذي عمل في حقبة التسعينات بالجزائر سنة 2009، تثير الكثير من ردود الفعل السلبية من خلال الحديث عن رفع السرية وإعادة فتح الملف من قبل العدالة. وخلفت الحادثة استياء لدى الأوساط المسيحية التي رفضت استغلال القضية التي تسبب فيها الإرهاب المقيت لتصفية حسابات سياسية وتاريخية، بالإضافة إلى استعمالها كمطية لتوجيه الرأي العام الفرنسي وإبعاده عن معرفة حقائق الأزمات التي تمر بها باريس . لتقصي الحقيقة، ورصد ما جرى في الواقع، قامت «الشعب» بزيارة لمنطقة تبحيرين، التي تقع في أعالي جبال غرب المدية على ارتفاع يصل 1100 متر عن سطح البحر، والتابعة إداريا مناصفة لبلديتي المدية وذراع السمار، وتبلغ مساحتها 40 كلم مربعا. .. كانت الساعة 10,30 عندما وصلنا بلدية ذراع السمار التي تبعد حوالي 7 كلم عن المدية وقصد تفادي أي حرج مع أي كان فضلنا الاتصال برئيس بلدية ذراع السمار ياسين بن علي لأخذ الإذن وتسهيل مهمتنا لاكتشاف المنطقة وصارحناه بأننا جئنا لاكتشاف تبحيرين وإزالة الغموض عن الواقع الحالي الذي يعيشه هذا الحي.. تبحيرين تروي براءتها أكد رئيس المجلس الشعبي البلدي الذي شرع في اتصالات لتسهيل مهمتنا أن المنطقة تعرف هدوءا تاما وأن ما تتناقله وسائل الإعلام مزايدات ومحاولات لإثارة الفتنة وأضاف «سنصعد إلى تبحيرين وستشاهدون بأم أعينكم كيف تعيش المنطقة في سلام وتسامح بوجود «الدير» أو «المنستار» كما يناديه الجميع، والذي يضم كنيسة للتعبد ومقبرة للرهبان وأراض فلاحية على مساحة إجمالية تقدر ب 375 هكتار مع منابع مائية متنوعة تجعل اللون الأخضر مسيطرا على طول السنة، وهو الذي تمت فيه عملية اختطاف الرهبان السبعة واغتيالهم من قبل الجماعة الإسلامية المسلحة في 1996. وقال المتحدث «.. إن الأمان الذي تعيشه تبحيرين رفع عدد الزوار من الجزائريين والأجانب، فالمنطقة تستقبل أكثر من 3 وفود أجنبية في الأسبوع ناهيك عن الجزائريين الذين يقصدون المنطقة للتمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تتميز بها هذه المنطقة الجبلية التي تطل على مدينة المدية وما جاورها». وتصادف وجودنا هناك تساقط الثلوج التي زادت من جمال المنطقة وأكسبتها لون السلام، ونحن في الطريق كنا نتجاذب أطراف الحديث حول تاريخ المنطقة «ذراع السمار» التي تمت ترقيتها إلى بلدية في 1985، وهي تضم 10 آلآف ساكن، بينما يضم حي تبحيرين 1000 نسمة، وكانت تطلق على المنطقة في العهد الاستعماري حي «اللودي». وأشار السيد ياسين بن علي أن «الدير» حاليا يسيره قائم بالأعمال اسمه «جان ماري» ويتردد عليه متطوعون مسيحيون من جنسيات أجنبية، يقومون بأعمال التنظيف والاعتناء بالأراضي الفلاحية، وذلك بمساعدة عاملين جزائريين من المنطقة يشتغلون منذ 1997 وهم مؤمنون ويتلقون حقوقهم بصفة عادية جدا. وأوضح مرشدنا، أن القائمين على «الدير» من المسيحيين يقومون بأعمال خيرية في تبجيرين منذ أمد بعيد حيث تم تشييده في 1938 ويمولون نشاطاتهم من عملية كراء الأراضي الفلاحية بعد نضج الغلة. وتشمل أعمالهم الخيرية مساعدة الشباب الذي يرغب في الزواج والأفراد الذين ينوون بناء سكنات ناهيك عن تكوين الفتيات في بعض المهن اليدوية وغيرها من النشاطات، وينظم «الدير» مخيمات ورحلات صيفية لأطفال «تبحيرين»، ويقوم الدير بالتبرع بالمواد الغذائية لمطعم مدرسة تبحيرين التي تقع بالقرب من الدير. وفي سؤال حول وضع الرهبان، وكيفية التعامل معهم، أكد المتحدث أن عملهم يمتد طيلة النهار ثم يغادرون في المساء وهذا منذ حادثة اغتيال الرهبان السبعة من قبل الجماعة الإسلامية المسلحة، وقد عبر هولاء عن رغبتهم في الاستقرار نهائيا بالمنطقة. ويروي رئيس البلدية الذي ينتمي لحركة الشبيبة الديمقراطية زيارة ساركوزي لتبحيرين في 2007، حيث حطت المروحية التي أقلته في ملعب بلدية ذراع السمار، وتنقل بعدها في موكب لزيارة الدير وهناك قدم هبة لإعادة ترميم جزء من السقف، كما تربط المنطقة علاقات حميمية مع الأسقف تيسيي الذي كان يتردد على المنطقة التي يحترمها كثيرا . وتربط المجلس الشعبي البلدي علاقات حميمية مع «الدير» حيث تتم دراسة انشغالاتهم والعراقيل التي تعترضهم وتحل في إطار القانون والخدمة العمومية إذ أن «جان ماري» القائم بالأعمال في «الدير» في اتصال دائم بالمسؤولين المحليين، ولا توجد أية مشاكل. وتتربع تبحيرين على منطقة استراتيجية، حيث تقع فوق هضبة عالية يمكن أن تصبح موقعا سياحيا جذابا في ظل شهرتها التي تعدت الحدود، ولكن يبقى التهميش الإعلامي الذي تعرفه سببا في تأخر المنطقة فكل من يسمع كلمة «تبحيرين» يتذكر صورة الجريمة التي وقعت وكأن المنطقة تشهد حربا ضروسا. واستفادت المنطقة من غاز المدينة في 2009 بما فيها «الدير» وتمت برمجة إعادة تهيئة الطريق الذي يربطها بذراع السمار مرورا بعين العرايس، وسيشرع في الأشغال نهاية أفريل المقبل. كما تمت برمجة بناء 70 سكنا ريفيا بعد تسوية ملفات الأراضي التي كانت تشكل عائقا أمام تجسيد مخطط مساعدة المناطق الريفية. سكان «تبحيرين» يقدمون أحسن مثال في التعامل مع غير المسلمين يضرب سكان المنطقة أحسن مثال في التعامل مع غير المسلمين أو المسيحيين الذي ينشطون في «الدير» وهو ما جعل هؤلاء يواصلون حياتهم في هذه المنطقة ويقبلون عليها من مشارق الأرض ومغاربها. ويروي السيد (ب/ي) موظف بالمنطقة، أن عددا كبيرا من نزلاء الدير والقادمين من مختلف الدول الأوروبية وحتى العربية يرغبون في تمديد إقامتهم وخاصة في المرحلة التي تشهد تساقط الثلوج. وأضاف المتحدث، أن السكان يكنون كل الاحترام للمسيحيين الذين ينشطون في الدير ولولا السلوك الحضاري والمثالي لما بقي هؤلاء منذ 1938 في «تبحيرين». وأشار إلى الآثار السلبية التي تركتها العملية الإرهابية المشؤومة التي حدثت في مارس 1996 والتي خلفت اغتيال 7 رهبان، وقال المتحدث أن الحزن خيم على المكان وندد البشر والشجر والحجر بها لأنها لا تمد بأية صلة لتعاليم الدين الإسلامي السمحة، هذا الذين البعيد كل البعد عن العنف والتطرف الهمجي. وكشف «بن سالم» (22 سنة) طالب جامعي أن العملية الإرهابية الدموية لم تستطع قطع روابط الاحترام بين سكان تبحيرين والمسيحيين بالدير بعيدا عن كل الشبهات، والدليل أنه بالرغم من تواجد الدير منذ عشرات السنين فالمنطقة لم تعرف عمليات تنصير ولولا تلك العملية الدموية لما علم الكثيرون بوجود «دير» بالمنطقة. وقال المتحدث أن الكثير من الشباب كان ينشط في الفلاحة ويبيع منتجاته للكنيسة ولم تسجل أية مشاكل، وانتقد نفس المصدر المزايدات