منذ 284 يوم من بداية الجائحة تجند الأطباء وشبه الطبيين ومستخدمي الصحة في معركة الجزائر ضد عدو مجهول، ارتدوا مآزرهم البيضاء ليكون لونها رمز جيش تسلح بالعلم والصبر واليقين في النصر، .. تخلوا عن حياتهم الخاصة لتذوب في الدور الذي يلعبونه في الحد من انتشار العدوى، فلا أحد منهم اليوم سوى طبيب أو شبه الطبي أو مستخدم في الصحة وفقط. تحاول «الشعب ويكاند» اليوم نقل يومياتهم منذ بداية الأزمة لتتحدث بكلمات عجزت أمام ما يقدمه هؤلاء الجنود من تضحيات عن الإنسان داخلهم، بل خجلت الكلمات أمام ضعفها في وصف دموع سالت من عيون رجال ونساء حرَّموا عن أنفسهم التراجع أو الهوان في معركة وطن. البروفيسور عتيقة شرواط: الأنا، الآخر... معركة ضد المجهول فتحت رئيسة مصلحة الطب الشرعي بمستشفى الرويبة البروفيسور عتيقة شرواطي قلبها ل»الشعب» لتروي لنا ما عاشته على مدار ما يزيد عن التسعة أشهر من ضغط بسبب الجائحة العالمية كوفيد-19، هي مواجهة أسمتها ب»المعركة ضد المجهول»، كانت فيها أمام وباء غامض سريع الانتشار، سلاحها الوحيد فيها ما اكتسبته من خبرة في ميدان الطب الشرعي، ورغم أنها لم تعرف مدى نجاعة وشدة هذا السلاح إلا أنها وقفت وقفة المحارب مستعدة لمواجهة أي طارئ حتى وإن كان الثمن حياتها لأنها امرأة، أم، طبيبة ورئيسة مصلحة واجبها تحمل مسؤولياتها كاملة مهما كان الخطر، وكأني بها القائدة في جيش توشح الأبيض في مواجهة سواد الموت وألم المرض. أجابت عن سؤال «الشعب» حول يوميات سادها ضغط نفسي كبير لم تعرفه من قبل لأن الفيروس الجديد لم يكن من بين ما تعلموه أو درسوه عن مختلف الأمراض التي تصيب جسم الإنسان، لذلك كانت طاولة التشريح منصة تكتشف فيها آثار الوباء على الجسد، فكان المشرط وسيلتها لتعرف أسرار هذه الجائحة العالمية. قالت البروفيسور إن واجبها المهني سيطر عليها لدرجة إهمالها كل ما عرفته من قبل عن «عتيقة» الأم، والابنة والأخت، ذابت كل حياتها الشخصية لتبقى رئيسة مصلحة الطب الشرعي تواجه الوباء بكل قوتها، فلم يكن لديها حق في الغياب أو التراجع أو الراحة، لأنها من تمد فريقها بالطاقة والقوة للاستمرار دون هوادة حتى القضاء على الوباء وكسر شوكة سلسلته الوبائية، فكان الالتزام الكامل طريقتها لإعطاء من حولها من الفريق الطبي دروسا ميدانية في قدسية عمل الطبيب. «الالتزام الكامل طريقتها لإعطاء من حولها من الفريق الطبي دروسا ميدانية في قدسية عمل الطبيب» وعن أول جثة ميت بسبب كورونا كان عليها تشريحها، قالت «أتذكر أنني في شهر مارس وجدت نفسي وحيدة أمام جثة شخص توفي بسبب كورونا بسبب رفض الجميع تشريحه، قمت بعملي دون تردد ارتديت الملابس الواقية وقناعا واقيا خاصا وبدأت في اكتشاف خبايا هذا الفيروس، كنت أبقى لساعات طويلة في بعض الأحيان من الساعة العاشرة صباحا إلى الثالثة والنصف زوالا، مع انتهاء عملية التشريح أضع المشرط جانبا لأمسك بالقلم وأبدأ في كتابة تقريري حول الوفاة». أكدت البروفيسور في سياق حديثها، أن أخبار وفاة الأطباء بفيروس كورونا كانت تنزل عليها كالصاعقة لأنها تعرف جيدا معنى عجز الشخص عن التنفس، حيث قالت» عندما أرى الأوعية مسدودة بسبب تخثر الدم عند تشريحي للجثة، أدرك عذابهم ومعاناتهم الشديدة قبل وفاتهم بسبب نقص الأوكسجين»، وأضافت «لا أحد يختار طريقة