إن إدراك الغرب للأهمية الإستراتيجية لإفريقيا ليس أمرا مستحدثا سواء بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية أو فرنسا وحتى لاحقا الإتحاد الأوروبي، إنما الجديد هو شمولية القارة بعمقها الإستراتيجي لعقدة اللاأمن الغربية، ففي الوقت الذي اتجهت أمريكا إلى تبني مقاربة بإعادة الانتشار الجيوستراتيجي هناك، تعيش فرنسا تخبطا في سلوكها الخارجي بين محاولة إحياء إرثها الكولونيالي أو لبس عباءة الإتحاد الأوروبي بحثا عن الشرعية والمسوغات الشرعية والشعبية لدعم التدخل، تحت مسمى ما عبّر عنه البعض بدور مرتزقة أوروبا، وعليه فقد تعددت القوى الدولية المتنافسة لبسط نفوذها على القارة الإفريقية، و سنحاول أن نتطرّق إلى أهمها: أولا: فرنسا وإحياء إرث الكولونيالية الإفريقي تشكل القارة الإفريقية إحدى أبرز اهتمامات السياسة الخارجية الفرنسية بالنظر للارتباطات التاريخية التي تجمعها مع فرنسا الاستعمارية، و التي توثقت اليوم بحكم المصالح الإستراتيجية التي تسعى فرنسا للمحافظة عليها في القرن الواحد و العشرين. لكن يبدو أن سلوك فرنسا الخارجي يشهد تحولا منذ التدخل العسكري في ليبيا، ففرنسا الرسمية والشعبية التي كانت تجنح نحو السلم باتت تتحدّث بمنطق الحرب. ويفسر هذا التحوّل في الموقف الفرنسي للاعتبارات والأولويات التالية: 1 - إحياء إرثها الكولونيالي في القارة الإفريقية، التي باتت تنازعها فيه أمريكا، الصين، تركيا، إيران..، ومثل التدخل العسكري في مالي استمرار لخبرة العقود الماضية التي شهدت تدخلات فرنسا في كوت ديفوار، تشاد، إفريقيا الوسطى، فضلا عن قواعدها العسكرية في السنغال وجيبوتي التي بقيت على أهبة الاستعداد للدفاع عن مصالحها الإستراتيجية. 2 - يفسر الاهتمام الأوروبي الفرنسي بالمنطقة تداخلها المحوري مع إفريقيا الشمالية والغربية وصولا إلى البحر الأحمر، وبات استقرار الساحل والصحراء يعني استقرار المصالح الفرنسية والأوروبية فيها يخصّ مصادر الطاقة واليورانيوم، حيث تمثل موريتانيا مخزونا معتبرا من الحديد المهم لصناعة الصلب في أوروبا، وتأتي النيجر رابعة في إنتاج اليورانيوم بنسبة 8.7 %من الإنتاج العالمي ويغطي هذا 12% من احتياجات الإتحاد الأوروبي، فضلا عن المخزون المهم للبترول في دول القلب (موريتانيا، النيجر، مالي وتشاد) حسب دراسات وتقارير الإتحاد الأوروبي. 3 - يمثل الساحل إحدى أهم الشواغل الأمنية الأوروبية والفرنسية التي اعتبرت من خلال عملياتها العسكرية في مالي أن تلعب لعبة «دومينو» معكوسة مع الجماعات الإرهابية ودرء أي عدوان مماثل على دول الجوار الواقعة تحت النفوذ الفرنسي (النيجر، تشاد، بوركينافاسووموريتانيا). ثانيا: الولايات المتحدةالأمريكية وإعادة الانتشار الجيوستراتيجي في إفريقيا
