"قراءة الكتاب ... هو قراءة مغالية لحرقٍ يقودنا نحو الأبعد".. إدموند جابيس: كتاب الهوامش عندما طلب منّي الرّوائي كمال قرور الكتابة عن مشروع القراءة الذي أشرف عليه، كنتُ في البداية متردِّداً لعدة أسباب، منها أنّنا تعوّدنا أن نرى المشاريعَ الثقافيةَ تُولد ميِّتة، وثانيا بسبب طبيعة الأسئلة التي طرحتها على نفسي: أيّ معنى يُمكن أن نمنحه للقراءة في زمن لم يعد أحد يكترثُ تماماً بالكتاب، بل لم تعد القراءة نفسها تمثّل إلا فعلا معزولاً عن الحياة؟ إلاّ أنّي غيّرتُ موقفي بعد نقاش طويل مع الصديق كمال، واستطاع أن يزيل هذه الغيوم السوداء التي تضبّب رؤيتي لحقيقة مشروعه، إذ كانت رؤيته لهذا المشروع أكثر إيجابية، وأكثر جذرية تجاوزت عتبة الأسئلة البائسة التي طرحتها على نفسي. لقد اكتشفتُ بأنّ كمال كان ينظر إلى المستقبل، أي أنّه أراد مني، ومن الذين ساهموا في هذا المشروع أن نكتب لأجل المستقبل. أحياناً، ما يمنح معنى لمشاريع كهذه، أنها وُجدت لزمن آخر، بل ستؤسّس، إذا تمّ الاعتناء بها، لذلك المستقبل الذي يغيب عن منظور السياسي أو على الأقل عن هؤلاء الذين يسيّرون قطاعات الدولة بما فيها قطاع الثقافة. طبعا، كان موقفه مقنعا إلى حدّ كبير، وقررتُ أن أشرع في كتابة هذه المقدّمة. سأعترف بأنّ المهمة لن تكون سهلة. ما الذي يُمكن أن أقوله عن القراءة؟ وكيف سأقول ذلك؟ هل بمنطق الباحث الجامعي الذي سيهرول إلى المعاجم المتخصّصة وإلى النظريات التي أصبحت تفرد للقارئ وللقراءة مساحة معرفية معتبرة، أم أني سأكتفي بالكتابة عن القراءة بصفتي قارئا للكتب، وبذلك سأعبر من الموضوعي إلى الذاتي؟ أظن أنّ أفضل طريقة للحديث عن القراءة هي تلك التي تحمل الكثير من الحميمية، والعاطفة والحنين لأنّ القراءة هي أوّلا وقبل كلّ شيء شغف. قرّرت إذا أن أتحدّث عن القراءة كتجربة شخصية قبل أن أنتقل إلى دائرة أخرى أكثر انفتاحا على العام والشامل. لأحاور قارئاً ما قد يولد بعد عقود. أجد حرجاً في تقديم تعريفات للقراءة باللجوء إلى المعاجم، فكثيرا ما أنظر إلى المعاجم وكأنها متاحف للكلمات، وأنّ أفضل طريقة للحديث عن الكلمات هي إخراجها من هذه المتاحف العتيقة. سأتجنّب قدر الإمكان الرطانة الأكاديمية، وكما قال هارولد بلوم احذروا من رطانة الأكاديميين. لنترك النظريات جانبا، فهي تصلح في مجالها الجامعي المتخصّص، في حين أنّ الأهم هو أن نتحدّث عن القراءة كتجربة حية، أولا كتجربة شخصية، ثم كتجارب شخصية سأستقيها من رؤى أدباء اعتبروا أنفسهم قرّاء قبل أن يكونوا كتّاباً؛ ألا تلاحظون معي أنّ القراءة أسبق من الكتابة، وأنّ الكتابة هي نتيجة مباشرة للكتب التي قرأها الكُتّاب طيلة حياتهم. لماذا لا نقرأ؟ السّؤال الصّامت سؤال كهذا سيحرج منظومة بأكملها، كما أنه سيزيح، ولو مؤقتا، سؤالا كلاسيكيا هو: لماذا نقرأ؟ إذ يبدو أنّ سؤال لماذا لا نقرأ؟ هو الأكثر أهمية، على الأقل بالنسبة إلى السياق العام الذي ننتمي إليه جزائريا؛ فالمتتبّع لتحوّلات الحياة الاجتماعية في الجزائر سيلاحظ أن المجتمع الجزائري قد انتقل بسرعة قصوى إلى مصاف المجتمعات التي لا تقرأ، وقد حدث هذا على نحو مطرد مع ازدياد أعداد المتعلمين وحاملي الشّهادات الجامعية. إنّنا أمام وضع متناقض، فمن جهة مجتمع أغلب شرائحه الاجتماعية متعلّمة وحاملة لشهادات جامعية، ومن جهة أخرى ثمّة عزوف شبه تام عن القراءة، حتى غدا الكتابُ ترفاً ومضيعة للوقت. وتزداد قتامة الوضع أكثر لما نجد هذا العزوف أكثر داخل مؤسّسات تعليمية وجامعية يفترض فيها أن تكون وظيفتها الأساسية هي تدريب الأفراد على القراءة، وغرس قيمة الكتاب في وعيهم كقيمة جوهرية. إنّ علاقة المتعلّمين اليوم بالكتاب تثير الكثير من الحزن، وتطرح الكثير من علامات الاستفهام؛ فالجزائري في أزمنة سابقة، كان مشهودا له بحبّه للقراءة، واهتمامه بالكتاب، بدليل المستوى التعليمي المحترم الذي بلغته الأجيال السابقة، لكن سرعان ما ضاع هذا الإرث، وانقلب الشغف إلى نفور، حتى صار الكتاب شيئا زائدا عن الحاجة. ثم جاء الانفتاح على التكنولوجيات التواصلية لتعمق أكثر من الهوة بين الفرد الجزائري والكتاب. ثم لا يجب أن ننسى غلاء الكتب وضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين. لا أدري لماذا مازلنا نستمر في تجاهل هذا الوضع الذي وصلنا إليه؟ إنّنا نلاحظ كوارث المدرسة لكن لا أحد يتحرّك ليدق ناقوس الخطر، ونرى الانحطاط الذي بلغته الجامعة ولا أحد يبادر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ونرى بحزن شديد مآلات دُور الثقافة التي تحوّلت إلى قاعات للحفلات، بدل أن تكون منابرا للإشعاع العلمي والأدبي. والأدهى والأمّر من ذلك، أن نعيش يوميا غلق مكتبات وتحوّلها إلى محلات للأكل السريع أو لبيع الألبسة. هذه هي معطيات الواقع، إنّها ترسم لنا لوحة قاتمة السّواد عن واقع يتحرّك بسرعة كبيرة نحو إلغاء الثقافة من اهتماماته، واستبدالها بضرب جديد من الثقافة الاستهلاكية التي انتشرت مع التكنولوجيات الحديثة. لقد صارت للتكنولوجيا قوة إغوائية لا يمكن صدّها، دفعت بأجيال بأكملها إلى الانغماس في نهر الاستهلاك الجارف الذي يسحب دون رحمة كل ما يصادفه في طريقه. إنّ الثقافة الجديدة التي جاء بها الانفتاح اللاّمشروط على العولمة بمنظوماتها الثقافية، أصبحت تهدّد الذوات بما هي قدرات وملكات عقلية ونفسية، خاصة إذا علمنا بأنّ هذه الذوات تمثل معيار كلّ معرفة، وأصل هذا التهديد هو سيطرة التقنيات على مناحي الحياة، وظهور ما سماه فلاسفة مدرسة فرانكفورت بالعقلانية الأداتية، فهذه الأخيرة غيّرت من مفهوم السيطرة، فأصبحت أخطر وأشمل، لأنها تضرب الذات في أبعادها المختلفة، لتقوم بترويضها واختزالها في بعدها الاستهلاكي، ((فأصبح الإنسان كما يقول ماركيوز فاقداً لأبعاده ولم يعد يتقوّم إلاّ ببعد واحد هو البعد الاستهلاكي)). (01) إنّ من