وفاته لكننا لم نتخيل يوما أننا سنموت أثناء تأديتنا وظيفتنا، نحن نصارع الموت في كل يوم، حتى وصلنا إلى قناعة بعد ما يقارب السنة مع الكوفيد أننا لن ننجو من العدوى، فعندما تجدي أمامك أناسا ماتوا بالفيروس من مختلف الفئات العمرية تدركين أن الفيروس لا يختار ضحاياه، سواء كان مسنا أو شابا أو طفلا، رجلا أو امرأة، غنيا أو فقيرا، إطارا أو عاملا بسيطا، لذلك أعتبر الكوفيد- 19فرصة ليراجع الإنسان نفسه، بالنسبة لي لم أشعر في حياتي بحب الله كما شعرت به في هذه المرحلة، فعند الانتهاء من العمل أشعر أنه سبحانه يمدني بالقوة للبقاء واقفة،.. أشعر بمساندته سبحانه داخل قاعة التشريح أثناء قيامي بواجبي». وفي الإطار نفسه، لم تخفي عتيقة شرواط شعورها وكل الأطباء بالإحباط بسبب الموجة الثانية وعدم استجابة المواطنين لتوصيات المختصين فيما يتعلق باحترام إجراءات الوقاية، حيث أكدت:» أكبر عرفان يقدمه المواطن للأطباء هو الالتزام بالإجراءات الوقائية، فنحن نقوم بواجبنا مهما كانت الظروف، الطبيب إنسان...علينا أن نتعاون جميعا للخروج من الأزمة، وعلينا أن نعلم أن جائحة فيروس كورونا مرحلة من حياة الإنسان عليه أن يتعلم فيها التفكير في الآخر، من عاشها ولم يفكر في غيره فسيبقى أنانيا طوال حياته». ونوّهت رئيسة مصلحة الطب الشرعي بمستشفى الرويبة بتفهم عائلتها لكل الضغط الذي تعيشه منذ شهر مارس الماضي، فتفاصيل حياتها تغيرت رأسا على عقب بعد انخراطها في معركة «كوفيد- 19»، كل اهتمامها يتمحور حول هذا الفيروس المجهول، لم تتنقل إلى قسنطينة لرؤية والديها منذ أكثر من سنة بسبب الأزمة الصحية. وقالت إن واجبها أصبح مع الكوفيد وطنيا لأنها تجاهد في كل يوم على مدار أكثر من تسعة أشهر لتحافظ على حياة المريض حتى لا يموت، وعلى كل الوسائل والإمكانيات الطبية حتى لا يحدث عجز أو تقصير، وتحافظ على نفسها حتى لا تكون سببا في عدوى أحد من محيطها، تحافظ على قوتها حتى تكون القدوة لطاقمها الطبي، وتحافظ على إيمانها لأنها القوة التي تمنحها الأمل في انتهاء الأزمة. «فيروس كورونا مرحلة من حياة الإنسان عليه أن يتعلم فيها التفكير في الآخر، من عاشها ولم يفكر في غيره فسيبقى أنانيا طوال حياته» وأكدت أن الأزمة خلقت حتى الطرفة في حياتها، فمرة في محطة البنزين طلبت من العون تعبئة سيارتها ب 1000دج كورونا، ومرة أخرى نسيت ارتداء خمارها وذهبت إلى منزلها دونه كل ذلك بسبب الضغط الكبير، لكنها وعندما تصل السادسة مساء تنفِس عتيقة شرواط عن روحها بدموع يخفف سيلانها عن سيدة تحارب من أجل بقاء الآخر، تتنهد بها الروح بعد فقد زميل أو قريب بالوباء، هي دموع تعيد شحن النفس والجسد طاقة إيجابية لمواصلة المعركة، بعدما أنهكها ضغط فاق كل التوقعات لم يتوقف طوال تسعة أشهر كاملة، لذلك وصيتها الوحيدة هو التزام المواطن ارتداء القناع الواقي للحد من انتشار العدوى. البروفيسور مصطفى بن عامر: تلاحم صنعته أيام تاريخية قال رئيس مصلحة الطب الداخلي بمستشفى الرويبة البروفيسور مصطفى بن عامر، إن الجائحة في شهر مارس كانت بالنسبة لهم مرضا جديدا لكونه جائحة عالمية، ما جعلهم نفسيا غير مهيئين لمواجهته لأن تكوينهم الطبي يجعلهم مهيئين لمواجهة حالات الوباء، المرض، حالات الهلع، بسبب تعاملهم اليومي مع الموت فمع مرور الأيام يكتسب