بعد أيام قليلة، تمرّ سنة كاملة على تأجيل الانتخابات اللّيبية التي كانت مقرّرة في 24 ديسمبر 2021، حيث تعذّر تنظيمها لأسباب سياسية وأمنية كثيرة، ما أعاد الأزمة السياسية التي تتخبّط فيها البلاد منذ أكثر من عشر سنوات إلى المربّع الأول، وما دفع بالصّراعات والانقسامات إلى السّطح بشكل أكثر حدّة، لتدخل ليبيا فصلا جديدا من محاولات الحل، تقابله تجاذبات امتدّت إلى الاقتتال المسلّح، مثلما وقفنا عليه في الصيف الماضي. بعد الحركية التي شهدها الوضع السياسي في ليبيا غداة تعيين مبعوث أممي جديد، توالت المبادرات الرامية إلى التعجيل بتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية تكون بداية لوضع حدّ للأزمة التي تعصف بالبلاد، وفتح صفحة جديدة لما بعد" ثورة 17 فبراير". وبالنظر إلى تعدّد الفواعل الداخلية والخارجية وتضارب المصالح، يرى محلّلون أنّ هناك سيناريوهات بعضها متفائل بالنظر إلى الإجماع الدولي بضرورة إنهاء الوضع القائم بانتخاب رئيس للبلاد، وبالتالي وضع حد للمراحل الانتقالية، وبين متشائم بسبب تعنّت بعض الأطراف الداخلية التي ترفض الشرعية الدولية، وتغلّب المصلحة الفردية أو جهوية على حساب مصلحة البلاد والشعب. حركية سريعة يعيشها الداخل الليبي، منذ الأشهر التي أعقبت تعيين المبعوث الخاص للأمم المتحدة عبد الله باتيلي، وشروعه في لقاءات ماراثونية لجمع أكبر عدد من الفرقاء، وتقريب وجهات النظر، والاستماع إلى انشغالات مختلف الأطياف السياسية والمجتمع المدني. وخلال إحاطة قدمها أمام مجلس الأمن الدولي، منتصف نوفمبر الماضي، نقل باتيلي حقيقة الوضع السائد في ليبيا عند مباشرة مهامه والمخاطر التي كانت تحيط بالمجتمع الليبي والدولة التي أصبحت على حافة الانهيار بسبب النزاع، والتّهديد الذي تتعرّض له العاصمة طرابلس من طرف مليشيات مسلحة في كل مرة، كان آخرها هجوم أوت الماضي، وغيرها من التهديدات التي تواجه المجتمع والدولة في ليبيا، وقد سمحت هذه الإحاطة للمجتمع الدولي باستيضاح ما يجري داخل ليبيا، ومنه قرّر الضغط على الأطراف المتنازعة من أجل التوافق على حلول تفضي إلى انتخابات في أسرع وقت ممكن. توافق دولي في الحالة اللّيبية، وهي تشبه كثيرا من أزمات العالم التي يكون فيها تعدد لأطراف النزاع وامتدادات خارجية تدعم أحد المتنازعين، يكون من الضرورة بمكان أن تتوافق القوى الخارجية على حل يرضي جميع الأطراف، وعندها فقط يحدث التوافق الداخلي. ويتّضح هذا جليّا من خلال تخلي قوى خارجية كانت تدعم أحد أطراف الصراع الذي كان مصدر تشويش في الداخل الليبي، وتسبّب في جرائم حرب سنتي 2014 و1019، وتجريده من رئاسة أركان الجيش الليبي التي أوكلت إلى المجلس الرئاسي، ومنذ تخلي داعميه عنه، وفي مقدّمتهم مجلس النواب، فقد الشرعية التي كان يتّكئ عليها، وبدأ المشهد الأمني الليبي في الاستقرار نسبيا بتراجع الهجمات على العاصمة طرابلس. وبعد هذا الإنجاز الداخلي، حدث توافق دولي ترجم في الدفع نحو تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، ومن أجل ذلك، تمّ إنشاء المفوضية العليا للمصالحة الوطنية، ولجنة خبراء القانون لصياغة قانون