تحقق برامج الذكاء الاصطناعي نتائج مبهرة، حيث استطاعت خلال السنوات الأخيرة اقتحام العديد من المجالات في سياق يستدعي قراءة في بعض المهام التي تقدّمها لتسهيل حياة الإنسان ومناقشة فيما كانت قد تهدّد مكانته في العديد من الأنشطة والميادين من جانب آخر. وعلى غرار مختلف البرمجيات المتاحة في هذا المجال، يشكل ChatGPT الذي أصبح متاحا بالجزائر حديث الساعة، بفعل ما يقدمه من خدمات جديرة بالاطلاع.. وللحديث أكثر حول هذا، كان لنا حوار مع المترجم عمار قواسمية الذي اهتم بالبحث في بعض المزايا التي يتيحها هذا التطبيق، خاصة في مجال الترجمة وعلوم اللغة وبعض العلوم الأخرى وفي سلبياته أيضا. - «الشعب»: تكثر التساؤلات حول التكنولوجيا وتأثيرها على الإنسان رغم ما تحقق من تقدم كبير في حياة البشر، فهل تخدم هذه التكنولوجيات الحديثة الانسان أم تهدمه؟ عمار قواسمية: في رأيي المتواضع، التكنولوجيا سلاح ذو حدين، أي كيفما استعملناها سايرت استعمالنا. وبكلمات أوضح: إن سخّرناها للفائدة، أفادتنا، وإن سخَّرناها للفساد أفسدتنا. فالإجابة المختصرة هي أن التكنولوجيا تخدم لا تهدم. أما الإجابة المفصّلة فهي أن المستخدم يحدّد أداءها ومردودها. فإن أدرك ضررها فتجنّبه، ثم أدرك نفعها فاستغلَّه، كانت له خادما وميسّرا والعكس صحيح. - تشير التطورات الرهيبة والفائقة السرعة في مجال الذكاء الاصطناعي إلى أن كثيرا من المتغيرات قد نشهدها خلال سنوات قادمة في حياة الإنسان، ما تعليقك في هذا الشأن؟ هذا طرح صحيح ودقيق. إننا نعيش اليوم محصّلة الجهود الحثيثة والدؤوبة التي قدّمها العقل البشري في العقود المنصرمة، وإن ما نعيشه ثورة حقيقية من حيث تسهيل معيشة الإنسان وتيسيرها، خاصّة في اقتصاد الوقت واختصار الجهد. لقد صارت الآلة اليوم توفّر جهد الإنسان ووقته، حتى يتسنّى له القيام بمهام أكثر في وقت أقل، أما عن المتغيرات التي قد تستجّد خلال السنوات القادمة، فعلى الأرجح أن أهمها هو توظيف أشمل للآلة في مجالات أكثر، مما قد يقلل حضور الإنسان فيها إن لم نقل «يقصيه تماما». - لاحظنا في الأيام الأخيرة نشاطا مميزا لك في صفحتك على موقع فايس بوك، قدمت خلاله شرحا لبرنامج ChatGPT ونتائجه في مجال الترجمة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. حدثنا أكثر عن البرنامج.. إنَّ ChatGPT هو روبوت دردشة طوَّرته شركة Open AI الأمريكية. ويعتمد هذا الروبوت على الذكاء الاصطناعي للإجابة على أسئلة المستخدم بطريقة إبداعية أيّا كان نوعها ولغة تحريرها. ويستقي هذا الروبوت المعلومات من عدد مهول من المصادر ليخرجها في قالب إبداعي خاص. ويكون هذا القالب نتاج المصادر التي استقي منها، لكن الإخراج النهائي مختلف تماما عنها.. أما عن تجربتي معه في ميدان الترجمة، فللأمانة أقول إنه مبهر وعظيم إن أحسن المستخدم استغلاله.. إلى غاية اللحظة التي تحاورينني فيها، سيدتي، كانت كل تجارب الترجمة التي طبقتها في ChatGPT تخص النصوص الأدبية، أي الشعر والجمل المسجوعة وتلك التي تحتوي جناسا أو طباقا أو تورية وغيرها، هذا يعني أنني لم أجرب أنواع النصوص الأخرى كالتقنية والسياسية