الأزمة المالية الدولية التي مسّت أكبر الاقتصاديات المتطورة لا تزال تشكل تهديدا حقيقيا على جلّ هذه الاقتصاديات على الرغم من محاولات التدخل لتجاوزها دون نتائج فعلية ملموسة، مما أوقعها في دائرة الركود الاقتصادي كما أعلن عنه تباعا في الآونة الأخيرة. هذه العدوى التي انتقلت من أمريكا مصدر الأزمة إلى أوروبا ثم آسيا بما في ذلك معظم دول الخليج العربي إلى الدول النامية ثم الفقيرة، لا شك أنها تركت ولا تزال تترك تداعيات وخيمة على هذه الاقتصاديات التي تكبّدت خسائر جسيمة، وإن كانت بدرجات متفاوتة، فالجزائر على سبيل المثال لم تمسّها الأزمة المالية الدولية على نحو مباشر، على اعتبار أنها لا تتوفر على سوق مالية ولا على بورصة تعمل وفق قوانين السوق المالية، ولا هي مندمجة بطريقة أو بأخرى في النظام المالي العالمي، على غرار الدول الأخرى، التي مسّتها الأزمة مباشرة مما دفع بالعديد من المسؤولين على مستوى الحكومة إلى إبداء تفاؤل بشأن التداعيات المحتملة المباشرة على الاقتصاد الوطني مباشرة بعد الإنتقال السريع لعدوى الأزمة من بلد إلى آخر. لكن أمام إلحاح خبراء المالية والاقتصاد والمخاوف التي أبداها برلمانيون والانشغالات التي رفعوها إلى المسؤولين عن تسيير شؤون المال والاقتصاد وفي ظل التهاوي المستمر لأسعار النفط، اضطر وزير المالية السيد كريم جودي للإعلان عن تشكيل لجنة للتقييم والمتابعة على مستوى الوزارة مهمتها النظر في التداعيات المحتملة لهذه الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد الوطني، واكتفى بذلك دون تقديم المزيد من المعلومات حول هذه اللجنة التي يجهل من يترأسها، أعضائها وكيف ستتعامل مع الأزمة الراهنة التي تشير كل الدلائل أنها ستستمر على الأقل إلى غاية السنة القادمة. الجزائر غير معنية مباشرة بالأزمة، قد يكون أمرا مبالغ فيه، لأنه حتى ولو كانت معنية بطريقة غير مباشرة، فإن تداعياتها وإن لم تكن آنية، أي خسائر مالية في السوق المالية كما يحدث حاليا في أسواق المال العالمية، فإن الإنعكاسات ستمسّ بطريقة أو بأخرى الإقتصاد الوطني وفي أوجه متعددة. ولأن الكساد أصبح أمرا لا مفرّ منه ومسّ مباشرة اقتصاديات العديد من الدول المتقدمة، فضلا على أن توقعات هيئات دولية كصندوق النقد الدولي، تشير إلى حدوث حالة من الإنكماش العام القادم بنسبة تقدر ب3,0٪، فإن حركة رؤوس الأموال ستتباطأ وسيتراجع تدفق الإستثمارات الأجنبية المباشرة نحو العديد من دول العالم، وقد تكون الجزائر إحدى هذه الدول، على الرغم من أن هذه الأخيرة لم تعد تعوّل كثيرا في إنعكاسها على الرأسمال الأجنبي، طالما أن إيرادات النفط توفر الأموال اللازمة لتمويل المشاريع الضخمة في إطار الورشات الكبرى المفتوحة ضمن البرنامج التكميلي لدعم النموّ الذي يفترض إمتداده للسنة المقبلة. وتجنبا لأي تذبذب أو اضطراب قد يمس عملية تنفيذ هذا البرنامج الطموح، فقد جندت له مبالغ مالية ضخمة، هيئت مسبقا، بمعنى أنه في حالة تراجع الايرادات كما قد يحدث حاليا عقب أزمة تراجع اسعار النفط المستمرة مند مدة