الأطباء القدرة على التحكم فيها. وكشف أن الجائحة فرضت تعاملا خاصا من الأطباء، حيث اتفق الكبار منهم على البقاء في الصفوف الأولى حتى يقدموا القدوة للمتخرجين الجدد لإخراجهم من حالة الخوف التي أصيبوا بها بداية الجائحة، حيث قال:»اتفق الأطباء الكبار على تقديم المثل في المواجهة الكوفيد-19، فشكلنا الخط الأمامي و»سبّلنا» أنفسنا لنخوض المعركة بكل تفاصيلها وحتى نتجاوز الأسوأ في معركة الجزائر ضد الجائحة العالمية»، لذلك خضع الأطباء شهر مارس الماضي لتكوين حول طريقة ارتداء اللباس الواقي من كورونا، ليتم الاتفاق حول طريقة التكفل بالمرضى في استشفائهم، توجيهم وإعطائهم بمعية فريق شبه الطبي الدواء». في هذا السياق، قال البروفيسور بن عامر: «كنا دائما نحدد أولوياتنا عند وصولنا إلى مصلحة الطب الداخلي حيث نضع المحافظة على الأنفس، وعلى الوسائل، والمحافظة على الطاقم الطبي وشبه الطبي والعاملين معهم ضمن أهدافنا الأساسية، وقد لاحظنا في الأيام الأولى التزاما كاملا من طرف الأطباء وشبه الطبيين، فعندما ننتهي من العمل ننزع الملابس الخاصة بالحماية، لنرتدي ملابس المستشفى، وقبل أن نخرج من المصلحة نرتدي ملابسنا العادية، عندما نذهب إلى البيت، يتم تهيئة الملابس التي نرتديها داخله». «شكلنا الخط الأمامي و»سبّلنا» أنفسنا لنخوض المعركة بكل تفاصيلها وحتى نتجاوز الأسوأ في معركة الجزائر ضد الجائحة العالمية» وأضاف « .. في البداية كان الخوف من الأشخاص الذين يتعاملون مع مرضى الكوفيد-19، كنا دائما نوصيهم باحترام إجراءات الوقاية، كان الاتصال مع الأولياء عبر الهاتف، لا نزور الأهل، كنا نتحاشى دخول الأسواق والمساحات الكبرى، لكسر سلسلة العدوى»، مؤكدا أن الأطباء حوّلوا أنفسهم منذ البداية إلى حاجز أمام هذا الفيروس لمنع انتشاره. وعن حالات العدوى الأولى في طاقمه الطبي، قال البروفيسور:» الحالات الأولى من الإصابة بالعدوى كانوا أطباء، ثم أصيب الطاقم شبه الطبي وهنا حدثت صعوبات بسبب نقص عدد الأطباء في المصالح لكن رغم ذلك بقي الأطباء يعملون، بل حتى من يعانون أمراضا مزمنة التحقوا بفريق العمل وأكدوا بقاءهم معنا إلى غاية الخروج من الأزمة، ما عكس تضامنا كبيرا بين الأطباء وشبه الطبيين وعمال الصحة». وكشف البروفيسور أن الألم النفسي الكبير الذي شعروا به عند فقدهم لزملائهم من الأطباء أو شبه الطبيين أو عاملي الصحة لم يثن عزيمتهم، حيث قال:» لم نتوقف عن أداء واجبنا في الميدان، كنا حاضرين دائما، وحتى الأطباء الذين كانوا يشفون من الكوفيد-19 كانوا يعودون إلى مهامهم سريعا.. ورغم ضغط العمل الذي عشناه لم نضعف فكنا نسترجع تركيزنا بسرعة، وقد لاحظت شخصيا كيف أصبح العمل أنجع وسيلة للخروج من الأزمة». ووصف فقد واحد من الأطقم الطبية أو شبه الطبية بالمحنة الكبيرة تنهار بسببها نفسية الجميع كليا لكن استحالة الشعور بالضعف أمام الوباء يجعل الاسترجاع سريعا والعودة بقوة إلى الميدان. وقال في الوقت نفسه إن شهر رمضان لهذه السنة كان مميزا جدا بسبب التضامن الكبير للمواطنين مع الأطقم الطبية حيث حرص بعضهم على إحضار وجبات الإفطار لهم، بل بعضهم كان يتحمل عناء التنقل ليلا لإحضار وجبة السحور لهم، ما أعطى الأطباء وكل مستخدمي الصحة قوة أكبر ودعما نفسيا لمواصلة معركة كوفيد-19، مذكرا بأصحاب