موحّد للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، إلى جانب إنجاز لا يقل أهمية، وهو استمرار حالة وقف إطلاق النار التي من شأنها أن توفّر أرضية هادئة للمضي قدما في المسار السياسي. مبادرات متعدّدة كانت آخر المبادرات، إعلان المجلس الرئاسي مبادرة تنطلق عبر لقاء تشاوري بين المجالس الثلاثة (المجلس الرئاسي ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة) بالتنسيق مع المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، وتهيّئ لحوار دستوري كأولوية لإنهاء المراحل الانتقالية، ثم تُضمّن فيه المبادرات والأفكار والرؤى التي طرحتها الأحزاب والقوى الوطنية على المجلس الرئاسي. وبحسب بيان للمجلس الرّئاسي، فإن هذه المبادرة تهدف إلى إنجاز التوافق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على إصدار قاعدة دستورية للانتخابات، ومعالجة الخلافات العالقة، خاصة في ظل تعثر إجراء الاستفتاء على الدستور. من جهتها قدّمت الجزائر مبادرتها على لسان وزير خارجيتها رمطان لعمامرة، ركّزت في مجملها على الجانب الأمني باعتباره السّبيل الأول لضمان نجاح أية خطوة نحو حل النزاع في ليبيا، وتمحورت المبادرة حول أربع نقاط تمثلت في ضمان مناخ مناسب لإجراء الانتخابات، وإجلاء القوات الأجنبية، وتفكيك المليشيات، ووقف تدفق الأسلحة. وكانت الجزائر سبّاقة إلى طرح مبادرة من أجل حل سياسي سلمي وشامل العام 2014، تمحورت حول جمع أكبر عدد من الطراف الليبية المتنازعة إلى طاولة الحوار لوقف القتال، والبحث عن تسوية سياسية للأزمة بأقل التكاليف المادية والبشرية، من جهة، وإبطال حجج التدخل العسكري الأجنبي من جهة أخرى، وهو ما نجحت فيه فعلا، حيث جمعت أطرافا كانت في قمة التنافر، وأسفر ذلك عن تشكيل حكومة وفاق وطني معترف بها دوليا العام 2016، كما رمت المبادرة إلى بناء مؤسسات الدولة منعا للفكر المتطرف، وإقامة سلطة مركزية قوية تحتكر حيازة السلاح منعا لاستعماله على نطاق واسع، وبالتالي تقليص دائرة العنف الداخلي، وما زالت هذه النقطة عالقة رغم كل الجهود الدولية والداخلية لتجسيدها، حيث لم تنجح ليبيا إلى حد الآن في جمع السّلاح وتوحيد الميليشيات تحت راية جيش واحد. وقد اتّخذ مؤتمر برلين من المبادرة الجزائرية أرضية لإيجاد حل للازمة الليبية، وخرج البيان الختامي بتبني المقترحات نفسها. وقدّم المبعوث الأممي عبد الله باتيلي عقب تعيينه في منصبه شهر أكتوبر الماضي، خطة تقوم على التقريب بين مجلسي النواب والرئاسي في خطوة لرأب الصدع، وبعث حوار وطني جديد مع آليات لضمان نجاحه، وتجنب مسببات الفشل التي اعترت سابقه. من جهة أخرى، اجتمع باتيلي مع رئيس الحوار الليبي - الليبي حسين قنة، وتم الاتفاق على التعاون والتنسيق بين البعثة الأممية والحوار الليبي - الليبي في مجال الانتخابات والمصالحة الوطنية، وذلك من خلال اللجان التابعة للحوار. واتّفق الطرفان على آلية عمل لإنهاء الانقسام السياسي والعسكري، المتسبّب الرئيس في التوتر وعدم الاستقرار، الذي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى حدوث اشتباكات بين الأطراف. وتمثلت الآلية