شكّل تعيين مبعوث أممي جديد إلى ليبيا بداية لتوافق دولي حول حل الأزمة الليبية بعد عام كامل من شغور المنصب، حال دون إحراز أي تقدّم في مسار التسوية. وبعد نحو شهر من تعيينه شرع الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة الدعم في ليبيا عبد الله باتيلي في عقد لقاءات ومشاورات مع مختلف الأطياف السياسية والعسكرية والمدنية، بدت إيجابية بالنظر إلى قبول كل الأطراف الحوار وإبداء مقترحاتها. وتزامن هذا مع إجماع دولي على الدّفع باتّجاه الحل السياسي عبر صناديق الاقتراع. استبشر الليبيون خيرا بتعيين السنغالي عبد الله باتيلي ممثلا جديدا للأمين العام للأمم المتحدة ورئيسا لبعثة الدعم في ليبيا «أونسميل»، خلفا ليان كوبيتش، بعد نحو عام من شغور المنصب، جرت خلاله أحداث أثّرت سلبا على سير العملية السياسية. وخلال أسبوعين فقط من بدء مهامه، التقى باتيلي بأبرز القيادات الليبية في المجلس الرئاسي، وحكومة الوحدة الوطنية، ورئيس مجلس النواب، والمؤسسة الوطنية للنفط، والجيش الليبي، والمفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وأعضاء اللجنة العسكرية المشتركة في الشرق والغرب، ورئيس الحكومة الموازية فتحي باشاغا، كما التقى بممثلين عن المجتمع المدني، وناشطات وأكاديميات من مجالات متعدّدة كالاقتصاد والتعليم والعلوم وعلم الاجتماع، إلى جانب لقاء مع محافظ البنك المركزي الليبي. وقال باتيلي بالمناسبة: «أكدتُ لجميع من تحاورت معهم أن حل الأزمة يجب أن يأتي من داخل ليبيا، استناداً إلى إرادة الشعب الليبي. وحثثتُ قادة البلاد على الإصغاء إلى تطلعات الشعب للسلام والاستقرار والتنمية الاقتصادية وإلى قيادة تستجيب لإرادتهم». كما شدّد المبعوث الأممي على أهمية لقاءاته بالمجتمع المدني وخاصة فئة النساء لأنهن الأكثر تضررا في فترات الحروب. وقال في تغريدة على حسابه بتويتر: «لكي نتمكّن من تقديم الدعم إلى ليبيا في هذا الوقت الحرج، من واجبي الاستماع إلى النساء لأنهن الأكثر تضرراً خلال العقد الأخير جراء الاضطرابات، وأيضاً الاستماع لكل الأشخاص الذين سيلحقهم مزيدا من الأضرار في حال استمرار المراحل الانتقالية بلا نهاية..» وأكد عبد الله باتيلي على ضرورة أن يكون الحل ليبيا- ليبيا، وأن تنخرط جميع الأطراف في المسار لإنجاح العملية السياسية. قائلا: «أنا هنا للعمل مع كل الليبيين، وسوف ألتقي بجميع الأطراف بما في ذلك ممثلي المجتمع المدني والنساء والشباب». وذلك في إحاطته الأولى أمام مجلس الأمن، الاثنين الماضي، في إشارة منه إلى ضرورة توحيد الرؤى وتقديم كل مجموعة تنازلات وعدم التصلب في موقفها، لتسهيل تطبيق المبادرات الداخلية والخارجية، وصولا إلى حل سلمي وسياسي لإنهاء الأزمة. نتائج إيجابية وعلى اعتبار أن التوافق الدولي قد تمّ، حيث تدعو الأممالمتحدة وكل الدول المنخرطة في إيجاد حل للأزمة الليبية على ضرورة إنهاء الأزمة بتنظيم انتخابات، فلماذا تراوح العملية السياسية مكانها؟ هذا السؤال يجيب عنه عبد الله باتيلي بقوله: «نحتاج إلى إعادة بناء الثقة بين جميع أبناء الوطن بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم ونعمل على طيّ صفحة الماضي». وبالنظر إلى ما تمّ إنجازه، يلاحظ وجود استعداد داخلي ترجم في إنشاء المفوضية العليا للمصالحة الوطنية، ولجنة خبراء القانون لصياغة قانون موحد للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية. ومن المقرّر أن تعقد اللجنة الاستشارية اجتماعا، منتصف نوفمبر القادم، للإعداد للملتقى التحضيري. وينتظر أن يشارك فيه أكثر من 80 عضوا يمثلون كافة المدن والمناطق الليبية تمهيدا لعقد مؤتمر المصالحة الوطنية المتوقع العام المقبل. ومن المؤشرات الإيجابية لحل الأزمة الليبية، هو صمود وقف إطلاق النار واستمراره خلال سنتين كاملتين، حيث وقّعت الأطراف الليبية على الاتفاق يوم 23 أكتوبر2020، على أساس قراري مجلس الأمن 2510 و25 42. ويقضي الاتفاق بعودة الوحدات العسكرية والجماعات المسلحة غير الإرهابية إلى معسكراتها، واستثنى الاتفاق الجماعات