قرّرت الجزائر إحداث قطيعة نهائية مع النموذج الاقتصادي القائم منذ عشرين سنة، بالارتكاز على الإنتاج الوطني و»التصدير» دون الإبقاء أسيرة المحروقات التي تمثل 98 في المائة من المداخيل. ولتحقيق هذا التحول اعتمدت خطة للإنعاش الاقتصادي، وباشرت العمل الفوري على تجسيدها وفق آجال زمنية محددة. لا يقترح مخطط الإنعاش الاقتصادي، الذي وضعت أسسه الأولى في ندوة 18 و19 أوت الجاري، توصيات نظرية لتحفيز المتعاملين الاقتصاديين الوطنيين أو تشخيص مكامن الخلل في النمط الاقتصادي الحالي، وإنما يفرض مقاربة جديدة تستدعي «التنفيذ» دون تأخر أو مماطلة. الطابع الاستعجالي لتجسيد هذه الخطة، نابع من طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد، والتي وصفها الوزير الأول عبد العزيز جراد ب «المفصلية»، إذ لم يعد الوقت متاحا لسماع مزيد من التشخيص للاقتصاد الوطني «المريض»، وإنما للعمل وبسرعة فائقة. وقدّم رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، لدى افتتاحه ندوة الإنعاش الاقتصادي، خلاصة تغني عن أطنان الأوراق التي أطنبت في سرد كوارث اقتصاد البلاد، عندما قال: «إنه اقتصاد متخلف، لا ترابط بين شعبه الإنتاجية المحلية، وكل الأعين موجّهة نحو الاستيراد». وأكّد الرئيس أن التوجه الجديد، يقوم على رفع الإنتاج الوطني خارج المحروقات، في جميع القطاعات وبكل الوسائل الممكنة، ثم اقتحام الأسواق الجهوية والدولية (التصدير). وخصّص الرئيس 1900 مليار دج لدعم الاستثمار الحقيقي والمنتج، ورصد غلاف مالي بالعملة الصعبة (10 مليار دولار) لدعم الاستثمارات الثقيلة، ويمكن الاستفادة من هذا التمويل قبل نهاية السنة الجارية. وقبل ذلك، سمحت الحكومة في قانون المالية التكميلي 2020، باستيراد مصانع من الخارج، أفلست بفعل الجمود الاقتصادي الناجم عن تفشي وباء كورونا، وقدّمت تحفيزات وتسهيلات جمركية للمتعاملين المحليين لاقتنائها، خاصة وأن سعرها لا يتجاوز 10 أو 20 بالمائة من قيمتها الحقيقية. لماذا الاستعجال؟ في بيان مجلس الوزراء المنعقد الأحد الماضي، أمر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، الوزير الأول «السهر على ترجمة قرارات وتوصيات ندوة الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي ميدانيا، حتى لا تبقى حبرا على ورق». وشدّد على أنّ «مصير البلاد يتوقف على تجسيد المقاربة الاقتصادية الجديدة». ولاشك أنّ تنفيذ خطة التحول الهيكيلي للاقتصاد الوطني، يرتبط برهانات تتعدى تلبية احتياجات السوق الوطنية، ووضع المنتوج الجزائري في أسواق دول إفريقية أو حتى غربية، إنه يرتبط بالسيادة الاقتصادية والسياسية للبلاد. فمن الواضح أن الجزائر التي تجرعت مرارة الإفلاس والاقتراض من الهيئات الدولية، في تسعينيات القرن الماضي، لا تريد تكرار التجربة وستفعل المستحيل لعدم لتسليم مصيرها لصندوق النقد الدولي «أفامي» مجددا. وعبّر الرئيس تبون على مشكل العودة للاستدانة قائلا: «لولا لطف الله ولا 57 مليار دولار (احتياطي