في التواصل مع جميع الأطراف والتنسيق معهم على اجتماعات من أجل وضع حلول ترضى جميع الأطراف، على أن يحدّد مكان للاجتماع يكون مناسبا لجميع الأطراف. ومن المقرر أن يشارك في الحوار، حكومة الوحدة الوطنية، وحكومة الاستقرار، ومجلس الدولة، ومجلس النواب، ولجنة 5+5، وبعض الشخصيات المحايدة، والمصرف المركزي، وديوان المحاسبة. وقدّمت رئيسة بعثة الأممالمتحدة إلى ليبيا سابقا، ستيفاني ويليامز، مبادرة تقوم على تطبيق اللامركزية التي من شأنها الحد من الهجومات على العاصمة طرابلس. سيناريوهات على ضوء هذه المستجدّات، تقف ليبيا في مفترق طرق وأمام سيناريوهين متناقضين، أحدهما متفائل وهو ما نرجّحه، والآخر متشائم تقل حظوظه أمام إصرار المجتمع الدولي على إنهاء النزاع. استمرار الوضع الراهن الذي قد يؤدي إلى مزيد من التأزم، ومن بين تجلياته تمسّك الحكومة المؤقتة برئاسة فتحي باشاغا التي نصّبها برلمان طبرق توازيا مع حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا، بشرعية نشاطها، رغم رفض المجتمع الدولي لها، وآخرها تصريح السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، بوجود حكومة انتقالية وحيدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ولا حاجة لحكومات مؤقتة أخرى. لكن وبعد يوم واحد من هذا التصريح، أصدرت حكومة باشاغا بيانا تجدّد موقفها حول انتهاء ولاية حكومة الوحدة الوطنية بالفشل في تنظيم انتخابات 24 ديسمبر 2021، هذا الموقف من شأنه أن يعكّر صفو مسار الانتخابات، ويؤزّم الوضع ما لم يتم التراجع عنه والامتثال للشرعية الدولية، إلى جانب وجود ملفات عالقة على غرار ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وتوحيد الميليشيات تحت راية جيش واحد. سينايو الانفراج وإنهاء النّزاع وإنجاح تنظيم انتخابات رئاسية، ومن مؤشراته اجتماع تونس الدولي الذي عقدته، الخميس الماضي، مجموعة العمل الدولية المعنية بالمسار الأمني في ليبيا المنبثقة عن مسار برلين، وخصّص الاجتماع لدراسة الخطوات المقبلة في تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار، وإعادة توحيد المؤسسات العسكرية الليبية وتأمين الانتخابات. وركّز النقاش على "التنفيذ التام لاتّفاق وقف إطلاق النار بما في ذلك مراقبة وقف إطلاق النار، ونزع السّلاح والتسريح وإعادة الإدماج (المليشيات المسلحة)، بالإضافة إلى انسحاب المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية وتشكيل قوة عسكرية مشتركة". ولإجراء مزيد من المباحثات بشأن جوانب عالقة محدّدة من اتفاق وقف إطلاق النار، وتفعيل الآليات ذات الصلة، أعلن الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة الأممالمتحدة للدعم في ليبيا عبد الله باتيلي، أن "اللجنة العسكرية المشتركة ستعقد اجتماعاً بحضوره بمدينة سرت في 15 جانفي 2023". ويأتي هذا الاجتماع في إطار تنفيذ مخرجات اتفاقي برلين الأول المنعقد في 19 جانفي 2020، حول ليبيا بمشاركة دولية واسعة لبحث تأمين مظلة دولية لحماية الحوارات الليبية حول مستقبل البلد، والثاني المنعقد في 23 جوان 2021، أين نوقشت التطورات في ليبيا بما فيها