الإرهابية. ملفّات تنشد الحل لكن وككل أزمة، فإن الوضع في ليبيا لا يخلو من قضايا لم تجد توافقا بعد، على رأسها ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وهو الملف الأكثر تعقيدا وتأثيرا على الوضع السياسي والأمني في البلاد. واتفقت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) لطرفي النزاع في ليبيا، المجتمعة في فيينا شهر أكتوبر 2021، على «خطة عمل شاملة» لإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من البلاد، بعد نحو عام من توصل أطراف النزاع إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ورغم محاولات تنفيذ الاتفاق المتعلق بإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب، إلا أن الملف مازال يراوح مكانه، بدليل إدانة المبعوث الخاص عبد الله باتيلي في إحاطته أمام مجلس الأمن، بقاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب في ليبيا. وإلى جانب ملف المرتزقة، نجد الإشكال العالق حول القاعدة الدستورية، إذ يعتبر الفرقاء الليبيون التوافق على قاعدة دستورية حجر أساس في مسار إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا، وهي النقطة التي لم تتمكن الأطراف من تجاوزها، رغم اتفاقهم جميعا على أولويتها. وقد أثبتت التجربة السابقة لتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية فشلها بسبب غياب قاعدة دستورية، حيث لم تتفق أطراف العملية السياسية على طريقة ممارسات السلطة، ونظام الحكم، كما لم تتمكن هذه الأطراف من الاتفاق على دستور مكتوب، إذ مازالت بعض الأصوات تنادي بالعودة إلى دستور 1951 لتسيير المرحلة الحالية إلى حين انتخاب رئيس جديد يضطلع بمهامه ومنها إعادة صياغة الدستور. يذكر أن وجود قاعدة دستورية مكتوبة لا يشكل عائقا أمام تنظيم انتخابات نزيهة، حيث توجد العديد من الدول الديمقراطية في العالم ليس لديها دستور مكتوب على رأسها المملكة المتحدة وكندا ونيوزيلندا، وكذا أصغر جمهورية في العالم وهي سان مارينو، أما القاعدة القانونية فهي موجودة وقد أجريت على أساسها انتخابات مجلس النواب للعام 2014، وكذلك هناك إعلان دستوري متفق عليه. ورغم وجود مبادرات من أجل حل إشكال التوافق على قاعدة دستورية إلا أنها لم تفعل. ففي مطلع مارس 2022، اقترحت المستشارة الأممية ستيفاني ويليامز تشكيل لجنة مشتركة (6+6) بين مجلسي الدولة والنواب في أجل أقصاه 15 مارس لكن المبادرة فشلت بسبب عدم تقديم مجلس النواب أي اسم، وما زاد تعقيد الأمور هو تشكيل كتلة داخل مجلس النواب نفسه، ترفض استمرار جميع المؤسسات القائمة بما فيها مجلس النواب ومجلس الدولة. إلى جانب ما سبق، لم يتفق الليبيون بعد حول المؤسسات السيادية وتوزيع المناصب فيها، حيث جرت محاولات موازية لتقاسم المناصب السيادية لكنها فشلت، لأنها محاولة لتكريس أمر واقع سابق لأوانه، ولأن ذلك يجب أن يكون بعد إجراء الانتخابات، على أن يحدّد المنتخبون الجدد تسمية المناصب الجديدة. قمة الجزائر.. مبعث أمل تولي الجزائر أهمية كبيرة لملف الأزمة الليبية بحكم الجوار والعلاقات التاريخية بين البلدين الشقيقين، لإخراج ليبيا من نفق الجمود السياسي. وعبرت الجزائر عن إرادتها واستعدادها لدعم استقرار ليبيا بما يكفل للشعب الليبي اختيار ممثليه ورئيسه عبر تنظيم انتخابات. ورافعت الجزائر منذ 2014، من أجل حل ليبي - ليبي، وكانت سباقة إلى اقتراح مبادرة، اتخذت فيما بعد أرضية لمؤتمر برلين 1و2. وبالنظر إلى الدور الذي أدته الجزائر في مسار حل الأزمة الليبية فإن القادة الليبيين يعقدون آمالا على قمة الجزائر للخروج بموقف عربي موحد، يزيد من دعم الجهود الدولية والتوافق الدولي الحاصل حول إنهاء الأزمة. وكانت الجزائر سباقة إلى جمع شمل الشخصيات الليبية المتنازعة على السلطة منذ 2014، وطرحت «مبادرة الجزائر» لفتح حوار بين جميع الأطراف السياسية والعسكرية، واستثنت الجماعات المسلحة الإرهابية، وهدفت المبادرة إلى تقريب وجهات النظر بين المتنازعين، تمهيدا لإيجاد حل شامل للأزمة. وقامت المبادرة على الأسس التالية: جمع أكبر عدد من الأطراف الليبية المتنازعة إلى طاولة الحوار، لوقف القتال وبدء حوار جاد يفضي إلى حل سياسي للأزمة بأقل التكاليف المادية والبشرية، إبطال حجج القوات الأجنبية للتدخل العسكري، وبناء مؤسسات الدولة منعا لانتشار الفوضى والفكر المتطرّف، خاصة بعد محاولات بعض التنظيمات الإرهابية نقل نشاطها إلى ليبيا، وإقامة سلطة مركزية قوية تحتكر حيازة السلاح منعا لاستعماله على نطاق واسع، وبالتالي تقليص مساحة العنف الداخلي ومنه ضمان عدم انتشاره إلى دول الجوار، وفتح الحدود في المناطق الجنوبية بين الجزائر وليبيا، وكانت النقاط الثلاث الأولى أرضية لمؤتمر برلين 2، ومن بين مخرجاته أيضا. بلوغ ليبيا هذه المرحلة من الاستقرار النسبي جاء بعد العديد من المحاولات الإقليمية والدولية بدءا بمبادرة الجزائر إلى مؤتمري برلين وباريس العام 2021، مرورا بلقاءات دول الجوار الثلاث الجزائرتونس ومصر. وعليه ورغم كل الصعوبات المذكورة، تُجمع كل الأطراف الليبية والدولية على أن الحل في ليبيا لا يمكن إلا أن يكون سياسيا، ولا يمكن إلا أن يكون ليبيا. وبما أن مسار حل الأزمة الليبية قد حقق إنجازات معتبرة أهمها اتفاق وقف إطلاق النار، وإنهاء حالة قتال الكل ضد الكل، توجب على الليبيين أخذ زمام الأمور ورفض التدخلات الخارجية التي تعيق مسار بناء الدولة، واستتباب الأمن، وتغليب المصلحة العليا للبلاد على المصالح الضيقة، التي حتى وإن وجدت فهي قابلة للتفاوض شريطة ألا تنزلق مجددا للصدام. هل ينجح باتيلي في مهمته؟ عبد الله باتيلي، أول مبعوث أممي يباشر مهامها من قلب ليبيا من العاصمة طرابلس بالضبط، وأول أفريقي يعين مبعوثا للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا منذ تفجر الأوضاع فيها يوم 17 فيفري 2011، وثامن المبعوثين إلى حدّ الآن. عين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، السنيغالي عبد الله باتيلي، مبعوثا خاصا له إلى ليبيا يوم 2 سبتمبر 2022 خلفا ليان كوبيتش، وهو يملك خبرة 40 عاما تقلد فيها مختلف المناصب السياسية داخل بلاده السنغال، وفي المنظمات الإقليمية إلى جانب الأممالمتحدة. ناهيك عن تدريس مقياس التاريخ في جامعة انتا ديوب على مدار 30 سنة. فقد تولى وزارة البيئة وحماية الطبيعة بين 1993و1998، في عهد الرئيس عبده ضيوف، ثم وزيرا للطاقة بين 2000 و2001، وفي 2013 عينه الأمين العام للأمم المتحدة، آنذاك بان كي مون، نائبا لممثله الخاص في بعثة الأممالمتحدة المتكاملة المتعدّدة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، ثم ممثلا خاصا له في وسط أفريقيا ورئيسا ل»مكتب الأممالمتحدة الإقليمي لأفريقيا الوسطى» في الغابون عام 2014. وفي ماي 2015، ترأس باتيلي منتدى بانغي الوطني، وهو مؤتمر للمصالحة الوطنية نظمته الحكومة الانتقالية لجمهورية أفريقيا الوسطى، كان الغرض منه الجمع بين مواطني أفريقيا الوسطى من جميع المناطق والخلفيات لإيجاد حلول دائمة لسنوات من عدم الاستقرار السياسي المتكرر في البلاد. وفي عام 2018، عُين مستشارا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة بشأن مدغشقر، قبل أن يعمل خبيرا مستقلا للمراجعة الإستراتيجية لمكتب الأممالمتحدة لغرب أفريقيا في 2019. ثم شغل منصب الخبير الأممي المستقل للمراجعة الإستراتيجية لبعثة الأممالمتحدة للدعم في ليبيا «أونسميل» في 2021، ليتولى رسميا رئاسة البعثة الأممية في ليبيا في الثاني من سبتمبر 2022، ويباشر مهامه رسميا في 14 أكتوبر الجاري من العاصمة طرابلس. مسيرة باتيلي المهنية وخبرته في معالجة القضايا الدولية، تفتح باب الأمل واسعا أمام قدرة هذا الرجل على إعادة قطار العملية السياسية في ليبيا إلى سكّته الصحيحة، والمؤشرات الأولية تظهر حرصه الجدّي على الأخذ بيد الليبيين ومساعدتهم على تجاوز خلافاتهم وتوحيد صفوفهم لاستئناف المسار الانتخابي الذي يعتبر المخرج الوحيد للأزمة. يبقى على الليبيين أن يتوقّفوا عن سياسة جلد الذات، وأن ينخرطوا في جهود التسوية، فالحل في البداية والنهاية يجب أن يكون ليبيا.