الشغل الشاغل في ليبيا اليوم هو تمهيد الطريق لتنظيم انتخابات 24 ديسمبر المقبل، من خلال التفاهم على قاعدة دستورية تؤطر هذا الموعد الحاسم، وأيضا إيجاد حلّ عملي ونهائي لمسألة الوجود الأجنبي والمرتزقة. إذا كانت عملية الاتفاق على القاعدة الدستورية تعرف بعض التعثر، فإن قضية إجلاء المرتزقة، باتت تحظى بإجماع دولي، حيث تتعالى الأصوات من كلّ حدب وصوب تستعجل التوصّل إلى جدول زمني واضح ل»تحرير» ليبيا من تجار الموت هؤلاء ووضع آلية خاصة لإنهاء الوجود الأجنبي الذي لم يحمل غير الويلات للجارة الشرقية والمنطقة بأسرها. ومع تفاؤل الليبيين بإمكانية التخلّص من الأجانب متعدّدي الجنسيات، هناك بالمقابل دول باتت تعيش في رعب حقيقي خشية، أن تكون أراضيها محطّة قادمة لهؤلاء الدمويين، حيث أعربت بلدان الساحل الإفريقي عن مخاوفها الشديدة من تصدير الإرهاب إليها ومضاعفة متاعبها الأمنية، وقال قادة كلّ من موريتانياومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو نهاية الأسبوع الماضي، أن انسحاب حوالي 30 ألف مرتزق «أرقام الأممالمتحدة تقول 20 ألف» بعتادهم العسكري دون خطّة واضحة ودون تحديد مناطق استقبالهم، ستكون له تداعيات خطيرة على أمنهم وعلى أمن المنطقة المشبّعة بالإرهابيين وبتنظيمات الجريمة المنظمة وبالعنف والقتل والخطف. ليبيا إذن تتحسّس طريق الخلاص والتحرّر من تجار الموت والحروب، لكن وراء حدودها الجنوبية، هناك دول وشعوب تترقّب بقلق شديد التداعيات، لأنّها تدرك أشدّ الإدراك بأن المرتزقة الذين سيخرجون منها لن يعودوا إلى أوطانهم، فليس هنالك دولة توافق على عودة دموييّن مثلهم، لهذا فالاحتمال قد يكون كبيرا لالتحاقهم بمنطقة الساحل التي تشهد هشاشة أمنية لا مثيل لها، هذا إذا لم يكن جزءا كبيرا منهم قد اخترق حدود ليبيا غير المراقبة التي تحوّلت إلى «سوق للإرهابيين والدمويين عبر الحدود» وحطّ رحاله بهذه الدولة الإفريقية والأخرى. دول الساحل تأكل الحصرم على مدار عشر سنوات، والأزمة الليبية تلقي بظلالها الداكنة على منطقة الساحل إذ لم تسلم دولة من دولها من شظاياها الحارقة ومن تأثيراتها وتداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية الخطيرة، وإن كان بدرجات متفاوتة. ومع توالي تطورات الأزمة الليبية، انتقلت حالة الارتباك التي اتسم بها المشهد الليبي إلى الجوار، حيث كان لدول الساحل الأفريقي نصيبًا وافرًا من هذا الارتباك، خاصة مالي والنيجر وتشاد، فتمدّدت حالة الفوضى الأمنية جنوبا مع النمو غير المسبوق لأنشطة الجماعات الإرهابية التي وجدت في الفراغ المؤسساتي الليبي فرصة سانحة لاختراق الحدود ونقل الدمويين وتهريب البشر والمهاجرين وانتشار الأسلحة التي بلغت ما يقرب ال 45 مليون قطعة سلاح وصلت حسب بعض التقديرات إلى 14 دولة إفريقية، هذه التطورات تسبّبت في تردّ أمني لم تشهده منطقة الساحل من قبل، حيث تضاعف عدد المجنّدين في التنظيمات الإرهابية، ومدّدت هذه الأخيرة رقعتها الجغرافية لتشمل غرب إفريقيا قاطبة، بالإضافة إلى بلدان كثيرة أوقعها حظّها الأسود في شرك الدمويين. وبالإضافة إلى المعضلة الأمنية، ظهرت العديد من المشكلات الاقتصادية؛ فإلى