دعم إقامة الانتخابات، والتحسين من الوضع الأمني المنفلت في البلاد. يضاف إلى ذلك مؤشر ثان، وهو التوافق الروسي التركي المعلن عنه قبل أيام، بعد التوافق التركي المصري الذي جرى قبل أشهر بعد سنوات من الخلاف حول الملف الليبي. ومن المؤشّرات الأخرى، انعقاد القمّة الأفريقية الأمريكية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي انطلقت أشغالها الثلاثاء، ومن المقرّر أن تختتم اليوم. وتأتي أهمية القمّة بالنسبة إلى ليبيا من خلال طرح موضوعها في إطار الاستراتيجية الأمريكية الأمنية الجديدة في أفريقيا، حيث ستعمل الولاياتالمتحدةالأمريكية ما في وسعها لإنهاء النزاع في ليبيا، وتصحيح خطئها في التدخل وإسقاط النظام السابق، الذي أوقع ليبيا في مستنقع العنف والفوضى السياسية، وما كان له من امتدادات على كل دول الجوار، وإلى غاية حدود وسط أفريقيا، وما ترتّب عنه من انتشار الجماعات الإرهابية والمسلحة. وبالتالي، ورغم وجود بعض المعوقات الداخلية التي قد تكون لها امتدادات خارجية، إلا أن رغبة المجتمع الدولي الذي يضغط من أجل إنهاء الأزمة، خاصة وأنّ ليبيا تمثّل مصدرا مهما للنفط، صار ينظر إليها على أنها بديل محتمل للغاز والنفط الروسيين على المدى القصير على الأقل، لذلك نرى أنّ الدول الأوروبية والولاياتالمتحدةالأمريكية تدفع لإنهاء هذا النزاع. وممّا يعزّز هذا السيناريو هو الوضع الدولي المتجه نحو تعدّدية قطبية ببروز محور الصينروسيا، ومن مصلحة هذا القطب استتباب الأمن في دول المنطقة العربية وتصفير النزاعات لاستقطاب أكبر عدد من الدول، خاصة دول المنطقة العربية التي تزخر بمواد أولية هامة تدخل في الصناعات المتطورة والنانوتكنولوجيا. المصالحة..المخرج الآمن بالموازاة مع الجهود السياسية لحل الأزمة الليبية، تشدّد الكثير من الجهات على أهمية إقرار المصالحة الوطنية، وتعتبرها خطوة ضرورية لإنجاح الإنتخابات والخروج بالبلاد إلى برّ الأمان. وقد بات شعار "المصالحة ثم الانتخابات" المبدأ الذي يحرّك جهود المجتمع الدولي لبلورة الحل السياسي في ليبيا، على أن يتم عقد اجتماع شامل للمصالحة الوطنية في الربيع المقبل، يليه الانطلاق في الإعداد للاستحقاق الانتخابي. وقد تكفّل الاتحاد الإفريقي بملف المصالحة الليبية، وأعرب على لسان رئيس مفوضية الإفريقية موسى فقي، الاستعداد لعقد اجتماع تمهيدي للتحضير لمؤتمر مصالحة في ليبيا، مشيراً إلى ضرورة إيجاد صيغة تسمح لليبيين بالمصالحة قبل الانتخابات. وبيّنت أوساط ليبية مطلعة، أنّ الاتحاد الأفريقي ودول الجوار الليبي نجحوا في إقناع الدول الغربية برؤيتها للحل السياسي، وبضرورة أن يتم تحقيق المصالحة الوطنية قبل تنظيم الانتخابات، وذلك لضمان توفير ظروف التوافق بين جميع الفرقاء على القبول بالنتائج التي سيفرزها الاستحقاق الرئاسي. وأوضحت الأوساط أن هناك إجماعاً على عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية تحت إشراف الاتحاد الأفريقي والأممالمتحدة، وتنفيذ كل ما سيتم الاتفاق عليه من طي صفحات الماضي الأليم، وإطلاق سراح السّجناء السياسيين، والسّماح بعودة المهجّرين والنازحين إلى مدنهم وقراهم.