رغم أن أمريكا لم تهتم في سياستها الخارجية بإفريقيا إلا بقدر محسوب، وغالبا ما كانت توكل مهام إفريقيا لحليفتها فرنسا وبريطانيا، تاركة لهما بذلك عناء التدبير في مستعمراتهما التقليدية، فمصالحها في أوروبا، شرق أسيا والشرق الأوسط كانت أكثر أولوية، وبات جليا أن إفريقيا تموقعت في الزاوية الميتة للسياسة الخارجية الأمريكية، حسب تعبير بعض المحللين. لكن سرعان ما أدركت أن وجودها في إفريقيا مسألة حيوية وأثبتت واقع الأمر أن الاهتمام بها لا يقل عن مستوى إدراكها لمناطق حيوية أخرى في العالم، رغم تعالي الأصوات التي تؤكد تهميش القارة بعد الحرب الباردة، هذه الأخيرة فرضت في نهاية المطاف هندسة جديدة للسلم والأمن في القارة تحت وطأة أن الإستراتيجيين الأمريكيين يقدرون الأهمية المتزايدة للقارة وإمكانية أن تكون الجبهة القادمة في الحرب العالمية على الإرهاب، فانتقال الاهتمامات الأمنية الأمريكية من آسيا إلى منطقتي شمال وغرب أفريقيا، بعدما باتت أجهزتها الأمنية تعتقد أن تنظيم «القاعدة» نقل مركز عملياته إلى هذه المنطقة. لقد أعطت تفجيرات 11 من سبتمبر 2001، مبررات للولايات المتحدةالأمريكية من أجل فتح جبهات جديدة في حربها على الإرهاب، وكانت إفريقيا وبالضبط منطقة الساحل واحدة من هذه الجبهات، بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية التي باشرت منذ سنة 2002 بسلسلة من المبادرات لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، حيث بدأت مع مبادرة (بان – ساحل) ((PSI) Pan-Sahel Initiative ، وهو برنامج بلغ تمويله أكثر من 7 ملايين دولار، وشمل أربع دول في شمال إفريقيا، ألا وهي: (مالي، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا)، وحسب مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية؛ فإنّ الهدف الأسمى من هذه المبادرة يكمن في ضرورة منع الجماعات الإرهابية من استخدام المساحات الشاسعة ضمن الساحل الإفريقي لزعزعة استقرار المنطقة، وتحويلها إلى ملاذ آمن لهم مستغلين هشاشة الحدود ، كما تهدف هذه المبادرة إلى تدريب جيوش دول: (مالي، والنيجر، وموريتانيا، وتشاد) في مجال مكافحة الإرهاب، وتعزيز تنسيق التعاون الإقليمي مع التكنولوجيا الأمريكية وتبادل المعلومات. بين حقيقة المخاوف الأمريكية من تنامي الإرهاب في المنطقة وتهويله، فإن معالجة الظاهرة لا يمكن أن تكون بالوسيلة العسكرية فقط ولهذا الغرض سيقت مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء (TSCT) The Trans-Saharan Counter-Terrorism Initiative، وتوصف مبادرة (مكافحة الإرهاب عبر الساحل) في وثائق الحكومة الأمريكية بأنها إستراتيجية متعددة الجوانب، تهدف إلى هزيمة المنظمات الإرهابية من خلال تعزيز القدرات الإقليمية لمكافحة الإرهاب، وتأسيس التعاون بين قوات الأمن في المنطقة، وتعزيز الحكم الديمقراطي والعلاقات العسكرية الثنائية مع الولايات المتحدة، كما يهدف البرنامج إلى تسهيل التعاون والتنسيق بين دول الساحل ودول المغرب العربي (الجزائر، المغرب، تونس) في مجال مكافحة الإرهاب. غير أنّ عسكرة السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا لم تتوقف عند هذا الحدّ، بل يمكن القول بأنها قد بلغت ذروتها، وذلك بإعلان بوش (الابن) يوم 6 فيفري 2007 عن إنشاء قيادة عسكرية جديدة تخص القارة الإفريقية، لتتولى (أفريكوم) AFRICOM مهامها بصفة رسمية ابتداء من الفاتح من أكتوبر 