والصحافية والاقتصادية والطبية والدينية وغيرها.. وأستطيع القول - بكل ثقة وصدق - إن نتائج ChatGPT كانت أفضل من المتوقع بالنسبة لآلة، فإذا قارناه مثلا - بنتائج برامج مماثلة كان المتفوق دوما برأيي.. ويكمن سر هذا التفوق في «الدردشة». فإن كانت المترجمات الآليَّة تنتج ترجمة واحدة لا تقبل التعديلات فإن ChatGPTيسمح لك بتعديل سؤالك في كل مرة بإضافة قرائن سياق تساعده على إنتاج ترجمات أفضل في كل مرة. وقد نجح الأمر معي في كل المرات، إذ أنتج لي ترجمات بديعة لشعراء أفذاذ كالمتنبي وأحمد شوقي! - كيف تقيّم وضع هذا البرنامج الحديث في الجزائر؟ روبوت الدردشة ChatGPT لم يصبِح متاحا في الجزائر إلا بِتاريخ 27 جانفي 2023، وقد بدأ الناس في استخدامه حقًا. والآراء متضاربة بشأنه، فمنهم من يثمّن إطلاق هذه المبادرة وأنا منهم، ومنهم من شكّك في دقة نتائجه وهم معذورون، إذ إن نتائجه أحيانا تكون غريبة أو خاطئة أو مغلوطة أو عشوائية!! ومنهم من أبدى تخوّفه من استخدام التقنية في الشر مثل الاحتيال والسرقة والتجسس وإنتاج مواد متفجرة وقنابل، إلا أن الشركة المطورة للبرنامج أكدت أنه مدرب على رفض الأسئلة التي من شأنها أن تحدث ضررا. هذا لا يمنع طبعا أن توجد في البرنامج ثغرات.. - معظم الوسائل التي تعتمد على التكنولوجيا الحديثة لها إيجابيات وسلبيات. ما هي أبرزها بالنسبة لبرنامج ChatGPT؟ بالنسبة للإيجابيات: سرعة الإجابة بكل اللغات عن كل التساؤلات، تحسين النتائج بتعديل الأسئلة، خدمات التحرير والتدقيق اللغوي والترجمة، وكتابة المحتوى واقتراح مواضيع وكتابة الملخصات ومخططات البحوث والمقالات وإنشاء خوارزميات للمُبرمِجين وحل المسائل الرياضية والفيزيائية واختبار قدراتك في اللغات وغيرها... بالنسبة للسلبيات: بعض النتائج غير دقيقة وأحيانا خاطئة، كما أن قدرة الروبوت محدودة ولا تتجاوز عام 2021 إلى غاية الآن، فمثلا لو تسأله عن كأس العالم قطر 2022 سيعتذر عن الإجابة. من سلبياته أيضا أن التلاميذ والطلبة قد يستخدمونه للغش سواء في الامتحانات أو حل واجباتهم المنزلية. «لا خوف من التكنولوجيا إنما الخوف من ركود العقول» - بالمقارنة مع ما ينتجه الإنسان في مجال الترجمة، هل ChatGPT جدير بالاهتمام؟ «نعم، ChatGPT متاح للرد على الأسئلة والمشاكل المختلفة، وهو بالتأكيد جيد بالنسبة للذين يبحثون عن مصدر للمعلومات أو الإجابة على الأسئلة بشكل سريع ودقيق. على الرغم من أنه لا يمكن له أن يؤثر على جودة الحياة الحقيقية، إلا أنه مفيد في الكثير من الأحيان». ماذا لو أخبرتك أن هذه كانت إجابة ChatGPT على سؤالك؟ نعم هي كذلك. لقد نسخت سؤالك وطرحته على ChatGPT وكانت تلك إجابته!! من منطلق دقته في الإجابة، يمكننا أن نؤكد حقيقة أن ChatGPT جدير بالاهتمام والاستخدام، فهو خادم في يد العاقل وهادم في يد العاطل. - هل نتائج ChatGPT تكون بنفس الكفاءة في المجالات العلمية والأدبية؟ لا؛ فمن خلال تجربتي لاحظت أن قدرته استثنائية في الأسئلة التي تتطلب إبداعا فنيا في مجال الكتابة والتحرير والترجمة وإعادة الصياغة، أما في مجالات الثقافة العامة والحساب والتاريخ والشخصيات قد يخطئ وقد يصيب. كما أننا لاحظنا أنه يتحسس من السؤال إن كانت «الأنثى» طرفا فيه!! فمثلا عندما طلبت منه أن يكتب لي نكتة عن الرجال كتبها مباشرة، في حين عندما طلبت نكتة عن النّساء، أجاب بأنه لا يسخر من الناس بذريعة النوع أو الجنس.. - من خلال تجربتك في التعامل مع هذا البرنامج، هل تعتقد بأنه يمكن أن يحل محل الإنسان؟ طرح صديق مصري في فايس بوك سؤالا كهذا بالإنكليزية على ChatGPT هو: هل ستحل الآلة محل الإنسان في الترجمة. وهذه ترجمتي لإجابته: خطت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي خطوات عملاقة في الأعوام الأخيرة، ومن تجلياتها أن امتلكت الأدوات لتسهيل عمل المترجمين ومع ذلك، فمن غير المرجّح أن يقصي الذّكاء الاصطناعي المترجم في المستقبل المنظور، إذ لا تقتصر الترجمة على نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل تتطلب فهم السياق والثقافة والمقصد من وراء الكتابة. وهذه «جهيزة بشريّة» قطعت قول كل خطيب اصطناعي. قد تفلح أنظمة الذَّكاء الاصطناعي في التّعامل مع مجموعة كبيرة من مهام التَّرجمة لنصوص عامة أو تقنيّة، إلا أنها قد تواجه صعوبات إذا تعلّقت التَّرجَمَة بنصوص متخصصة يميزها تعقيد التراكيب ودقة المصطلحات. فالمرجح إذن أن يبقى دور المترجم في المستقبل المنظور محفوظا وجوهريا كما عهِدناه. إذا عممنا هذه الإجابة على كل الميادين، فيمكن القول إن الآلة جاءت لتساعد الإنسان وتيسر عمله، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحل محله. ومع ذلك، فهذا الزعم مشروط بضرورة مواصلة الإنسان لتطوير مهاراته، وإلا فمصيره الإقصاء وتعويضه بآلة أو بإنسان كُفء. - كيف يُمكِن الاستفادة من ChatGPT في خدمة اللغة العربية والترجمة؟ مازال أداء ChatGPTمتواضعا في النتائج باللغة العربية مقارنة باللغة الإنكليزية، ولكنه مشجّع على كل حال. ولذلك، فخدمة اللغة العربية تبدأ بتسخير الترجمة لإنتاج مدونات عربية يستغلُّها ChatGPT في الإخراج النهائي للنتائج المرغوبة باللغة العربية. وهذا من شأنه توفير المعلومة بصورة سليمة لغويا وتركيبيا وفي وقت قياسي. بما أن نتائج ChatGPT في الترجمة الأدبية خاصة إلى الإنكليزية مقنعة ومبهرة، فهذه فرصتنا لإنتاج ترجمات رصينة لأدبنا العربي خاصة الشعر الجاهلي، ثم الترويج له وفك العزلة عنه. وهذا يعني أن تنافس ترجمة ChatGPT الترجمات المنشورة سابقا، لأنها تتميز بنقل الجوهر والمظهر وخلق الوزن والإيقاع والقافية. - في الأخير، بالنظر لما تحققه التكنولوجيا من نتائج مُبهِرَة في تسهيل مختلف مجالات الحياة وأهمها التعلم، يتصاعد بالمقابل معدل التخوف من تغوّلها. فما قولك؟ هذا تخوّف مشروع، لكن إن زاد عن حده فإنه يدل على أن المتخوّف لا يثق في قدراته ومهاراته، يُمكِن أن يُساعِدك، هذا مستحب، لكن أن يقصيك فهذا مستبعد. هذا ينطبق على كل المجالات بما فيها الترجمة، فرغم أن ترجمات ChatGPT الأدبية دقيقة جدا، إلا أن دقتها مستمدة من دقة أسئلتي. إذن فهي تعول عليّ في التحسين وأنا أعوّل عليها في السُّرعة وكثرة الخيارات. لا خوف من التكنولوجيا أقول، إنَّما الخوف من ركود العقول.