الإعلامية الفرنسية وبعض دوائر اليمين المتطرف التي تريد استغلال القضية لإثارة الفتنة وزرع الشك وتحميل الرأي العام ضد الجزائر. ودعا محدثنا من يحاول إلصاق التهم الباطلة بالجزائريين في تعاملهم مع المسيحيين إلى العودة إلى ما قام به الأمير عبد القادر سنة 1864، حيث سن قانونا يفرض احترام حقوق الأسرى الروحية أين كان يرخص بإيفاد القساوسة إلى المعسكرات وكان مدافعا عن الأقليات في منفاه بسوريا، وتبقى الوساطة التاريخية التي قام بها في المواجهات العنيفة التي وقعت بين الطائفتين المسلمة والمسيحية بمساعدة بعض المقربين والأوفياء حيث نجح في إنقاذ آلاف المسيحيين من الموت بعد أن عرض حياته ورفاقه لخطر الموت، لينال بعدها تقدير الملوك المسيحيين آنذاك والذين منحوه أعلى الأوسمة. ''تبحيرين'' تفوق سلسلة ''جبال الألب'' جمالا فأين المستثمرون؟ تضاف منطقة «تبحيرين» إلى سلسلة التحف السياحية النادرة التي حبا بها الله الجزائر، ولكن يبقى استغلالها بعيدا كل البعد عن طموحات وآمال السكان والمسؤولين. وتزخر المنطقة التي تقع فوق هضبة عالية وتطل على سلسلة جبال تجعلك تتخيل نفسك وكأنك في السحاب وتضاف هذه الخيرات إلى توفر منابع مائية وأراض زراعية يمكن أن تنجز فيها مركبات سياحية ورياضية ومستشفيات تمنح للمنطقة والاقتصاد الوطني قيمة مضافة خاصة من خلال الإقبال المتزايد للسياح على المنطقة. وكشف مسؤولو المنطقة عن انتظارهم لمقترحات المستثمرين لدخول المنطقة والنهوض بها ولكن المبادرات تبقى ناقصة وبعيدة عن التطلعات . وبرمجت السلطات هناك قاعة متعددة الرياضات توشك الأشغال بها على الانتهاء في انتظار مشاريع أخرى يمكن أن تحول المنطقة إلى قطب سياحي بامتياز. وفي ظل الإقبال المكثف للزوار يبقى الإسراع في بناء هياكل فندقية أكثر من ضروري لاستيعاب العدد الهائل من الزوار والسياح. وتتوفر «تبحيرين» على حظيرة جميلة جدا ولكنها تحتاج إلى تهيئة وستكون مكانا مهما لاستقطاب السياح، خاصة وأن التنوع البيولوجي وكثافة الأشحار يزيد من سحر جمال المنطقة.
«آن بلوكين»...تروي تاريخ وذاكرة «المنستار» يحتضن الدير الذي يتربع على 375 هكتارا على العديد من البنايات، وهناك قامت السيدة «آن بلوكين» باستقبالنا عند المدخل وبابتسامة عريضة عرفت بنفسها وبادلناها التحية وعرفنا بأنفسنا، وطلبنا منها الإذن للقيام بروبورتاج حول الدير. وأرشدتنا المتحدثة التي سألت عن توجه الجريدة بلباقة كبيرة إلى مختلف أرجاء «الدير» وراحت تحدثنا عن بداية نزول الرهبان في الجزائر حيث استقروا في مدينة سطاوالي منذ 1843 والعديد منهم جاء من يوغسلافيا في الحقبة الاستعمارية وكان هناك حوالي 100 راهب آنذاك. وعند مدخل الدير في الجهة اليمنى اطلعنا على قاعة العلاج للراهب «لوك» (52 سنة) - أحد الضحايا السبعة الذين اغتالهم الإرهاب- حيث كان يعالج مرضى تبحيرين رفقة إحدى القابلات. وتجد أمامك سلالم تؤدي إلى ساحة صغيرة بها تمثال ل «مريم» حيث تتوسط مدخل المعبد الذي شيد في 1975 وفندق الزوار المشيد بطريقة هندسية رائعة.. وتسترسل «آن» في الحديث عن المكان والأسرار والتاريخ الذي يحمله وسألناها عن الرمزية التي يحملها المكان وأكدت» إن هذا المكان ذاكرة لنا ومكان للتعبد والالتقاء عند