2008، وذلك بغرض الجمع بين جميع البرامج الأمنية الأمريكية في القارة، وتحقيق التنمية (الديمقراطية، الصحة، التعليم)، وتحسين جهود التعاون في سبيل القضاء على الإرهاب. هذا ويؤشّر حدث تأسيس (أفريكوم) إلى أمرين مهمين، يتعلّق الأمر الأول بإصرار الولايات المتحدةالأمريكية على دخول دائرة الصراع مع أوروبا وآسيا على المسرح الإفريقي، وهو صراع مرتبط بالدرجة الأولى على الموارد، وفي مقدمتها النفط، في حين يخصّ الأمر الثاني تزايد الأخطار التي بدأت تهدد السفارات والشركات الأمريكية في إفريقيا منذ الهجوم المزدوج على السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998م، ثم تفجير السفينة الأمريكية (كول) في خليج عدن سنة 2000م، وتزايد النشاط الإرهابي في كلٍّ من القرن الإفريقي ومنطقة الساحل وغرب إفريقيا. لقد أدركت الولايات المتحدةالأمريكية أهمية القارة الإفريقية، فزادت رغبتها في التوغل في العمق الإفريقي، والارتكاز على الدول ذات الثقل في مختلف الأروقة لتحقيق ودعم النفوذ الأمريكي قاريا، فوجدت في خليج غينيا المكان المناسب لبسط نفودها ،لا سيما بعد الاكتشافات النفطية سنة 2000 (أكثر من 250 حقلا نفطيا في غرب افريقيا)، وهذا ما أكده نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتسارد تشيني في تصريح له سنة 2001، حيث قال: «من المتوقع أن تكون غرب إفريقيا واحدة من أسرع مصادر النفط والغاز نموا في السوق الأمريكية»،خاصة بعد توصل المختصين إلى أن نفط إفريقيا عالي الجودة، وخال من المواد الكبريتية، مما يجعله مناسبا لطبيعة المنتجات الصناعية الصلبة، ويعطي فرصة لتكرير بترول خليج غينيا في السواحل الشرقية للولايات المتحدةالأمريكية، مع العلم أن المنطقة باتت تموّل أمريكا بحاجتها الطاقوية في حدود 20 % والنسبة وصلت بحلول عام 2015 بين 25 و30%، بما يعادل 70% من إجمالي الواردات الأمريكية بالقارة . لقد أصبح جليا، أن التعزيزات العسكرية الأمريكية في القارة الإفريقية جاءت من مدخل ضمان وتدفق الإمدادات الطاقوية، وبالتالي لم تكن قضايا الإرهاب والجريمة المنظمة غير ذريعة لها. وعليه يبدو أن الانسحاب الأمريكي من دوائر الصراع في أفغانستان والعراق سيكون لصالح اختراق جديد لغرب إفريقيا وخليج غنيا بيساو. ثالثا: تصاعد نفوذ العملاق الصيني في إفريقيا مع نهاية الحرب الباردة دشنت الصين عهدا جديدا في ملف علاقاتها مع إفريقيا، انتقلت من الدعم القوي للاتجاهات الإيديولوجية إلى منهج براغماتي يعطي الأولوية للتجارة والاستثمارات مع دول القارة، أمام انهيار مبررات تقديم نفسها باعتبارها الحليف الوفي للعالم الثالث في مواجهة الهيمنة السوفياتية والإستعمار الغربي. طيلة العقدين الماضيين ومع توسع الاقتصاد الصيني بمعدل نمو سنوي قوي، انعكس على ازدياد الطلب على الطاقة والحاجة المتزايدة للموارد مقابل ضعف أو عدم قدرة الإنتاج المحلي من الوفاء بالطلب المتزايد عليها، فكان لا مفر من توجيه الأنظار إلى الخارج للبحث عن مصادر بديلة تضمن التزود بها بوتيرة متسلسلة ومستقرة، ففي العام 2004 أصبحت الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدةالأمريكية، كما شارفت بحلول العام 2010 على استهلاك 9.5 مليون برميل يوميا بما يعادل . 