من بين أهم عادات وتقاليد المدينة العتيقة، تراث تنفرد به المدينة وولايات شرقية من الوطن، وهو لباس تقليدي يعبر عن المقاومة الشعبية للاستعمار الفرنسي يتميز بأبعاد اجتماعية وتاريخية تركت بصمة بزوايا أزقتها العتيقة وتاريخا لسكانها ونسوتها اللائي لا تزال «الملاية القسنطينية» تحتل مكانا في قلوبهن ورمزا لتاريخ لم يندثر بالرغم من مرور السنين. اللباس يعتبر من أهم مقومات الهوية وركيزة أساسية يرتكز عليها التراث الثقافي المحلي، إلا أنه لم يعط حقه الكافي والحقيقي فالجزائر تتمتع بتنوع وتعدد هائل في اللباس وكل قطعة من لباسنا الثقافي والتراثي تستحق دراسة وتحقيق باعتبار أن كل ما نزخر به اليوم هو نتاج تراكم لموروث حضاري وأن عديد الألبسة التي لا تزال تلبس اليوم بطريقة أو بأخرى ضاربة أصولها في عمق تاريخ هذه الأمة. وقد احتفلت مؤخرا عاصمة الشرق الجزائريقسنطينة عن طريق المتحف الوطني للفنون والتعابير التقليدية «قصر أحمد باي» لاستعادة أحد الألبسة التقليدية القديمة والمعروفة بمصطلح «الملاية» من خلال تنظيمها لأول تظاهرة ثقافية تراثية يخرج من خلالها هذا الموروث من جو المتاحف والقصور نحو شوارع المدينة بهدف إعادة إحيائها واستذكار تاريخها والحفاظ على الهوية الجزائرية المرتبطة بهذا الزي المتميز والمتجذر في أذهان سكان قسنطينة وبعض الولايات الشرقية المجاورة. فعاليات الطبعة الأولى من التظاهرة الثقافية والتاريخية «يوم الملاية القسنطينية» نظمت تحت شعار «احكي يا قسنطينة ....الملاية تراث ورواية» شهدت تحضيرات حثيثة انطلقت بتوجيه دعوات للحرفيين وممتهني الخياطة، وكذا المصورين الفوتوغرافيين للمشاركة في فعاليات التظاهرة التي نظمت أول مرة بعاصمة الشرق الجزائري، حيث سيتم تنظيم عرض أزياء بلباس الملاية مع فتح ورشات لكيفية ارتدائها واكسسواراتها المتميزة واختلافها عن باقي الولايات الشرقية مع عرض أشرطة وثائقية عن الملاية القسنطينية وأصولها التاريخية والتراثية والتي عادة ما ارتبطت بوفاة صالح باي الذي حكم بايلك الشرق لمدة طويلة فاقت 21 سنة. إخراج الحرفة من أروقة القصور والمتاحف هذا وقد انطلقت عملية تسلم الأعمال الفنية المتمثلة في الملايات التي صممت من طرف الحرفيين المشاركين، وفق معايير محددة ومتعارف عليها حتى يتم لاحقا فتح باب المنافسة لأحسن صورة بمشاركة عارضات أزياء يرتدين الملاية القسنطينية، ليتم اختيار أحسن ملاية وأحسن صورة ليتم اختيار الفائزين آخر أيام التظاهرة، كما اقترح متحف أحمد باي فيلما وثائقيا سيقدم من خلاله الكلمة للمختصين والمؤرخين في علم الاجتماع، الحرفيين، الفنانين وكذا للنساء للحديث عن تاريخ الملاءة والفروقات التي تمثلها في كل ولاية شرقية. التظاهرة تهدف، بحسب الجهة المنظمة لإحياء اللباس التقليدي الذي يتميز بأبعاد اجتماعية وتاريخية ورمز من رموز المقاومة واكتشاف جزء من التراث المادي الذي سيتم إثرائه بتنظيم ورشة حول فن ارتداء الملاية التي أضحت ناذرة بالمجتمع القسنطيني بعدما كانت قديما من بين أهم الأزياء التي تشتهر بها نسوة قسنطينة، لتؤكد في هذا الشق مديرة «قصر أحمد باي» أن خرجة الملاية تعتبر فكرة لإحياء اللباس التقليدي سيما وأنها مهددة بالزوال في ظل الزخم والتنوّع الثقافي الذي تعيشه حاليا وأنه سيتم اعتمادها كعادة سنوية من خلال تنظيم طبعات أخرى بأفكار متعددة تضمن حمايتها كتراث وموروث تاريخي يعبر عن حالة عاشها سكان المنطقة في وقت مضى، سيما وأن هذا اللباس جاء كتعبير عن حالة حزن جاءت بعد حادثة وفاة بايلك الشرق صالح باي وهي بحسب عديد المؤرخين أحد الروايات المتداولة عن حقيقة ارتداء النسوة الملاية في فترة معينة ولون معين. الملاية نتاج تواجد الدولة العبيدية بالشرق الجزائري كشف الباحث في التاريخ وثقافة الجزائر «شلالي محمد النذير» متحدثا ل «الشعب» أن أصول