كان معظم سكان منطقة القبائل يلجأون إلى المناطق الجبلية بعد الاستقلال، حيث يعيشون على ما يزرعونه بأيديهم والرعي وتربية المواشي في ظروف صعبة، لكن ولغياب العديد من المرافق التنموية على غرار الخدمات الصحية والغاز الطبيعي والمياه وحتى الكهرباء، بدأ سكان هذه الأرياف بالهجرة نحو المدن بحثا عن معيشة سهلة وعلى أماكن العمل. حيث تفاقمت ظاهرة الهجرة الريفية بسبب البطالة وبحثا عن وظيفة مناسبة التي تحقق للسكان الرفاهية والمعيشة الجيدة. ولم تستطع الجهات المسؤولة على وضع حد لهذا المشكل الذي لايزال مطروحا إلى يومنا هذا، إذ أنّ هذه الهجرة الريفية نحو المدن تسبّبت في إخلاء بعض القرى من السكان خاصة بمنطقة أزفون التي تنقلت إليها “الشعب". والملفت للانتباه، أنّ منازل وفيلات كبيرة مشيّدة بأعالي الجبال أصبحت مهجورة، وفضّل السكان العيش في شقق صغيرة في المدن بدل هذه البيوت. تحدّث “الشعب" أثناء تجولها بالمنطقة لأحد السكان الذي التقينا به صدفة وسط خلاء المنطقة، حيث قال عمي محمد الذي رافقنا في الجولة: “شاهدوا هذه منازل شيّدت مؤخرا لكن بسبب غياب أدنى الظروف المعيشية على غرار الغاز الطبيعي، وكذا مياه الشرب وحتى الكهرباء جعل سكان المنطقة يهجرون القرية للضفر بمعيشة أحسن. أفضّل السكن وسط زحمة المدينة والسكن في شقة ضيقة جدا بدل السكن في هذه القرية المنعزلة عن العالم الخارجي، فالمنطقة حسبه متخلّفة جدا وما زاد تأزّم وضعها افتقارها حتى للطرق، حيث لا يمكن تمرير سيارات السكان وركنها أمام منازلهم، فهم مجبرون على ركنها في مدخل القرية ومواصلة السير على الأرجل من أجل بلوغ منازلهم، متسائلا عن جدوى المكوث بهذه القرية". هذه الوضعية تسبّبت في بناءات فوضوية، إلى جانب انتشار البيوت القصديرية بوسط مدينة تيزي وزو، حيث أنشأها النّازحون والتي أدت إلى مشكلة العمران والتوسع على حساب الأراضي الخصبة، مما أدى إلى ظهور الآفات الاجتماعية والتشرد و التسول نتيجة الفقر، لكن لم تكن قسوة المعيشة في الأرياف هي السبب الوحيد في هذا المشكل بل تدهور الأوضاع الأمنية بمنطقة القبائل أدى إلى انتشار الوضع، ففي سنوات التسعينات زاد هذا المشكل مع فرار السكان إلى المدن خوفا من الاعتداءات الارهابية، حيث اتّخذت الجماعات الارهابية غابات المنطقة كملجئ لها لاقتراف جرائمها، ما أثار مخاوف السكان بسبب غياب الأمن بالمناطق المنعزلة والمهددة بين عشية وضحاها، العشرية السوداء. ولعل أكبر دليل على كثافة النزوح الريفي بمنطقة القبائل اكتظاظ المؤسسات التربوية بالمدن، والتي تصل في بعض الأحيان إلى أزيد من 40 تلميذا في القسم الواحد، الأمر الذي يصعب من مهام الأساتذة الذين أصبح من الصعب عليهم تقديم الدروس، في الوقت الذي اوصدت 48 مؤسسة تربوية بالعديد من قرى الولاية بسبب غياب التلاميذ والنزوح الريفي، فالعديد من المؤسسات التربوية على مستوى تراب الولاية قد تمّ غلقها هذه السنةبسبب هجرة التلاميذ والعائلات من هذه المناطق. ورغم ذلك فإنّ مديرية التربية تسعى جاهدة إلى بناء مؤسسات أخرى بالمناطق التي تشهد كثافة سكانية للقضاء على الجهل والأمية بالقرى. ولقد استطاعت السلطات الجزائرية مؤخرا من التقلل من هذا المشكل، إذ لجأت توفير كل الوسائل الضرورية في المناطق الريفية على غرار مراكز البريد وبناء بلديات ومستشفيات، لحديثة ومواد وأسمدة تمكّنهم من العمل وخدمة الأراضي واستصلاحها في وقت قصير وجهد ضئيل، وذلك لإبقاء الريفيين بقراهم. وعمدت الدولة إبقاء سكان الأرياف بمناطقهم من أجل كذلك تطوير الإنتاج الزراعي حتى تتخلص من الهجرة الريفية من جهة والتشجيع إلى الانتاج الفلاحي من جهة أخرى، وتتمكّن من حماية البيئة من التشوهات والتلوث والبناءات الفوضوية والتخلص من مظاهر الفقر وما يترتب عنه من أضرار. فمشروع المساعدات السكن الريفي قد أبدى نجاعته من جهة أخرى في الميدان، وكذا مشروع إيصال الغاز إلى العديد من المناطق الريفية التي تتميز بقسوة الطبيعية بدأ يأخذ أبعادا إيجابية، حيث تشهد ولاية تيزي وزو في السنوات الأخيرة إقبالا كبيرا من طرف العائلات للعودة للقرى خاصة التي استفادت منها بخدمة الغاز الطبيعي على غرار قرى ترميتين وارجاونة، وكذا حسناوة وغيرها. كما أنّ مساعدات السكن الريفي المدعم بدأ في إصلاح الوضع، فالعديد من قرى ولاية تيزي وزو تشهد مؤخرا تعمير كبير من طرف السكان، الذين يفضلون بناء بيوت على أراضيهم الخاصة وهجرة المدينة التي تتميز بالاكتظاظ الكبير في شتى المجالات في ظل سكن بعض العائلات في شقق ضيقة لا تتّسع للعدد الكبير لأفرادها، ما جعل الشباب المتزوجين حديثا الضفر بمنزل خاص والعودة للقرى للعيش بسلام، مع العلم أنّ سكان منطقة القبائل يحوز معظمهم على أراضي خاصة ما جعل العديد منهم يستفيد من البناءات الريفية والعودة إلى قراهم.