أضحت جريمة الفساد ظاهرة عالمية ذات صبغة عابرة للحدود يتم تهريب عائداتها وتبييضها في الخارج، فيما يلوذ الفاعلون أو المشاركون في جرائمها الى بلدان خارج بلادهم، لذا تعالت الأصوات بشأن وضع حد لهذه الظاهرة التي تنخر دول المعمورة بلا استثناء وبدرجات متفاوتة، ولمجابهة الظاهرة ترصد عديد الدول ترسانة من القوانين والهيئات لمكافحة جريمة الفساد بمختلف أشكالها. لم تحد الجزائر عن هذا السياق، فقد واصلت سياسة مكافحة الفساد التي تعهد بها الرئيس عبد المجيد تبون في حملته الانتخابية، واسترجعت العديد من الممتلكات المنهوبة في قضايا فساد تورطت فيها شخصيات ورجال أعمال، خلال سنوات الفترة البائدة، وفي آخر مجلس للوزراء أكد القاضي الأعلى للبلاد أن القضاء هو السلطة الوحيدة المخوّل لها الفصل في قضايا الفساد، وهي المصدر الأوحد لوضع الآليات القضائية لوقاية المجتمع منه. أمر رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون باستحداث وكالة وطنية لاسترجاع الممتلكات والأموال المصادرة في إطار مكافحة الفساد خلال آخر اجتماع لمجلس الوزراء، هذا الأحد، والذي خصّص جزء منه لمناقشة مشروع قانون الوقاية من الفساد ومكافحته. وجاء في بيان للرئاسة أن الرئيس تبون أكد على أن القضاء هو السلطة الوحيدة المخوّل لها الفصل في قضايا الفساد، وهي المصدر الأوحد لوضع الآليات القضائية، لوقاية المجتمع منه، وعليه فإن الوكالة الجزائرية لاسترجاع الممتلكات والأموال المُصادرة ستستحدث كآلية جديدة تكون تحت وصاية وزارتي المالية والعدل. وفي السياق يؤكد متابعون للشأن القضائي بالجزائر أن السلطات المختصة تمكنت منذ نهاية 2019 من استرجاع العديد من الممتلكات منهوبة في قضايا فساد شخصيات ورجال أعمال ومسؤولين على المستوى المحلي، كما أن المساعي والجهود متواصلة بالتعاون القضائي مع دول أجنبية لاسترجاع أموال وعقارات مملوكة لرجال أعمال ومسؤولين سابقين كعائدات للفساد الذي تورطوا فيه. يرى أستاذ القانون العام بجامعة معسكر والباحث في مجال مكافحة الفساد في العلاقات الدولية الدكتور بهلولي أبو الفضل محمد، أن اهم محاور القانون المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته جاءت في ظل المتغيرات الدولية وعلى ضوء فلسفة قانونية للنص القانوني لمكافحة الفساد، كما انها جاءت في إطار المعايير الدولية، والمشرع يعمل على هندسة قانونية معتمدا على القانون المقارن، مشيرا الى أن المشرع قد يكون أخد بالقانون الايطالي في مكافحة الفساد. وأضاف بهلولي أنه وفي سياق مراجعة المحاور القانونية لهذا القانون سيتم التركيز على الصياغة السليمة للمصطلحات القانونية، وعدم وجود أي تضارب واعتراض بين النصوص، أما استحداث وكالة وطنية لاسترجاع الممتلكات والأموال المصادرة في إطار مكافحة الفساد فهو جزء من المنظومة القانونية في مكافحة الفساد، فهذه الأخيرة شهدت نقائص وثغرات في استرجاع الأموال، في حين أن الوكالة ستتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلالية، حيث تعتبر تقنية تهدف الى رصد استرجاع الأموال وإعادة توظيفها في الصالح العام. وأضاف محدثنا أن الوكالة تدخل ضمن استكمال المنظومة التشريعية لمكافحة الفساد وهي الهيئة المختصة في