بعض الشركات الخاصة الذين كانوا يتبرعون بصفة دائمة بالأقنعة ووسائل الوقاية في بداية الأزمة. وأكد في هذا الإطار أن المرحلة الثانية من الوباء وجدت الأطقم الطبية لديها تجربة مكنتهم من تفادي الهلع والخوف اللذين عرفتهما بداية انتشار الجائحة، قال:» كعاملين في قطاع الصحة كانت لدينا تجربة مع الجائحة فرغم ارتفاع عدد المرضى في الموجة الثانية لم يكن هناك الخوف أو الهلع الذين كانا في الشهور الأولى، تلاشيا لأن الأطباء لاحظوا أن مقابل الإصابات والوفيات هناك مرضى شفوا من الوباء، ما أحدث توازنا في معادلة الوباء». وقال البروفيسور إن أكبر مشكل بالنسبة للأطباء هو عندما يصاب أحد أفراد عائلة طبيب ويكون في حالة صعبة لا يستطيع توفير سرير له في الإنعاش، في تلك اللحظة يعاني الطبيب مشكلا نفسيا حقيقيا لشعوره بالذنب والتقصير اتجاه والديه أو أخيه أو قريبه المصاب بالعدوى ليطرح سؤال: كيف يعمل في المستشفى ولا يستطيع إدخال والده إلى الإنعاش؟، وقال» نعيش حالته النفسية معه، لكن بمجرد دخوله غرفة الإنعاش نفرح جميعا وليس هو فقط». ولخص بن عامر التسعة أشهر من مكافحة الوباء في كلمتين هما أيام تاريخية، وقال إنهم عقدوا اجتماعا مع الأطباء الأصغر سنا والمتخرجين الجدد، ليعلموهم أنهم رغم تجربتهم الطويلة في الطب «ومنذ بداية ممارسة عملنا في الطب لم نعرف جائحة عالمية، لذلك لا بد لكم من أخذ الدروس منها أولا هي أيام تاريخية، وثانيا الجائحة أعطت درسا ميدانيا في تلاحم السلك الطبي وشبه الطبي والعاملين في قطاع الصحة والمواطنين، لذلك لا بد من إبقائها في الذاكرة». رياض، خوخة، وآخرون ... يجب ألا ننسى أولئك الذين كانوا ضحايا معركة الجزائر ضد الجائحة العالمية، فحتى الآن الجزائر تحصي 100 في قائمة شهداء الجيش الأبيض، «رياض –ب» واحد من هؤلاء الذي كانوا يعملون في إحدى المخابر غرب العاصمة، حيث أصيب بالعدوى شهر جويلية الماضي وكان سببا في نقل العدوى لوالديه وأخته اللذين توفوا أيام عيد الأضحى المبارك، الضغط النفسي الكبير الذي عاشه بسبب شعوره بأنه من قتل والديه جعله يصاب بالعدوى مرة أخرى لكن هذه المرة بأعراض حادة تسببت في دخوله الإنعاش الذي لم يطل البقاء فيه بسبب وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى ليكون شهيدا في قائمة ضمت المئات ممن سبلوا أنفسهم في سبيل إنقاذ حياة الآخرين. أما «خوخة» المختصة في التخدير والإنعاش فترقد اليوم في الإنعاش تنتظر مصيرها بعد إصابتها بالعدوى، والغريب أنها أصيبت بحالة نادرة من فيروس كورونا يصيب المخ بأعراض حادة، فهي تتنفس بصفة عادية لكنها في غيبوبة لا تخرج منها إلا لدقائق معدودة، حالتها أصابت زملاءها بحالة من الإحباط لوقوفهم عاجزين أمام حالتها النادرة، ورغم أنها على مدى عشرين سنة تعمل بتفان في غرفة العمليات، هي اليوم تنام في سرير الإنعاش لم يتحدد مصيرها عليه بعد. يجب ألا ننسى في وقفة اعتراف، أسدى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وسام «عشير» بعد الوفاة من مصف الاستحقاق الوطني، لثلاث ضحايا لوباء كورونا من السلك الطبي وهم الأستاذ سي أحمد مهدي والدكتورة بوديسة وفاء وسائق سيارة الإسعاف طالحي جمال شهر جوان الماضي في خطوة ثمنت واعترفت بالمجهودات المبذولة من طرف الجيش الأبيض في مواجهة كورونا.