الملاية، اللحفة، الحايك الكساء، الملحفة، الرداء، الطيلسان، تعود الى أزمنة وحضارات سابقة وكلها تسميات ومرادفات لنوع واحد من اللباس، لكن ببعض الاختلاف والخصوصية وعلى حسب كل تسمية هناك تاريخ اللباس، فنجد أن أقدم لباس عرف هو الطيلسان وهو لباس الأنبياء عليهم السلام، وهو الوشاح والكساء الذي يكون على قطعة واحدة يلتحف به لتغطية كامل الجسم ويوضع فوق الأكتاف، كما يعرف بالرداء أيضا والرداء هو ما يلبس فوق الثياب ويستر كامل الجسم يصطلح عليه اليوم في وقتنا الحالي الحايك وقيل أن الحايك تكلم وقال «تلبسني الطفلة كي تخرج عروس ويلبسني عبد القادر تحت البرنوس» . وأضاف الباحث بالقول «أن ما يشاهد من لباس تحت البرنوس في صورة الأمير عبد القادر هو الطيلسان الذي يصطلح عليه الحايك وكان يلبس تحت البرنوس وكان لباس الرجل من خاصة القوم ونجده أيضا في مناطق أخرى من حوض البحر الأبيض المتوسط ويكون من قطن ومن حرير ومن قطن وحرير في نفس الوقت، ومن صوف ولازال يلبس في ليبيا حتى أن سكان الحوض المتوسط قديما لبسوا هذا النوع من الرداء من إغريق ورومان، وهذا ما نجده جلّي في منحوتاتهم والتماثيل التي نجدها أيضا في متاحفنا العمومية. لكل لباس قصّة ولكل قصّة حضارة أكد الأستاذ «أن التحقيق التاريخي يطلعنا على أن ما ورثناه اليوم من لباس هو دليل على أصالة ورسوخ وأن ما يعطي لباسنا قيمة ورسوخا خصوصياته وارتباطه بالذاكرة الجماعية للشعوب، حيث ارتدت المرأة البربرية الامازيغية الملحفة ولبست العربية العباءة والوشاح، كما تشارك الرجل والمرأة في لباس واحد وأكبر دليل هو الرداء أو الطيلسان أو الحايك الذي جاء اسمه من الحياكة، وهي حرفة نسج القماش وقد وجد في وقت مضى في بلادنا أسواق الحياكة وكان في عنابة أكبر أسواقها سوق الحوكة الذي كان من أكبر أسواقها وأشهرها وعرفت به صناعة الحايك وعرف في عنابة حايك بلهوان نسبة للعائلة التي كانت تصنع الحايك. كما عرف في سائر الجزائر حايك لمرمة، وهو أفخر أنواع الحايك وينسج من أجود أنواع خيوط القطن والحرير وحايك الذهب الذي يزين بسلك ذهبي وحايك العشعاشي في تلمسان ويعرف أيضا بالكساء بالغرب الجزائري وبالسفساري في تونس، وهو أيضا الملحفة عند نساء بوسعادة والاغواط وغرداية ووادي سوف والصحراء وتكون غالبا من القطن وهو البوعوينة أيضا. وقد لبست المرأة الأندلسية الحايك واشتهرت به ولبسه المورسكيات وتفنن أهل الأندلس في الحياكة وقيل أن الحايك أتى مع الاندلسيين، إلا أننا نجده اللباس الرسمي لنساء أقدم حواضر صحراء الجزائرغرداية، وهو أيضا اللباس الرسمي لنساء عاصمة الزيانيين والمحروسة، لباس المرأة في شرق الجزائر في عنابةوقسنطينةوسطيف وقالمة وسوق أهراس بالرغم من شهرة قسنطينة بالملاية والشرق ككل، إلا أن الحايك كان يلبس كما كانت تلبس الملاية أو اللحفة. الملاية وليدة أحداث تاريخية ارتبطت قصة لبس الملايا بوفاة الباي «صالح بن مصطفى باي» بايلك الشرق الجزائري الذي قتل في سبتمبر من سنة1792 وحزن على قتله، وهذا ما تردده الذاكرة الجماعية، أما إذا راجعنا التاريخ فنجد أن لبس السواد عند أهل قسنطينة سابق لصالح باي والوجود العثماني في بر الجزائر، فلفظ الملاية في دارجة أهل العراق يعني المرأة النائحة، وهو اسم خاص أيضا بالمرأة التي ترثي الإمام الحسين، وهو أيضا لفظ يطلق على المرأة التي تبكي الميت وتعرف بالعدادة، لأنها تعد خصال الميت، وهذا عرف من أعراف الشيعة. وإذا قلنا بهذا نتذكر مرحلة تاريخية قديمة عاشتها الجزائر والشرق الجزائري هي مرحلة عهد الدولة العبيدية الفاطمية التي كانت على مذهب الشيعة ونشرت دعوتها في شرق الجزائر مابين القرن الثالث والرابع الهجري الموافق القرن العاشرة ميلادي، حيث أن هذه الدولة كانت لها قبيلة كتامة اكبر مناصر وموالي لها كما والاها أيضا الصنهاجيون وتشييع الأهالي لدعوتهم لكن