جانب انهيار الدور الاقتصادي الليبي في أفريقيا جنوب الصحراء، خاصة في تشاد والنيجر، حيث أسهمت الاستثمارات الليبية في تطوير الحياة الاقتصادية في هذه الدول، أدت الأزمة الليبية إلى عودة مئات الآلاف من المهاجرين الذين كانوا يعملون في ليبيا، كما توقف مشروع شقّ «الطريق العابر للصحراء» الذي قُدر طوله بحوالي 800 كلم والذي استهدف ربط ليبيا بالنيجر عبر الصحراء، وكانت ليبيا تتولى القسم الأكبر منه، كما توقفت العديد من المشروعات الاستثمارية الأخرى. وبالنظر إلى الوضع الأمني الصعب الذي يعيشه الساحل الإفريقي، يتجلى واضحا بأن مخاوف قادة دوله من احتمال أن تنتقل جحافل المرتزقة المرحّلة من ليبيا لتنتشر في الصحراء الكبرى ومنطقة غرب إفريقيا وعمق القارة السمراء، تبدو مشروعة ومنطقية جدّا، فانتهاء الأزمة الليبية قد لا يحمل واقعا مستقبليا مطمئنا للجميع، بل قد يزيد من تعقيد البيئة الأمنية للجوار والإقليم، خاصّة مع احتمال التحاق هؤلاء المرتزقة وانضمامهم إلى الجماعات الإرهابية التي تتصاعد ضرباتها في غرب أفريقيا. وترتفع حدّة المخاوف هذه، بالنظر إلى التوقعات التي تشير إلى إمكانية أن يدخل المرتزقة المرحّلون في قلب صراع مفتوح بين التنظيمين الإرهابيين الغريمين اللذين يتنازعان السيطرة على المنطقة «القاعدة» و»داعش»، فكلّ تنظيم بمختلف فروعه وتشكيلاته سيعمل على تجنيد هؤلاء المرتزقة وضمّهم إلى صفوفه ما يدفع بالنشاط الإرهابي وآثاره المريعة نحو منعرجات جديدة، لا سيما بعد التوسّع والتمدّد الجغرافي للتنظيمات الدموية بالساحل والصحراء، وتنامي قدراتها على التجنيد والاستقطاب. إرهابيون ومرتزقة.. وجهان لعملة واحدة إذا كانت بعض الدراسات والتقديرات تشير إلى وجود فرق كبير بين المرتزقة والجماعات الإرهابية من حيث أهدافها وأساليب نشاطها، فإن كثير من الخبراء المتخصّصين لا يرون تباينا بين الطرفين، فجماعات المرتزقة حسبهم، استفادت في السنوات الأخيرة من عدد مهم من التكتيكات والإستراتيجيات التي تستخدمها الجماعات الإرهابية، والتي تختلف كلية عن تلك التي كانت تستخدمها جماعات المرتزقة التقليدية. هذا إلى جانب تغير طبيعة البيئة السياسية الدولية، فقد تغيّر نشاط المرتزقة في إفريقيا ليأخذ شكل عصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية التي كرست منطق الفوضى داخل القارة مع ما تشهده من تدخلات دول خارجية تراهن إما على المرتزقة أو الإرهابيين لتنفيذ أجنداتها وتحقيق مصالحها. وإذا كان الجميع يدرك جيّدا بأن جهات خفيّة تدعم التنظيمات الإرهابية وتحمي ظهرها، فإن جماعات المرتزقة تحظى بنفس الدّعم والحماية، والفرق أن الجهات التي تقف وراءها باتت لا تخفي وجهها ولا تداري أهدافها المرتبطة أساسا بمدّ نفوذها، حيث المال والثروة. يبقى في الأخير، أن نشير إلى أن مخاوف دول الساحل الإفريقي من إمكانية أن تكون أراضيها محطّة قادمة للمرتزقة الوافدين من ليبيا مبرّرة ومشروعة، لهذا وجب على الأممالمتحدة والدول المنشغلة بتسوية المعضلة الليبية، أن تحرص على إخراج المرتزقة من ليبيا مع ضمان عدم تنقّلهم إلى منطقة غرب إفريقيا أو أيّ منطقة أخرى، فلا يعقل حلّ أزمة هنا وإذكائها هناك.