فإنه يمكن الإستعانة بصندوق ضبط الايرادات الذي انشأ منذ حوالي أربع سنوات وساهم في وقت سابق في تمكين الجزائر من التخلص من ديونها الخارجية لتصل في جوان الماضي فقط الى أربعة ملايير دولار مقابل 88,4 مليار دولار في نهاية ,2007 من خلال آلية الدفع المسبق للديون الخارجية. واذا استمر تراجع الأسعار، فإن الجهات المسؤولة قد تضطر إلى استعمال موارد هذا الصندوق لتمويل جزء من المشاريع، كما أكدت على ذلك نفس الجهات في مناسبات سابقة. يذكر أن موارد صندوق ضبط الإيرادات متأتية من الفرق بين سعر النفط الحقيقي والسعر المرجعي الذي يعتمد عليه في إعداد الميزانية والذي كان إلى غاية السنة الماضية يدور في حدود 19 دولارا للبرميل، بينما كانت الأسعار الدولية تفوق ذلك بعدة مرات، الأمر الذي سمح بتراكم هام للأموال بلغت 1928 مليار دج في سنة ,2006 حينما كانت احتياطات الصرف تتجاوز 70 مليار دولار، لتفوق هذه الأخيرة 140 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري، وقد تناهز صادرات المحروقات 80 مليار دولار في نهاية العام الجاري، حسب ما أعلن عنه وزير الطاقة والمناجم السيد شكيب خليل، ومع استمرار ارتفاع أسعار النفط المسجل خلال السنة الماضية وتجاوزه ال100 دولار في بداية العام الجاري ليتصل إلى أقصى حدّ له، أي 147 دولارا في منتصف العام الجاري، ارتأت الحكومة رفع سقف السعر المعتمد عليه في إعداد الميزانية إلى 37 دولارا للبرميل من أجل مواجهة النفقات المرتفعة بداية بالميزانية التكميلية لهذه السنة وكذا ميزانية السنة المقبلة التي صادق عليها البرلمان في انتظار التوقيع عليها رسميا من قبل رئيس الجمهورية والتي تتزامن مع نهاية كل سنة. استمرار الأزمة المالية العالمية وحالة الركود التي أصبحت تميز العديد من اقتصاديات الدول المتطورة وتراجع توقعات النموّ حتى في الدول الناشئة كالصين والهند، أثر بطريقة مباشرة على أسعار النفط التي تشهد تبذبذبا لم يسبق له مثيل بسبب تراجع الطلب على النفط رغم بعض حالات الإنعاش المؤقتة في الأسعار والتي لم تصمد كثيرا. حالة التذبذب في الأسعار والتي تتجه نحو الأسفل، ستؤثر لا محالة على الإنفاق العمومي في الاقتصاديات النفطية التي أعادت بعض الدول النفطية من تقديراتها للميزانية خاصة في الشهر الماضي، أي أكتوبر، حيث سجلت أسعار النفط أكبر تراجع شهري بنسبة تناهز 32٪ فقد عمدت كل من روسيا والعراق على سبيل المثال إلى مراجعة سعر البرميل المرجعي عقب تراجع الأسعار للتحكم في نفقات الميزانية التي وضعت سابقا وفق أسعار مرتفعة جدا، بلغت 90 دولارا للبرميل بالنسبة لروسيا، بينما فضلت دول أخرى مثل الجزائر والسعودية توخي الحذر باعتمادهما أسعارا على أساس 37 دولارا في الأولى و45 دولارا في ميزانية الثانية. وعلى الرغم من أن الأسعار الحالية لم تصل إلى المستوى المحدد في ميزانية الدولة، إلا أن الحكومة مطالبة بتوخي مزيد من الحيطة والحذر لتجنّب ما حدث في 1998 من تراجع حاد في الأسعار. ------------------------------------------------------------------------