الصرف) لكنّا نتوسّل عند المؤسّسات الدولية، وعندها لا يبقى قرار سيادي ولا حرية المواقف ولا دعم القضايا العادلة». وجدّد رفضه القاطع للاقتراض الخارجي قائلا: «لن نقترض من صندوق النقد الدولي ولا من الدول الصّديقة والشّقيقة». ويفترض أن تغطي 57 مليار دولار في احتياطي الصرف، سنة ونصف أو سنتين من الاستيراد، وهو ما يفسر إصرار الدولة على المضي قدما وبسرعة فائقة في تنفيذ الإصلاحات العميقة وتوفير ما أسماه رئيس الجمهورية «الإمداد»، لاحتياطات البلاد من العملة الصعبة بعائدات الصادرات خارج قطاع المحروقات، مشدّدا على رفع حجم التصدير خارج المحروقات نهاية عام 2021 إلى 5 مليار دولار بدل 2 مليار دولار حاليا. من جهته أكد الوزير الأول عبد العزيز جراد، لدى اختتامه أشغال الندوة الوطنية للإنعاش الاقتصادي، أنّ «تنفيذ الخطة الجديدة سيعزّز الأمن الطاقوي والغذائي للبلاد، وسيحافظ على سيادة قرارنا الاقتصادي والذي من شأنه أن يضمن لنا الاستقلالية في اتخاذ قرارنا السياسي». طريق شاق وعمل مضني الخطّة الواعدة التي تهدف في جوهرها، تستدعي جهودا مضنية لتحقيقها، ذلك أنّ رفع الإنتاج الوطني بمختلف الشعب يتطلّب استثمارا حقيقيا ومحكم التوزيع لخلق التوازن بين احتياجات السوق الوطنية والتصدير، وكل هذا يمر عبر دهاليز الإدارة. سرعة تجسيد المشاريع تحدّدها سرعة الانتهاء من الإجراءات الإدارية المتعلقة بقبول المشروع ومنح الموافقة عليه، كما تحددها مدى جاهزية شبكة اللوجيستيك، كالربط بالماء والكهرباء والغاز وشبكة الطرق والسكك الحديدية والموانئ والمطارات. ولاختزال التدابير الإدارية المميتة، تبرز الرقمنة كخيار حتمي ينبغي الشروع في تجسيده بأسرع ما يمكن، كما تسمح الإحصائيات الدقيقة بتوفير نظرة دقيقة عن أصول الإنتاج الوطني في البلاد وتوجيه وتوزيع الاستثمارات بشكل متوازن. وأمر رئيس الجمهورية في مجلس الوزراء الأخير «الإسراع في رقمنة القطاعات والدوائر الوزارية وتحقيق الربط بينها لتقاسم وتنسيق المعلومات، وتدارك التأخر المسجل في رقمنة دوائر حيوية تقدم للدولة مؤشرات اقتصادية تساعدها على تجسيد المقاربة الاقتصادية الجديدة». وطلب الرئيس من وزارة الرقمنة والإحصائيات السهر على ضرورة إحداث ثورة في إعداد الإحصائيات تكون دقيقة وحقيقية تسمح بتجسيد المقاربة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة بعيدا عن الطرق الكلاسيكية، وتسد الباب أمام كل أشكال الاستغلال السياسي وتغليط الرأي العام». ولن تتحقق الأهداف والآمال المعلقة على الخطة الاقتصادية الجديدة، دون منظومة بنكية أجمع الكل على عدم صلاحياتها وأهليتها لمرافقة مشروع وطني بهذا الحجم، وقد أكّد رئيس الجمهورية بأن الجزائر «لا تملك بنوكا وإنما شبابيك عمومية». في المحصلة يكفي أن يبدأ تنفيذ مخطط الإنعاش الاقتصادي بأشياء بسيطة، كربط المناطق الصناعية والفلاحية بالكهرباء والغاز والماء، وتسليم المستثمرين الحقيقيين رخص الاستغلال، وإنهاء المتاهات الإدارية على مستوى المرفق العمومي.