الحج». ويضم الدير كذلك مقر لإقامة الرهبان ومكاتب أعمالهم ونشاطاتهم ومطعم، كما يحتوي قاعة اجتماعات. وخصص الدير قاعة بأكملها تتضمن صورا للرهبان السبعة المغتالين «كريستيان لوك (59 سنة)، (لوك 82 سنة)، كريستوف (45 سنة)، ميشال (52 سنة)، برونو (66 سنة)، سيليستنان (62 سنة)، بول (57 سنة)، ومنشورات وشهادات ومطويات وأفلام تناولت الحادثة الأليمة التي شهدتها المنطقة ليلة 27 مارس 1996 واصلنا استكشافنا للمنطقة التي تعتبر جنة فوق الأرض وشبيهة بالريف الإيرلندي، توقفنا عند المقبرة التي تحتضن جثث الرهبان الذين توفوا وكذا الرهبان السبعة المغتالين، وتم ترتيبهم وفقا للسنوات التي قضاها كل راهب هناك. ورفضت «آن» التعليق على القضية وطلبنا منها كلمة للجزائريين فردت ببساطة «.. أشكر الجزائر والجزائريين على حسن استقبالهم لنا ...»، واختتمت حديثها بالسؤال عن المسجد ومدى تقدم الأشغال به ليؤكد لنا رئيس بلدية ذراع السمار أن الكنيسة تتبرع لبناء المسجد واخترنا هذه الجملة لنختم بها الروبورتاج الذي نأمل أن يصحح الصورة القاتمة التي حاولت العديد من الأطراف إلصاقها بالمنطقة. وصية الأب كريستيان تبرئ الجزائريين.. وتتهم الارهاب لفت انتباهنا ونحن في القاعة التي تعرض ذكريات الرهبان وتاريخهم في الجزائر وصية أحد الرهبان الذي تتحدث عن الجزائر والإسلام، حيث أوصى الراهب كريستيان الذي كان أحد الذين تم اغتيالهم بفتح الوصية بعد موته، والتي أهم ما جاء فيها تأكيده أنه لو يتم اغتياله سيكون الأمر مدبرا من طرف الإرهاب، في شهادة يقشعر لها البدن وكأنه بعد معرفته بالجزائريين تيقن أنه شعب مسالم ويعرف كيف يحترم الديانات. كما أن الوصية تحمل ضمنيا احتراما كبيرا لسكان تبحيرين الذين يكنون كل الاحترام لرهبان ومرتادي المنطقة. ومن بين ما تحدث عنه كذلك المرحلة الجميلة التي عاشها في الجزائر ومع الإسلام، إنها كعلاقة الجسد بالروح وهذه بعض المقتطفات المترجمة من وصية الأب كريستيان . «.. قد يأتي اليوم الذي سأكون فيه ضحية الإرهاب الذي يبدو أنه يريد التهام كل الأجانب القاطنين بالجزائر، وقد يكون ذلك اليوم، أحبذ أن تتذكر، جاليتي وكنيستي وعائلتي بأن حياتي وهبتها لله وإلى هذا البلد. أن يقبلوا أن المالك الوحيد لكل حياة ليس بغريب عن هذا الرحيل المفجع، أن يدعوا من أجلي، كيف أكون جديرا بهذه الهبة؟ أن يربطوا موتي بموت آخرين بنفس درجة العنف المتروكة. حياتي ليست أغلى من حياة شخص آخر ولا أقل منها ثمنا. .......................... أنا لا أتمنى مثل هذه الموت. في نظري لا بد من الاعتراف بذلك. بالفعل، لا أتصور كيف سأتمكن من الفرح وأن هذا الشعب الذي أحب أن يتهم بموتي، الثمن سيكون غاليا جدا لما نسميه ربما «.. الشهيد» ................................ الجزائر والإسلام بالنسبة لي، أمر آخر، إنه الجسد والروح، أظن أنني قلته بما فيه الكفاية، على ضوء ما تلقيت وما رأيت وتعلمت ملاقيا مرارا الخط المستقيم للإنجيل. تعلمت على ركبتي أمي، كنيستي الأولى وتحديدا في الجزائر في كنف احترام المسلمين المؤمنين. موتي بطبيعة الحال سيؤكد بأن الحق كان مع أولئك الذين نعتوني «الساذج» أو المثالي، «فليقوا الآن ما يظنون» لكن هؤلاء لا بد أن يعرفوا أن كل فضولي تحرر..».