حكمهم لم يتجاوز السبعين سنة في شرق الجزائر وسرعان ما ترك الأهالي التشيع ورجع المذهب السني لحياتهم. وكشف الباحث في التاريخ «أن لبس السواد كان ولا يزال معتمدا عند الشيعة وربما لباس الملاية عرفه الشرق الجزائري مع الدولة العبيدية الفاطمية ونجد لفظ الملاية موجود أيضا في مصر والشام خاصة وأن دولة الفاطميين استقرت بالشرق وعاصمتها الثانية «القاهرة» التي بنيت بسواعد رجال قبيلة كتامة البربرية الجزائرية، أما الحدث التاريخي الموثق الذي وقف عليه الباحث في احد كتب التاريخ يرجع إلى القرن الثامن الهجري الرابع عشر ميلادي ويذكر عالم مدينة قسنطينة في العهد الحفصي أبو العباس احمد بن حسين بن قنفد القسنطيني خبرا يقطع الشك باليقين فقد جاء في كتابه الفارسية أن قسنطينة أظلمت وغير كل من في البلد ثوبه حزنا على أميرها أبو عبد الله ابن السلطان الحفصي المتوكل على الله ابو يحي. و كان السلطان المتوكل على الله يعرف أهل قسنطينة بالعين والاسم ويسال عن أحوالهم وكما جاء في كتاب الفارسية فان من صدقاته المؤبدة تحبيسه الربع المعتبر على الجامعين بقسنطينة، وكان ابنه الأمير أبو عبد الله معروفا بالعلم والذكاء والفطنة والجود وحسن المجلس وارتفاع القدر وقد ولد بقسنطينة وبها نشأ وتعلم وكان أخوه عن عمر يناهز الثلاثين سنة، حيث قال ابن قنفد أنه فقدت المعارف بفقده وبهذا الحدث الأليم حزنت المدينة على أميرها وقد كان محبوبا عند الأهالي فحزنوا على فراقه وموته عن صغر سنه ولبس السواد. إذن فالملاية لبست حزنا على الأمير الحفصي ابا عبد الله في سنة 1339 وربما بقي هذا العرف من اللباس في المدينة واقليمها ومع مرور الوقت ربما نسي أو بقي باحتشام إلا أنه أعيد لبسه مع مقتل صالح باي كما ترويه الذاكرة الشعبية وقول ابن قنفد دليل قاطع على ان لباس الحزن هذا عرفته قسنطينة في العهد الحفصي. الجزائر ثرية بموروثها المادي واللامادي تحدث الدكتور «شلالي» عن الملاية أو الملاءة في القاموس بمعنى الملحفة والثوب من قطعة واحدة ذو شقين متضامنين، وهو أيضا ما يفرش على السرير من غطاء ولقد قلبت الهمزة ياء وصارت تعرف بالملاية ويقال التلحيفة وهي طريقة اللبس وتلحفت المرأة في اللغة أي أنها تغطت وهو لباس سترة وعفة، حيث كانت الملاية أو اللحفة في الشرق هو لباس المرأة عند خروجها من بيتها وكانت البنت المتزوجة لا تلبس الملاية وإنما تلبس الحايك وحتى عند الذهاب إلى الحمام تلبس العروس الحايك وحتى من كن متزوجات جدد وعند ذهابهن إلى الأعراس أيضا يلبسن الحايك عكس الملاية وسوادها التي لا يليق بالصغيرات في السن خاصة وأنه يعتبر رمز للحزن. وقد وجدت عدة أنواع الملاية باختلاف الألوان، منها الملاية البيضاء والمجعبة، لكن ما بقي مشتهر هي السوداء خاصة بعد أحداث مجازر الثامن من ماي 1945، وهو ما رواه نسوة من سطيف فقد رجع لباس الملاية في منطقة سطيف بقوة بعد تلك المجازر وهو تعبير عن حزن النساء على أبناء الجزائر الذي قتلتهم فرنسا، أين احتفظت النسوة في إقليم الشرق الجزائري، بهذا اللباس الذي لبس لعدة اعتبارات ربما حزنا على أبناء الوطن الذين استشهدوا وربما حزنا على الباي صالح وربما حزنا على الأمير الحفصي ابو عبد الله وربما حزنا على الإمام الحسين. وبالرغم من كل هذا يبقى اللباس لباس عريق يحمل هوية أمة وقد لعبت الملاية والحايك وقت ثورة التحرير دورا مهما، وتنكر كثير من المجاهدين والفدائيين ولبسوا الملائكة والحايك وقد حملت النسوة السلاح تحت الملاية ومررن أمام العسكر ولم يكشف حالهن، هذه هي الملاية لباس عريق بخصوصيات يرتبط بقصص وتاريخ لا ندرك قيمته، إلا إذا حققنا في تاريخنا قد تختلف الألوان والشكل والتسمية، لكنه لباس قديم امتدادا لما عرف بالرداء الذي هو أول ما لبسه الإنسان من قماش، وهو لباس أمتنا لباس حضارة لباس عفة وسترة لباس له أصول ومعاني.