خصوصية الثّقافة الاستهلاكية أنها ثقافة سطحية تخاطب الغرائز وتتحكّم في الأذواق، إذا لم نقل أنّها تقوم بتغييرها وتشويهها، وفضلا عن ذلك تقضي على ملكة النقد لدى الإنسان، فيكون عاجزا عن إبداء أي موقف نقدي من واقعه، ولا حتى إنتاج أي فكرة تقاوم هذه الثقافة. وليس غريبا، أن تغزو هذه الثقافة عقول الناس قبل بيوتهم، فتجعل المادة أولى من الأفكار أو من المعرفة أو من القيم الفنية أو الجمالية، وتغدو معها المعرفة الجادة التي تتأسس على الكِتاب وعلى طرح الأسئلة وعلى التفكير الجدلي مجرد آليات بائدة. القراءةُ شغفٌ: لماذا لا نقرأ؟ لأننا فشلنا في زرع الشغف بالقراءة في نفوس الأطفال. لنعد إلى أصل المشكلة، ونتحدّث عن دور الأسرة ثم المدرسة، فهل نجحنا في زراعة هذا الشغف بالكتاب وبالقراءة؟ القراءة هي أيضا تجربة وجدانية، تتأسّس على وشائج وجدانية تنشأ منذ السنوات الأولى للطفل، إذ يكفي أن نرغّبه في القراءة حتى نؤسّس لجيل حقيقي متشبث بالكتاب ومؤمن بقيمته الحضارية والثقافية. ولا يجب أن ننسى بأنّ الطفل لا يتعلّم في سنوات عمره الأولى، إنما يُحاكي سلوكيات من هم أكبر منهم، بل يكتسبون طقوس الحياة اليومية من تقليد الوالدين أو الإخوة الكبار. فإذا كانت المكتبة حاضرة بالبيت، وكان أحد أفراد العائلة ممن يقرأون الكتب، فهذا سيخلق محفزا للطفل لمحاولة تقليده، يدفعه إلى ذلك فضوله. لقد أصبحنا نهدي الأسلحة للأطفال في أعياد ميلادهم بدل إهدائهم الكتب. لقد فشلنا في زرع هذا الشغف؛ والأسرة اليوم استقالت من وظيفتها الحقيقية، وأصبحت غير مبالية بتربية الطفل تربية ثقافية منذ نعومة أظافره، ونفس الأمر بالنسبة للمدرسة التي ألغت الكتاب من اهتماماتها، واكتفت بالكتاب المدرسي، والذي للأسف رسم صورة منفرة للكتاب بوصفه واجباً مرتبطا بالعقوبة. هل هناك ساعات مخصّصة للقراءة خارج قراءة الكتاب المدرسي؟ هل تنشط المكتبات الداخلية في المدارس؟ هل يحفّز المعلم تلامذته على قراءة الكتب خارج ما هو مقرّر؟ لماذا لا نعوّد التلميذ على أن يوسّع مداركه المعرفية باللجوء إلى الكتب بدل الاكتفاء بالنزر القليل مما يلقى إليه من معارف هي في غالبيتها فاقدة للصلاحية، أو باللجوء إلى ويكبيديا ومواقع إلكترونية يجد فيها المادة جاهزة، فلا يتجشم حتى عناء قراءتها، قبل أن يقدمها كواجب منزلي لمعلمه؟ للأسف! لا أحد يكترث، حتى أنّ المكتبة المدرسية تحوّلت إلى مستودع لدفن الكتب وتركها وليمة للفئران. قال علي حسن: (بالنسبة لي ليس مهما أن أكون قارئاً، بل يجب أن أكون قادرا على بث الشغف بالقراءة عند الآخرين). (02) وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية، ودور النخبة المثقفة؛ هل ساهمت هذه الأخيرة في تعزيز ثقافة القراءة، وبث ذلك الشغف الذي تحدث عنه الكاتب العراقي علي حسن صاحب كتاب (غوايات القراءة)؟ هذا ما يمثّل نقطة سوداء في النقاش حول دور النخب في نشر ثقافة القراءة. الحلقة1