كانت رغبته أن يواصل دراسته في جامع الزيتونة الذي كان يُطلَقُ عليه في تلك الفترة ب «الجامع الأعظم»، وهكذا فبتشجيعٍ من شيخه حمدان لونيسي وبدعمٍ من والده سي مصطفى قصد عبد الحميد تونس عام 1908. كانت الدراسة تتطلب منه سبعة أعوام كاملة لنيل شهادة التطويع، وهي أعلى شهادة كان يمنحها جامع الزيتونة للطلبة المنتسبين له، ولكن الاجتهاد الذي أبداه عبد الحميد وحِدَّةُ الذكاء والنبوغ الذي كان يتميز به أهَّلته ليختصر الدراسة في ثلاثة أعوام فقط، حيث أن من بين ال 80 طالبا الذين كانوا في دفعته لم ينجح منهم سوى 13 كان عبد الحميد بن باديس المتفوق الأول في تلك الدفعة الزيتونية. و قد كان من بين أبرز الأساتذة الذين درس عندهم في الزيتونة الشيوخ: محمد النخلي الأستاذ االبارز في علم التفسير. الطاهر بن عاشور الأستاذ البارز في الأدب العربي. البشير صفر الأستاذ المتبحر في التاريخ والذي فتح عيني الطالب عبد الحميد على كثير من الحقائق الوطنية وجعله يعشق مادة التاريخ. وقد مكَّنَ هذا التفوقُ الدراسي للطالب المتخرج عبد الحميد من أن تمنحه إدارة جامع الزيتونة كرسيَ التدريس بجامع الزيتونة، إذ مكث مدة عام مدرسا بجامع الزيتونة قبل العودة إلى الجزائر. لم يكن عبد الحميد خلال وجوده بتونس يكتفي بالدراسة فقط، بل كان يتابع النشاطات المختلفة الثقافية والسياسية، كما ربطته علاقات وطيدة مع العديد من الشخصيات في عالم الفكر والمعارف والسياسة، ومن بينهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي الجزائري الأصل والمؤسس الأول للحزب الدستوري التونسي، ومحمد لخضر بن الحسين وهو من أصل جزائري ولد بتونس. وقد كان الشيخ محمد بن لخضر يُدَرِّسُ كمتطوع في جامع الزيتونة إلى جانب إصداره لأول مجلة بتونس في تلك الفترة، وهي مجلة «السعادة العظمى»، وهذا قبل توجهه لاحقا إلى عدة عواصم عربية قبل أن يستقر به المقام في القاهرة التي برز فيها كواحد من أهم العلماء في الأزهر قبل أن يتولى مشيخة جامع الأزهر في الفترة الممتدة ما بين 1952 1954 تاريخ استقالته من هذا المنصب. إبن باديس شخصية متعددة المواهب.. من الصعب على مَنْ يدرس شخصية بن باديس أن يحصر موهبته في جانب دون آخر. هل يمكن أن نحصره في دور المربي والأستاذ، أم نحصره في دور الصحفي، أم نحسبه على الوطني السياسي والعالم وصاحب الفكر المستنير، أم نحسبه من المفكرين والمصلحين والدعاة، أم نحسبه إماما رائدا من رواد نهضة هذه الأمة وداعيا إلى يقظتها في وقتٍ كانت فيه الشعوذة والدَجل تركب هذه الأمة بعد أن قام الاستعمار بمختلف الأساليب للقضاء على الشخصية الجزائرية وبث الجهل والتفرقة في النفوس وتشجيع المشعوذين وأصحاب الطرقية. و لذلك فإنه لا يمكن لمن يقرأ سيرة وتاريخ هذه الشخصية الفذة أن يحصره في جانب دون آخر. كانت عودة الشاب العالم عبد الحميد بن باديس ذي ال 23 ربيعا لأرض الوطن عام 1912 متوجا بشهادة التطويع حدثا كبيرا في الشارع القسنطيني، فقد أقيمت الأفراح في بيت آل باديس. و صادفت عودته إلى قسنطينة حلول شهر رمضان، إذ انكب العالم الشاب في البداية على المكوث كامل اليوم تقريبا في المسجد لقراءة القرآن والتعمق في التفسير، مع أداء صلاة التراويح بالمصلين. و في النصف الثاني من شهر رمضان كلفه مفتي قسنطينة المولود بن الموهوب بتقديم درسٍ يومي في الوعظ والإرشاد قبل صلاة المغرب من كل