16 أفريل.. يوم من أيام الجزائر* ترسيخ للانتماء وولاء للوطن * بقلم: عبد الحفيظ عبد الحي * أول كلمة في القرآن كانت وما تزال وستبقى حتى تقوم القيامة إنها كلمة اقرأ... العلم أصل كلِّ شيء يحرِّر العقول من القيود يحرِّر العقول من الأوهام فنحن نقرأ لنتعلم نقرأ لنعرف لنكتشف لندرك نقرأ لنتقدم إلى الأمام بخطى ثابتة نقرأ حتى تتطور أمتنا المجيدة بخطى صحيحة نحو الازدهار والرقي وتصبح أمة فعالة في وجه الظلم والعدوان الذي تتعرض إليه ترسيخا للانتماء وولاء للوطن. غالبا يرجح البعض فرضية تطوير العلم إلى ضرورة الانفتاح على القوى المتقدمة والاستفادة من تجربتها وهذا من أكبر الأخطاء الظالمة لحق الأمة ومقوماتها فتاريخنا حافل بإنجازات ونجاحات كبيرة على مر السنين ولسنا بحاجة إلى استيراد مناهج وبرامج تنسينا هويتنا وتفرقنا وتشتتنا في ظل الهوية الجامعة والقائمة بذاتها. صحيح يمكن الاستفادة من تطوير التعليم من التكنولوجيا وممكن وسائل تعلمية وغيرها من الأمور التي تساعد لكنها لا تمس بقيم المناهج الوطنية النابعة من عمق الهوية الوطنية التي عمل الاستعمار على تشويهها وطمسها بكل الوسائل والدعايات ولكنه فشل الفشل الذريع انطلاقا من إيمان هذا الشعب بهويته النابعة من روح الأمة ودينها الحنيف. يتحجج الكثير ويطرح حقيقة تطور الغرب بصفة عامة ونسي أن الغرب لم يغير مناهجه بل تمسك بها وثبتها وإنما يعود تطوره إلى اعتماده على الكفاءة بدل تغيير المناهج وهو المنهج الذي سارت عليه الفيتنام الفيتنامية مثل ما يؤكده شيخنا القدير عثمان سعدي في كتيباته. تحتفل الجزائر بيوم العلم 16 أفريل من كل سنة تقديرا وعرفنا للعلامة عبد الحميد بن باديس الذي توفي في 8 من ربيع الأول 1359 ه الموافق ل 16 أفريل 1940م فكان يوم 16 أفريل يوم الاحتفال بالعلم في الجزائر تقديرا وعرفانا لهذا العلامة رحمه اللّه. شرف هذه الأمة هو عبد الحميد بن محمّد المصطفى بن المكّيّ بن محمّد كحول ونسب أُسْرَتِهِ عريق في الشرف والمكانة مشهور بالعلم والثراء والجاه كما عُرفت شخصيات أخرى من نسبه العريق وتكاد تكون وظيفة القضاء والتدريس في قسنطينة قاصرة على علماء هذه الأسرة زمنا طويلا من أشهرهم القاضيان (أبو العبّاس حميدة بن باديس) وجده لأبيه (المكّيّ بن باديس) وَالِدُهُ (محمّد المصطفى بن باديس) صاحب مكانة مرموقة بين جماعة الأشراف وُلِدَ الشّيخ عبد الحميد بن باديس يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الثاني سنة 1307 _ الموافق للرابع من ديسمبر سنة 1889 م بمدينة (قسنطينة) وهو الولد البِكر لأبويه. نشأ الشّيخ ابن باديس في أحضان أسرة متمسكة بالدين والمحافظة على القيام بشعائره وحرصا على تنشئة أبنائها على أساس تربية إسلامية وتقاليد أصيلة عهد به والده وهو في الخامسة من عمره إلى الشّيخ (محمّد بن المدَّاسي) أشهر مُقرئي قسنطينة فحفظ القرآن وتجويده وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة.. ولما أبدى نجابة في الحفظ وحسن الخلق قدّمه ليؤم المصلين في صلاة التراويح لمدّة ثلاث سنوات متوالية في الجامع الكبير. ثم