الجزائر، تقبض في راحتها على جمرات ملتهبة بغضب الأمة، الثائرة المتأهبة للحرية والثورة والتغيير، والجزائريون ما زالوا يعشقون بعبثية الثائر، يضيئون الدنيا بجمال أرواحهم، بصمت وبساطة وتسامح، وقلب خاشع نحو التغيير، في ذكرى استقلال الجزائر. سأمدّد زمن وقوفي أمام صورتها الجميلة، لعلّ الحلم ذاته يزور فلسطين ويزورني مرّة أخرى، في عهود من الصباح تتجدد، من الصغر المبكر، إلى ثورة الوجدان. تزورني الجزائر، منذ طفولتي المبكرة، عندما كنّا نغني بأفواه الأطفال: قسماً بالنّازلات الماحقات والدّماء الزّاكيات الطّاهرات والبنود اللاّمعات الخافقات في الجبال الشّامخات الشّاهقات نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر فاشهدوا، فاشهدوا، فاشهدوا وشهد العدو قبل الصديق، أن عزم الثورة هو المنتصر، وأن مسيرة النضال هي الأكثر أمناً ونقاءً وخلوداً للحرية. حلم عايشناه مع الجزائر، ونشيدها الوطني الثوري، يداعب أسماعنا منذ نكبتنا الأولى (1948م) رددته المدارس الابتدائية وأزقة الشوارع وكل بيت في مخيمات اللاجئين المستحدثة على جوانب المدن، بالسر أو العلن، عرفنا أن الثورة هي الطريق للعودة والحرية...ونسينا للحظة أن نسأل عن اسم الشاعر الذي صاغ نشيد ثورة الجزائر، فعرفناه فيما بعد، إنه الشاعر «مفدي زكريا» الذي نظّمه في عنفوان الثورة في العام (25 أبريل 1956) وآلاف الشهداء تسابق بعضها إلى الخلود، وأصبح النشيد الوطني الجزائري بعد الاستقلال في العام (1962م) في رحلة الصمود والتحدي لغطرسة العدو، وتحقيق حلم الاستقلال بمليون شهيد أو ما يزيد. أصداء الطفولة تلك، ما زالت تتردد في الذاكرة، فما زلت أذكر تلك الطوابير أمام صناديق التبرع لثورة الجزائر، نتفاخر في المدارس الابتدائية بوضع «التعريفة» (أصغر عملة أردنية) في الصندوق، ويعتز المواطنون بما تبرعوا في صناديق تبرع المواطنين، وتتفاخر النساء بما تبرعت من قطع الذهب التي احتفظت بها لمواجهة القدر المائل. وما زلت أذكر: كلما ازداد عدد الشهداء في الثورة، ازدادت قيمة التبرعات في حملة لا تتوقف. وما زلت أذكر، أن الفلسطينيين كانوا من أكثر الشعوب العربية سخاء في تبرّعاتهم بما امتلكوا، خوفاً من أن تتكرر تجربة النكبة في مكان آخر من الوطن العربي، وتصبح الحيادية والأمر الواقع جزءاً من الخيانة. وعلى عتبات الشباب، بدأ الوعي يتدفّق بصور مختلفة، وكانت قصة «جميلة بوحيرد» الأسيرة الجزائرية التي أسعفها الموت، فوقعت أسيرة مسجّلة الصّمود والتحدي في مواجهة الاستعمار الفرنسي، بكل صلفة وعنصريته وفاشيّته، وقد ساهمت السينما المصرية بإخراج فيلم «جميلة بوحيرد» مثّلته الفنانة شادية، والفنان محمود المليجي ضمن رسالة مصر القومية، فأبكت كل النساء اللواتي حضرن الفيلم، وأغضبت الرجال، وأثارت الأطفال، واستمر العرض شهوراً عدة، فكان إلى جانب صناديق التبرعات ظاهرة قومية، فتحوّل نضال المرأة الجزائرية إلى مقالات وحوارات في الصحف والمجلات، وأجّجت المشاعر في نفوس الشعراء، فكتبوا قصائدهم النارية الرافضة، وبعضهم اشتهر بها، أذكر في اللقاء الأول الذي التقيت به مع الشاعر الفلسطيني المعروف «كمال ناصر» سألني وقد أبديت إعجابي بقصائده: أي القصائد أعجبتك من نظمي؟ حاولت التذكر؛ لكنني نسيت كل القصائد إلا قصيدة واحدة بعنوان «جميلة بوحيرد الجزائرية»، فضحك وأعاد إلقاء القصيدة، كأنه على خشبة مسرح، وأصرّ الجمهور على سماعها فألقاها بكبرياء الشاعر، وحرارة الشهرة المطلوبة. وبعد عدّة سنوات، التقيت مع كمال ناصر، فاقترب مني قائلاً: أما زلت تذكر قصيدتي «جميلة بوحيرد الجزائرية» لقد أعجبني اختيارك بعد أن نسيت الكل؛ لكنني فعلاً أحب هذه القصيدة وأعشقها. وما أن انتصر شعب الجزائر بثورته العارمة، حتى بدأ قادتها يصرّحون بقوة العطاء والثورة، وأنّ انتصار الجزائر ما زال ناقصاً حتى تتحرر فلسطين من الاحتلال الصهيوني الغادر، وعمّ هذا القول مختلف أوساط الشعب الجزائري. ونتيجة هذا الانتصار السّاحق، ارتفعت معنويات الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده، داخل الوطن المحتل وخارجه في المخيمات المحيطة بأرض فلسطين، وفي أماكن الشتات البعيدة. ومع انفجار الدعوة لقيام الثورة الفلسطينية في العام 1957م، ومع ممارسة الكفاح المسلّح الثوري في العام 1965م، كانت الجزائر وثورتها هي الأساس المتين الذي يقود معظم الثوريين الفلسطينيين والعرب، وبدأنا ندرك، وعلى لسان القادة في الخلايا المؤسسة، أن انتصار ثورة الجزائر هو الدافع الأساس لقيام الثورة الفلسطينية. ومنذ تلك اللحظات والجزائر في قمة العطاء لشعب فلسطين وثورته، والفلسطينيون لا يجدون الأمان إلا في أحضان الجزائر. بمساعدة الجزائر أقمنا تنظيمنا الثوري المسلح باستقلالية القرار، والدعم المادي والمعنوي، وبعلاقة الجزائر مع التنظيمات والقوى في أوروبا أقمنا علاقات متقدمة معها، في ظروف من الحوار والتفاهم، وصلت إلى حد اعتبار الحركة الصهيونية منظمة عنصرية فاشية، ويكفي أن نشير إلى أن معظم جلسات المؤتمر الوطني الفلسطيني كانت تنعقد في الجزائر، بعيداً عن كل محاولات التدخل العربية وغيرها. يكفي أن نشير إلى المقولة الخالدة للرئيس الجزائري حين قال: «نحن مع ثورة فلسطين ظالمة كانت أو مظلومة». بعض الذكريات تحضرني، ونحن نحتفل باستقلال الجزائر من الطفولة المبكّرة حتى التنظيم الثوري، حتى إنجازات الثورة الفلسطينية، مع تعقيد القضية الفلسطينية في ظروفها اللاحقة، والجزائر...بكل فئاتها قاطبة إلى جانب فلسطين. كانت وما زالت.