يوم. لم تكن دروس الشاب عبد الحميد مثل دروس سابقيه من الشيوخ، فقد اختار المواضيع ذات العلاقة بالحياة اليومية للمواطن، مما جعل الإقبال على تلك الدروس وعلى المسجد عموما يتزايد كل يوم، الأمر الذي أكسبه سمعة كبيرة في مدينة قسنطينة والجهات المجاورة لها، وسرت سمعته على ألسنة الناس بسرعة كبيرة، حيث ترك العديدُ من المصلين بعض المساجد وانضموا للمسجد الذي كان يلقي فيه بن باديس دروسه المشوقة التي نأى فيها بنفسه في بداية الأمر عن السياسة عن قصد حتى لا يوقفه المفتي عن الدروس مثلما فعل من قبل مع شيخه الجليل حمدان لونيسي. لكن تلك العلاقة لم تطل بينه وبين المفتي الذي كان يتصيد أي «انحراف» في دروس وخطب ابن باديس من شأنها أن تسئ للمستعمر. وهكذا ففي إحدى الأمسيات كان الشيخ الشاب يشرح قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم)... وعندما سُئل عن المقصود من أولي الأمر منكم، أجاب على سؤال أحد الحضور بأن تلك الطاعة تعني فقط الحكام المسلمين دون غيرهم، مما جعل أصوات المصلين ترتفع بالتكبير والتهليل، وهو أدى بالمفتي بعد نقاش مع ابن باديس إلى إيقاف الأخير عن تقديم الدروس، لكن عبد الحميد قدِم في اليوم الموالي للمسجد لإلقاء درسه المعتاد، وبمجرد أن صعد إلى المنبر لإلقاء الدرس حتى أُطفئت الأضواء بأمرٍ من المفتي، وكانت تلك هي القطيعة النهائية مع ذلك المفتي. في البقاع المقدسة واللقاء مع أستاذه لونيسي... أصبح ابن باديس بعد تلك الواقعة مع مفتي قسنطينة المولود بن الموهوب عاطلا عن العمل، ولمواجهة هذا الوضع قرَّر أن يتوجه إلى البقاع المقدسة للحج ثم القيام بجولةٍ في بعض بلدان المشرق العربي لطلب المزيد من العلم ونيل إجازات علمية. وهكذا سافر عام 2013 بحرا وكله شوق لزيارة مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة والمسجد الأقصى وجامع الأزهر. في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام عبد الحميد في فندق يُطلق عليه «الأمير»... ولما التقى بصاحب الفندق أخبره أنه من أصل جزائري يدعى محمد الجزائري وأن أباه كان واحدا من المجاهدين الذين خاضوا المقاومة مع الأمير عبد القادر، وأنه قد استقر به المقام بالمدينةالمنورة التي بنى بها ذلك الفندق تيمُّنًا باسم الأمير عبد القادر. كان ابن باديس يتشوق لرؤية شيخه حمدان لونيسي الذي كان قد استقر بالمدينةالمنورة قبل خمسة أعوام، ويلقي دروسه اليومية في الحرم النبوي غير بعيد عن ذلك الفندق، وهكذا توجه عبد الحميد إلى المسجد وجلس في الصف الأمامي قبالة شيخه الذي ما إن أنهى دروسه حتى هرع إليه تلميذه معانقا إياه. كان ذلك اليوم من أجمل الأيام في حياة الأستاذ وتلميذه. لونيسي يُقيم جسر الصداقة بين ابن باديس والإبراهيمي... في اليوم الموالي لوجود عبد الحميد بن باديس بالمدينةالمنورة راح أستاذه حمدان لونيسي يقدم له شابا كان في نفس سنه تماما باسم محمد البشير الإبراهيمي، الذي كان يقيم مع والده منذ عام بالمدينةالمنورة (كلاهما ولد في نفس العام 1889). وبسرعة كبيرة ارتبط عبد الحميد بعلاقة صداقة حميمية مع البشير الإبراهيمي الذي أصبح يلازمه في جولاته وزياراته لمختلف المعالم الدينية بالمدينة، كما انضم لهما لاحقا الطيب العقبي الذي كان هو الآخر خلال تلك الفترة مقيما بالمدينةالمنورة. كانت النصيحة التي قدمها الأستاذ حمدان لونيسي لتلميذه عبد الحميد أن يبقى في المدينة المدينة المنورة مدرسا في الحرم الإبراهيمي، وألاَّ يعود للجزائر حتى لا يتعرض لمكائد المستعمرين وأذنابهم مثلما وقع لهما معًا مع مفتي قسنطينة المولود بن الموهوب، لكن أحد العلماء الكبار من أصدقاء الشيخ حمدان لونيسي، وهو الشيخ أحمد حسين الهندي الذي كان يتابع ذلك الحوار بين الأستاذ لونيسي وتلميذه عبد الحميد اعترض على ذلك، وطلب من عبد الحميد أن يعود للجزائر التي تحتاج لأمثاله في مقاومة الاستعمار الثقافي الذي هو أخطر أنواع الاستعمار. اكتشف عبد الحميد في الطيب العقبي فصاحة لسانه، كما اكتشف في البشير الإبراهيمي أنه شاعر فحل و»راوية للأدب والشعر، كما أنه يتميز بفصاحة في اللسان، وبأنه خطيب لا يُشقُّ له غبار إلى جانب كونه حاد الذكاء وصاحب نكتة، وهو ما عمَّق تلك الصداقة بين هؤلاء الشبان الثلاثة». قبيل مواصلة رحلته طلب منه أستاذه حمدان لونيسي أن يلقي درسا في المسجد النبوي، وهو الدرس الذي نال إعجاب الحاضرين لِمَا أظهره ابن باديس من فصاحة لسان ومن غزارة في المعلومات ومن حجة وتنظيم في الأفكار، وقدم له قبيل سفره شهادةَ إجازة علمية، وفي نفس الوقت تعاهد عبد الحميد مع صديقه البشير على ضرورة العودة للجزائر لنشر التعليم العربي في الجزائر، وخوض معركة إصلاحية فكرية ضد الخرافات والبدع التي عمل الاستعمار على نشرها في مختلف ربوع الجزائر. في القدس وفي القاهرة... في طريقه إلى القاهرة عرَّج على سوريا ولبنان، كما زار القدس الشريف وصلى بالمسجد الأقصى، وزار عدة معالم إسلامية ومسيحية بفلسطين، من بينها كنيسة القيامة وكنيسة الجلجلة ومدينة الخليل والمسجد الإبراهيمي وبيت لحم. وبمجرد وصوله إلى القاهرة توجه رأسا إلى الأزهر الشريف، وقد التقى بالصدفة طالبا جزائريا تعرف كلاهما على الآخر من خلال لباسه. كان لقاءُ عبد الحميد بن باديس بالطالب الجزائري محمد أرزقي الشرفاوي مؤثرا، كان الإثنان كأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ فترة. فقد راح الشرفاوي يرافق ابن باديس ويدله على العديد من المعالم والشخصيات المصرية. والمعروف أن هذا الطالب الذي ينحدر من عزازقة بتيزي وزو، قد نال لاحقا شهادة العالمية من جامع الأزهر، حيث أصبح واحدا من الأساتذة البارزين في جامع الأزهر، قبل أن يعود إلى الجزائر ويشرع في التدريس بمعهد اليلولي لمدة عشرة أعوام، حيث أن عدد طلبته تجاوز 300 طالب من مختلف جهات الوطن ومن بينهم الأستاذ محمد الصالح الصديق والعربي سعدوني، رحمه الله، الذي كان أحد وزراء الشؤون الدينية. ومن المعروف أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد زار الشيخ الشرفاوي بمجرد عودته للجزائر، حيث أصبح من بين المنافحين في الدفاع عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كما كتب العديد من المقالات في صحف الجمعية. وبالعودة إلى زيارة ابن باديس إلى مصر، فقد توجه إلى مدينة الإسكندرية الواقعة على بعد حوالي مائتي كيلومتر من القاهرة، وهناك التقى بأحد علمائها الكبار في تلك الفترة، وهو العالم الكبير محمد أبو الفضل الجيزاوي الذي عقد مجلسا علميا للاستماع إلى ابن باديس. وعقب تلك الجلسة أجاز الشيخ الجيزاوي عبد الحميد بن باديس بشهادة علمية، ثم راح يثنى على غزارة علمه معربا له عن تقديره الخاص له. يتبع في الحلقة الثالثة العودة إلى الوطن: الشيخ المعلم والصحفي...