تلقى منذ عام 1903 م مبادئ العلوم العربيّة والشّرعيّة بجامع (سيدي محمّد النجار) من العالم الجليل الشّيخ (حمدان الونيسي) وهو من أوائل الشيوخ الذين لهم أثر طيب في حياته. وفي سنة 1910 م سُجل بجامع الزّيتونة حيث أكمل تعليمه ووسع معارفه فتتلمذ على صفوة علماء الزّيتونة ومشاهير الأعلام أمثال الشّيوخ: (محمّد النّخليّ القيروانيّ) و(محمّد الطّاهر بن عاشور) و(محمّد الخضر بن الحسين) و(محمّد الصادق النيفر).. لينال عام 1911 م شهادة التّطويع (العَالِمِيَّة) وكان ترتيبه الأوّل بين جميع الطّلبة الناجحين وهو الطالب الجزائريّ الوحيد الذي تخرّج في تلك الدّورة ثّم بقي بتونس عاماً بعد تخرّجه يُدَرّس ويَدرس على عادة المتخرجين في ذلك العهد. لم يكن للشّيخ ابن باديس من غرض بعد عودته من تونس إلا الانتصاب للتّعليم في مسقط رأسه (قسنطينة) فباشر إلقاء الدّروس من كتاب (الشّفا) للقاضي عياض في الجامع الكبير لكنّه سرعان ما منع من الإدارة الفرنسيّة بسعي المفتى في ذلك العهد بعدها عزم على أداء فريضة الحجّ عام 1913 م. وبعد أداء مناسك الحجّ زار المدينة المنوّرة ومكث بها ثلاثة أشهر تعرّف فيها على الشّيخ (محمّد البشير الإبراهيميّ) وقضى معه ليالي تلك الأشهر الثلاثة كلها في وَضْع البرامج والوسائل التي تنْهَضُ بها الجزائر. كما أتيح له أن يتّصل بشّيخه (حمدان الونيسي) والتقى بمجموعة من كبار العلماء منهم الشّيخ (حسين أحمد الفيض أبادي الهنديّ) وألقى بحضورهم على مشهد كثير من المسلمين درساً في الحرم النّبويّ. وفي تلك الفترة وجد الشّيخ ابن باديس نفسه بين خيارين إما أن يلبي دعوة شيخه (الونيسي) في الإقامة الدائمة بالمدينة وقطع كل علاقة له بالوطن وإما أن يأخذ بنصيحة الشّيخ (حسين أحمد الهندي) بضرورة العودة إلى وطنه وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد.. فاقتنع برأي الشّيخ الثاني وقرر الرجوع إلى الوطن بقصد خدمته. وعند رجوعه عرج على مصر زار جامع الأزهر الشريف بالقاهرة ووقف على نظام الدراسة والتّعليم فيه ثم زار مفتي الدّيار المصريّة الشّيخ (محمّد بخيث المطيعيّ) في داره بحلوان رفقة صديقه (إسماعيل جغر) المدرس بالأزهر قدم له كتابا من شيخه (الونيسي) فأحسن استقباله وكتب له إجازة في دفتر إجازاته بخط يده. العلم أولا وآخرا أولى الشّيخ ابن باديس التربية والتّعليم اهتماماً بالغاً ضمن برنامج الحركة الإصلاحية التي قادها ووجهها فالتربية عنده هي حجر الأساس في كل عمل بنائي لذلك أعطاها كل جهده ووقته فبدأ نشاطه التّربوي والتّعليمي بالجامع الأخضر أوائل جمادى الأول 1332 _ / 1914 م يدرّس الطلبة كامل النّهار وفق برنامج مسطر لكل مستوى ويلقي دروساً في تفسير القرآن والحديث النبوي الشريف بالإضافة إلى الوعظ والإرشاد لعامة الناس في المساء ويخص صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها بجملة من دروسه. ثم وسع نشاطه بإلقاء دروس في مسجد سيدي قموش ومسجد سيدي عبد المؤمن وقام في أيام الراحة الأسبوعية وأيام الإجازة الصيفية بجولات لمختلف مناطق القطر. وبعد بضع سنوات من