610% من الاستهلاك العالمي ، ومن المتوقع أن يزداد استهلاكها للنفط والغاز من 33%عام 2006 إلى 60% بحلول عام 2022، في ظل قصور الإنتاج الأسيوي من النفط والغاز على النمو بالسرعة الكافية لتلبية الاحتياجات الصينية. وتشير التقديرات إلى أن 25% من واردات الصين الإجمالية تأتي حاليا من إفريقيا، مما حد بها أن تضع في سلم أولوياتها الاحتفاظ بعلاقات قوية مع موردي الطاقة الإفريقيين من خلال: - عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك البلدان من خلال دعم ومساندة أنظمتها السياسية، وقد سعت الصين لمساندة أصدقائها الأفارقة بالدعم السياسي والمساعدات الاقتصادية والعسكرية، بالإضافة إلى مساندتهم في المحافل الدولية. - في نضالها التاريخي ضد الإمبريالية وخدمة قضايا التحرّر والوطنية تقدم بكين النموذج التنموي الصيني الفريد من خلال الثناء على النمو الاقتصادي الكبير الذي تحقّق تحت إشراف نظام الحزب الواحد، وهو النموذج الذي يصلح أن يحاكيه الأفارقة كونه الكفيل بتحقيق الاستقرار لهم، مقابل ضمان استمرار تدفق موارد الطاقة التي تحتاجها الصين. - تجاوزت الصين مرحلة الدخول البطيء إلى القارة إلى بناء العلاقات الإستراتيجية مستندة لقوتها الاقتصادية المتسارعة، إذ تمكنت من أن تصبح الشريك التجاري الأول لعدد واسع من دولها، وسجل التبادل التجاري قفزة نوعية وصلت إلى 107 مليار دولار عام 2009، بما يمثل عشر أضعاف حجم المبادلات السياسية قبل ثماني سنوات، رغم أنها لم تمثل مع بداية الألفية سوى 2.5% من حجم التجارة الخارجية الصينية، لكن سرعان ما تحولت إلى ثالث شريك تجاري للقارة بعد الولايات المتحدةوفرنسا. يبدو أن إستراتيجية «رابح / ربح» Win/Win)) التي انتهجتها القوة الناعمة الصينية في القارة قد أتت أكلها من خلال رفع سقف المنح والقروض، ونسجل هنا ارتفاع مساعدتها للتنمية من 1.8 بليون دولار إلى 10 بليون سنويا، كما فتحت باب القروض الميسرة من 24 بليون إلى 100بليون دولار بحلول العام 2010 بوساطة صندوق التنمية الأفرو - صيني. تنظر الصين إلى أفريقيا على أنّها خزّان إستراتيجي للموارد الأوليّة والطبيعية في العالم، الشيء الذي جعل نشاطها يتزايد لتوسعة نفوذها في القارة الإفريقية من أجل تأمين إمداداتها من الموارد الطبيعية، ومن أجل مواجهة النفوذ السياسي والاقتصادي الغربي، وتوسعة نفوذها على الصعيد العالمي في الوقت نفسه. إذن يمكن الجزم أن هذه القوى الدولية (الولايات المتحدةالأمريكيةوفرنساوالصين)، لم تأتي إلى إفريقيا من أجل إخراجها من الفقر والمجاعة والنزاعات..، كما أنها لم تتوغل في هذه القارة «الغنية - الفقيرة» من أجل خلق التنمية في بلدانها أو من أجل تسويق الديمقراطية والحكم الراشد لأنظمتها، ولكن يمكن الجزم أن البحث عن إمدادات الطاقة والثروات الطبيعية المختلفة، هي سبب هذا الاهتمام بالقارة الإفريقية، مما جعلها مجالا للتنافس الشرس بين القوى الدولية المختلفة.