تكليف التسيير حتى لا يقع تنازع في الاختصاص، بالإضافة إلى أن الوكالة تستكمل دور مكافحة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة إلى أصلها وهي الصالح العام، وهي بحد ذاتها ضمانة للتسيير الشفاف للأموال المسترجعة خاصة أنها تحت وصاية وزارة العدل والمالية وهذا نوع من الرقابة على الوكالة. من جهته، أوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، الدكتور عبد القادر سعيد عبيكشي، أن مساعي الحكومة في مكافحة الفساد يجب أن تقترن بأهداف يمكن بلوغها، فالقضاء بشكل نهائي عن الفساد أمر غير منطقي، وإنما العمل يكون من أجل التقليل من ظاهرة الفساد قدر الإمكان والى أبعد نقطة ممكنة، فحتى الدول التي لديها باع طويل وسمعة حسنة في الشفافية ومكافحة الفساد إلا أنها لم تستطع القضاء على الفساد بشكل نهائي ولديها نسبة معينة من الفساد. وأفاد أستاذ العلوم السياسية بأن عملية مكافحة الفساد ينبغي أن تتميز بمفهوم الكلية ولا تقتصر فقط على المستوى المركزي بل تمتد الى مستويات أوسع وأشمل وتخص الجانب التشريعي والتنفيذي. وإضافة الى هذا يقول عبيكشي: « مكافحة الفساد لا تتعلق فقط بالشق الاقتصادي بل هي أعمق من هذا، فرؤية القانون يجب ان تكون مجرّدة مثلما هو متعارف عليه في النصوص القانونية، وأن تتجه الى معالجة الفساد ليس من منظور اقتصادي فقط، بل من المنظور الثقافي والاجتماعي والسياسي والإداري حتى نستطيع من أن نفكك حقيقة مواطنه ونقاط قوته» . وأشار أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر انه مثلما نفعّل المنظومة القانونية يجب أيضا أن نفعّل فكرة الثقافة والتنشئة، مفيدا أن الامر قد يبدو غريبا حاليا ولكن على الأمد الطويل يجب النظر على أن مسألة مكافحة الفساد مسألة تربوية، فالمعالجة القانونية باب من أبواب المعالجة ولا تعني الكل في مكافحة الفساد. وأوضح محدثنا أن مكافحة الفساد تتطلب نتائج ملموسة يطمئن إليها المواطن، فمقاربة مكافحة الفساد لا تنتهي فقط بسجن الذين ثبتت في حقهم تهم الفساد، بل تتعدى ذلك إلى استرجاع الأموال المنهوبة وإعادة رسكلتها داخل منظومة المال العام وداخل موارد الدولة. وفي هذا السياق، يرى الأستاذ عبيكشي ان قرار إنشاء وكالة وطنية لاسترجاع الممتلكات والأموال المُصادرة يصب فيما دعا إليه. وأضاف أن استحداث الوكالة أمر يحسب لصالح الحكومة وما ينتظره الجميع الآن هو النص القانوني الذي سيتم الاستناد عليه في تأسيس هذه الوكالة، إذ يجب أن يوضح بصورة جليّة ودقيقة كل ما يتعلق بآليات العمل. ويضيف أستاذ العلوم السياسية ان استرجاع الأموال المنهوبة ومكافحة الفساد ينبغي أن يكون بشكل كامل وتكون هناك عملية اتصالية دائمة ومتكررة مع المواطن حتى يكون على اطلاع بآليات العمل، فالأرقام التي تم ذكرها في محاكمة المتورطين في قضايا الفساد في الآونة الأخيرة أرقام مهولة، والوكالة مطالبة بعد إنشائها بتحديد طبيعة كل الأموال المسترجعة بكل التفاصيل. ويشير الأستاذ عبيكشي أن دور الوكالة لن يقتصر فقط على استرجاع الأموال بل تتعداه الى المساهمة في إعادة رسكلتها وتوظيفها في صالح الشأن العام او تضمينها داخل موارد الدولة حتى تكون هناك استفادة من هذه الأموال التي تم استرجاعها.