التّعليم المسجدي رأى جماعة من الفضلاء المتصلين به تأسيس مكتب يكون أساساً للتّعليم الابتدائي العربي سنة 1926 م انبثقت عنه سنة 1930 م مدرسة جمعيّة التربية والتّعليم الإسلامية. ودعا الجزائريّين إلى تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر. وحرصا منه على رعاية الطلبة كوّن لجنة للعناية بهم ومراقبة سيرهم والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم وأرسل المتفوقين والقادرين منهم على مواصلة الدارسة العليا إلى جامع الزّيتونة والأزهر. وحثّ على تعليم المرأة وأولى تعليمها اهتماماً كبيراً فألقى دروس وعظ خاصة للنساء بالجامع الأخضر وخص البنات بدروس في مدرسة جمعيّة التربية والتّعليم وأقر لهن مجانية التّعليم وسعى لتمكينهن من مواصلة التّعليم الثانوي والعالي في المشرق العربي. وفي سبيل إصلاح التّعليم وترشيد المناهج التّربوية في الجزائر دعا رجال التربية والتّعليم إلى مؤتمر عقد عام 1937 م بنادي الترقّي لتبادل الآراء فيما يهم التّعليم العربي الحر ومدارسه ومساجده ونظمه وأساليبه. كما شارك في محاولة إصلاح التّعليم في جامع الزيتونة بتونس وبعث بمقترحاته إلى لجنّة وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس عام 1931 م وتضمن اقتراحه خلاصة آرائه في التربية والتّعليم. فكر الشّيخ ابن باديس بدءا من سنة 1913 م - خلال إقامته بالمدينةالمنورة - في تأسيس جمعيّة ومع رفيق دربه الشّيخ الإبراهيميّ وضع الأسس الأولى لها وبقصد تحضير التأسيس جمعتهما عدة لقاءات منذ عام 1920 م وتمهيدا لبعثها طلب من الشّيخ الإبراهيميّ عام 1924 م وضع القانون الأساسي لجمعيّة تجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم باسم (الإخاء العلمي) يكون مركزها العام بمدينة (قسنطينة) إلا أن حدوث حوادث عطلت المشروع. ثم توالت بعدها الجهود لتأسيس جمعيّة ومن الإسهامات التي هيأت الجو الفكري لها دعوات الشّيخ ابن باديس العلماء في جريدته (الشّهاب) إلى تقديم اقتراحات.. تلتها سنة 1928 م دعوته الطلاب العائدين من جامع الزيتونة والمشرق العربي لندوة سطروا خلالها برنامجا يهدف إلى النهوض بالجمعيّة المزمع تأسيسها. وفي نفس الفترة برز (نادي الترقّي) كمركز ثقافي ذا تأثير وملتقى للنخبة المفكرة في الجزائر ومن منطلق رسالته الهادفة طلب الشّيخ ابن باديس من مؤسسيه تكوين لجنة تأسيسية ترأسها (عمر إسماعيل) تتولى التحضير لتأسيس الجمعيّة. وبعد مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسيّ للجزائر (1830 _ 1930 م) واحتفال الفرنسيين بذلك تضافرت ظروف وعوامل كثيرة فشحذ هذا الاحتفال البغيض همّة علماء المسلمين في الجزائر وحماسهم وغيرتهم على دينهم ووطنهم فتنادوا إلى إنشاء جمعية تناهض أهداف المستعمر الفرنسي وجعلوا لها شعارًا يعبر عن اتجاههم ومقاصدهم هو: (الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا) (جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين) التي تأسست يوم الثلاثاء 05 من ماي 1931 م في اجتماع بنادي الترقّي لاثنين وسبعين من علماء القطر الجزائري ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية. وانتخب الشّيخ ابن باديس رئيساً لها والبشير الإبراهيميّ نائبًا له. أهداف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: أن الجمعية قد أسسّت لهدفين شريفين لهما في قلب كل عربي مسلم بهذا الوطن مكانة لا تساويها مكانة وهما إحياء مجد الدين الإسلامي وإحياء مجد اللغة العربية. وكما قال الإمام عبد الحميد ابن باديس مخاطبا هذا الشعب: (أيها الشعب المسلم الجزائري الكريم تالله لن تكون مسلما إلا إذا حافظت على الإسلام ولن تحافظ على الإسلام إلا إذا فقهته ولن تتفقه إلا إذا كان فيك من يفقهك فيه...). كما ذكر أيضا الدكتور عبد الكريم بوصفصاف في تلخيص أهدافها في هدفين رئيسين هما: فالأول: وهو آني ويتمثل في تنقية الإسلام مما علق به من شوائب والمحافظة على الثوابت وإحيائها. كاللّغة العربية والتاريخ القومي والإسلامي بالإضافة إلى بناء المدارس والمساجد ومحاربة الآفات الاجتماعية. عن طريق نشر الوعي وذلك بواسطة الدروس والصحافة وبصفة عامة الوقوف ضد محاولة مسخ الشخصية الوطنية الجزائرية والثانية: وهو البعيد المدى ويتمثل في استرجاع استقلال الجزائر وتكوين دولة عربية إسلامية. واستنادا لما أورده السيد فرحات عباس فإن جمعية العلماء كانت ذات مهمة شاملة حيث يقول: (حملت هذه الجمعية المباركة على عاتقها عبء نهضة الإسلام ومحاربة أصحاب الزوايا والطرق المتواطنين مع الاستعمار وتكوين إطارات اجتماعية مثقفين ثقافة عربية). وأن الجمعية كانت في معظم مطالبها تهدف إلى تلك الأهداف السامية وهي التأكيد على رفض الفرنسية والتمسك بالاستقلال وارتباطه بالحضارة الإسلامية والعروبة فبالمضايقات والقرارات التي اتخذتها السلطة الفرنسية ضد الجمعية لم تزد الجمعية إلا إصرارا على موقفها واتخذت الجمعية شعارا لها يبين في نفس الوقت أهدافها وهو: (الجزائر وطننا والإسلام ديننا والعربية لغتنا). يمكن القول أن الجمعية مهدت الأرض لانطلاق الثورة وذلك بجهودها في التعليم ونشر اللغة العربية وإيقاظ الجزائريين في كل مكان والتصدي بحزم لكل ما من شأنه تدمير الوجود المستقل للجزائر ويكفي أن نقول في هذا الصدّد إن 70 ألف طالب كانوا قد تخرجوا من مدارس الجمعية وقد كانوا هم بالتحديد قيادات الثورة وعناصرها النشيطة. وفي ذلك يقول الدكتور أبو الصفصاف عبد الكريم _ في رسالة للدكتوراه -: (إن جمعية العلماء هي التي أخرجت الجزائر من عزلتها الثقافية وأعادت ربطها بالأمة الإسلامية وحطمت المقولات التي خلقها الاستعمار وعمدت على إحياء اللغة العربية والتاريخ الوطني وطهرت الإسلام من الشوائب التي علقت به ووحدت الشعب الجزائري تحت راية الإسلام وأحبطت حركة الاندماجيين الرامية إلى ربط الجزائر بفرنسا بواسطة جنسية المستعمر ولغته وكونت الإطارات المخلصة التي فجرت ثورة 1954 وكانت الدعامة الأساسية لعملية التعريب بعد أن استردت الجزائر سيادتها الوطنية سنة 1962 ويصف الدكتور محمود قاسم في كتابه (الإمام عبد الحميد بن باديس) بأنه الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية).