وكما يلاحظ من عنوان أولى روايات هذه المجموعة التي تعبّر عن رغبة الأديب في العودة إلى واقعية التّاريخ، منذ أن تمّ موعد الاتفاق على العبور بين طارق بن زياد والكونت دون يوليان حاكم سبتة من قبل القوط، فهذه الازدواجية الاستراتيجية، وثنائية الجنسية، والمعنوية والفكرية، نجده تبدأ من موعد هذه الرحلة، والتي ستنتهي في مسارها الحضاري، وهذا على حدّ تعبير الشاعر الفرنسي،» جان بيارفاي» بمناقشة الرشدية – فكر ابن رشد – اللاّتينية، ودورها في نشأة جامعة باريس، تلك المؤسسة المعرفية، التي تعتبر مفتاح الحضارة الأوروبية». إنّها المغامرة الأدبية، أو التجربة الإبداعية الجديدة، التي ستجعل من الروائي الإسباني، خوان غُوَيْتي صولو، حسب رأي بعض النقاد، وكأنّي به يُدير ظهره إلى جمهور القرّاء، ومكتفيا بمخاطبة أقلية مُستنيرة، تمتلك الأدوات الثقافية اللاّزمة، تمكنها من التفاعل مع أعماله «الخلاسية أو المُهجّنة «، وكلّ ذلك كان نابعا من قناعات الكاتب الراسخة، التي تجعله يعتبر العديد من الأعمال الأدبية اليوم، والروائية منها على وجه التحديد، لا تمتلك الشرعية الكافية التي تُخوّلها أحقّية الانتساب إلى عالم الأدب الحقيقي. إنّ المفهوم القيمي والنسبي، لتجربة الكاتب خوان، والتي تحولت قناعته فيها إلى ضرورة حضور هذا الزخم الحضاري، وضرورة تجسيده كواقع فنيّ في أعماله الإبداعية، تجعلنا نقف على مدى إلحاحه المفرط من أجل إبراز جدلية التقاطع الحضاري هذا، والذي ليس من اليسير تحقيق ما يمكن أن نسميه بالتناغم بين هذين الطرفين المتناقضين، وهي انشغالات كثيرا ما أرّقت الفكر الأورو مركزي، الذي يتمتّع برصيد هائل من درجة «الذاتية «(subjectivismo) والفردانية (individualismo) لكن مثل هذا الظن، يبقى بدوره مجرّد خدعة، وتكهّن لأنّ الكاتب بعد هذا المسار الطويل، يطالعنا بعملين روائيين من طراز جديد، تتحكّم في مسارهما رغبة الانعتاق من كلّ أشكال الكبح والانضباط الفنّي المتعارف عليه، فرواية «المقبرة»، ورواية «فضائل الطائر المتوح « يمثلان التجاوز لكلّ الحدود التي توقف عندها الكاتب، في أعماله السابقة، وكأنّي به يحاول اختراق جدار الصوت، ليختزل الزمان والمكان، في جدارية واحدة، وبلغة ضوئية حُبلى بمرايا العصور السالفة، حيث نجد للتقاطع والانكسار موعدا في بقاع قد تكون حقيقية، أو تكون أسطورية، وقد تكون فضاءات في حيّز التداخل والتضاد والتجاوز، لأنّ حضور التناص في هذين العملين نجده يشكل مساحة فنية تعبّر عن حالات تبشّر باستمرار العطاء والرّغبة في تجاوز المحظور، مع محاولة الولوج في طيات الأماكن المندسة تحت غياهب الظل، حيث لا يمكن إدراكها إلاّ بواسطة مواصلة الحفر والمغامرة، وإن شئت المجازفة. مثل هذه الإضافات الفنية التي أصبح الكاتب مولعا بها، والتي يراها بعض النقّاد المتحمّسين إلى إبداعات الكاتب بمثابة الثراء والإثراء للأدب الإسباني، ونجد في المقابل من يراها عبارة عن نكوص وردّة تشين وتلطّخ جبين الآداب الإسبانية، لأنّ مثل هذا النسيج الإبداعي، غير المسبوق، أقلّ ما يُقال عنه، أنّه مستهجن وخُلاسيٌّ من حيث التعبير أو الاستقصاء... ولعلّ هذا الصنف من النقّاد المتحاملين عليه، هم الذين ما انفك ينعتهم بالمنزعجين من إبداعاته، والانزعاج هنا دلالة على تفرّد هذه الأعمال الأدبية، ومن هناك لا نجده يولهم أهمية، لأنّهم في رأيه من الأموات الذين يحتاجون إلى الشفقة أكثر من العتاب، ويؤكد، زيادة على التهميش لأصدائهم أنّه يعني بهم الأموات الأحياء، وقد ينطبق عليهم مقولة القائل: وإذا أتتك مذمّتي من ناقص/فهي الشهادة لي بأنّيَ كامل ويزداد خوان احتقارا لبعض معاصريه من النقّاد، وحتّى الكتاب، الذين يدخلون في دائرة من أضفى عليهم مُلاءة التهميش، فيروح متجاهلا أعمالهم، غير معترف إلاّ بالقلّة ممّن تجمعه وإياهم علاقة فنيّة حميمية. وإذا كان هذا هو موقف الكاتب من هذه المجموعة، فلأنّ في الأمر ما يستدعي التدبّر، وذلك من خلال قوله أنّه لا يسمح بتضييع الوقت في المهاترات؛ لأنّ ما تبقى من العمر يريد إنفاقه في ما هو أنفع بالنسبة إليه، حيث تتجاذبه نزعتان؛ واحدة هي: الرّغبة الجامحة في إعادة قراءة التراث، أو إعادة قراءة ما قرأه، وثانية هي: لا تقلّ عن الأولى أهميّة، هي ولعه وحرصه على تعلّم اللّغة العربية، لأنّه يرى فيها السبيل الوحيد الذي يمكنه من الدخول في عملية الوعي بسنّة التقاطع الحضاري بين الشعوب، وهو المبدأ الذي آمن به كمنهج إبداعيّ وفكريّ لتخطي المتعارف عليه، والمتفق من حوله. إنّ الروائي خوان غُوَيْتي صولو من الكتاب الذين يؤمنون بدور الكاتب الكادح، الذي يُجهد نفسه من أجل الظفر بمتطلبات الحياة الأساسية، وبعد تحقيق مثل هذا الهدف، يمكنه الولوج إلى عالم الكتابة، ومن هناك يمكنه أن يتحول إلى مُحترف ليرتزق بعمله الفنّي، وهذا ما يرفض الكاتب، وإمّا أن يظلّ مسكونا بالرّغبة في استحضار لحظة الكتابة، والاستجابة لمطلبها الملحاح، ومن هناك نجده يرفض رفضا قاطعا تحوّل عملية الكتابة إلى ممارسة من أجل تلبية إلحاح الحاجة. لكنّ المغامرة التي يعيشها الكاتب حالي، تُعتبر في رأيه حالة من حالات إدراك الوعي بمعنى قيمة الشعور، بلحظة الولوج إلى قمّة التقاطع الحضاري، وقد تكون هذه اللحظة، لحظة استحضار كبرى، أو ما يشبه البريق المنبّئ بميلاد عهد من التحولات؛ لأنّ الرجعة والأمل قد يؤديان لنوع جديد من الإبداع، مع التشكيل اللّغوي الجديد الذي يتّفق مع تلك اللّحظة، فإنّهما يؤسسان لتجليات جديدة، وخاصة إذا كان عماد هذه الرّجعة هو محاولة النبش عن الأصول، أو الاعتماد على الذاكرة الشفوية كإحدى مراسي الإقلاع، إقلاع يكون صوب تلك الأناشيد الانسانية الكبرى، التي تحتفظ ببصمة الديمومة والمعاصرة الأبدية. مثل هذه المرحلة الجديدة، من القاموس الفنّي للكاتب، نجدها تنعكس جليا في المناحي الفنية، بمختلف أدواتها، والتي تمّ استحضارها لبناء هيكل روايته الأخيرة «فضائل الطائر المتوحد» ذات النكهة الصوفية الخالصة، فهذا الطائر الذي يرمز للطهر، نجده يمثل لحظة التناظر بين وَهَج الشعر الصوفي العربي، ونفحات الشعر الصوفي الإسباني، ممثلا في شاعر العصر الذهبي الإسباني، سان خوان دي لا كروف (القديس يوحنّا الصليبي). رواية «فضائل الطائر المتوّحد».. جاءت رواية «فضائل الطائر المتوحد» تزخر بالتناص المستمدّ من وهج الحضارتين: الأندلسية والإسبانية، ممّا جعلها تمثل بحق لحظة جاذبية قُصوى، نحو عوالم الإشراقات النورانية، أو عوالم الحالات التي تفِد على القلب بدون تصنّع ولا اجتلاب؛ تَفِدُ عادة مفعمة بالطرب والحزن، والقبض والبسط، إلى أن تستحيل إلى صفات ثابتة في النفس، وإذا استمرّت على هذا المنوال تحولت إلى مقامات، ونحن نعلم من خلال قاموس كبار الصوفية، إنّ الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، فالأولى تأتي من عين الوجود، والثانية تأتي ببذل المجهود. ولعلّ طائر الكاتب خوان، في هذه الرواية، هو المُشار إليه في طاسين النقطة للحلاّج والقائل فيه: « رأيت طيرا من طيور الصوفية، على جناحان، وأنكر شأني حين بقي على الطيران، فسألني عن الصفات – أو الأحوال – فقلت له: اقطع جناحك بمقراض الفناء، وإلاّ فلا تتبعني، فقال: بجناح أطير، فقلت له: ويْحك؟ ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، فوقع يومئذ في بحر الفهم وفرق» ، لا لشيء سوى أنّ البحث كما يقال عن الحقيقة صعبٌ، فكيف إلى حقيقة الحقيقة؟ إنّ الحقيقة في قاموس المتصوفة تكمن في ضوء المصباح، ومن هنا طفح من قاموس الكاتب خوان لفح جديد من التراكيب اللغوية الغريبة، كأن يُكثر مثلا من الحديث عن « الكلمة»، «الشجرة»، أو شجرة المعرفة أو الثقافة، ومثل هذه المصطلحات هي من تلقين القرآن الذي ما ينفك يفرض حضوره في هذه الرواية، فيعمد الكاتب إلى التجريد المفرط، ويمنح الكلمة أكثر من دلالة، كأن ترى في البدء كانت الكلمة، فيقول الروائي: في البدء كانت المعرفة، احتذاء بتأملات جلال الدين الرومي، أو المعري، واهتداء بما نصّ عليه الذكر الحكيم في تعليم آدم المعرفة، قبل كلّ شيء، أو جعل الكلمة شجرة طيبة، أو شجرة فارعة أصلها ثابت. هكذا يروح خوان مستعملا من الشجرة رمزا تضفي مهابتها على الثقافة الانسانية، ككلّ متكامل، ومن هذا المنطلق نجده ينفر من عملية تحجيمه داخل أُطُر يعتبرها ضيّقة كأن يُصنّف ضمن الطليعيين وأمثالهم؛ لأنّ مجريات أعماله الإبداعية تلتقي من خلال التناص الذي يُفرز التقاطع الحضاري مع ثقافات العصور الوسطى، وكلّ الثقافات الكلاسيكية، ومن هنا يُستحسنُ أن يُنعت بالكاتب الرجعي بالمفهوم الإيجابي للمعنى؛ لأنّ رجعيته تعني ببساطة العودة إلى الأصول، وتمثل نقاط الضوء التي تبرز سمة التقاطع الروائي الذي يُوَلّدُ قدسية الحوار المتكافئ بين مختلف مكونات الحضارات المتباينة والمتكاملة في الوقت ذاته، فلا غرابة إذًا أن يتجاور في حيّز الفضاء الروائي عند الكاتب خُوان كلٌّ من ابن الفارض وسان خوان دي لا كروث ( يوحنّا الصليبي)، أو الحَلاَئقي، وراهب هيتا خُوان رُويث القادم من العصور الوسطى، عصور الشفوية والخُلاسية والاندماج، لذا نجده يرى الملامح البارزة لمساره الإبداعي تمثلها، أحسن ما تمثلها، أعمال روائية «كمطالب الكونت دون خوليان» (revendicacion del Conde Don Julian) الذي يبرز حميمية الانتماء إلى الإطار الأدبي الإسباني، حيث يجسد تقاطعاته مع أعمال الشاعر القرطبي لويس دي قونقرا (Luis de Gongora) كأحد رموز البلاغة في أوج صنعتها الزخرفية، ولغتها الإيمائية، أو تمثلها كذلك روايته الشهيرة «خُوان بلا أرض» ( Juan sin tierra)، التي نعثر عبر فضاءاتها على الكثير من مواد الحكي المُستلهمة من روايات ميغال دي ثيربانتس العجائبية، وعلى وجه الخصوص من رائعته الخالدة «دون كيشوط دي لا مانتشا». أمّا رواية «المقبرة»، والتي أفضنا في الحديث حولها سابقا، فإنّنا نجد فيها حضور الحوار المباشر الذي يُذكر بالشاعر الجوّال أو التروبادور بالمعنى الأوسع، والذي تجسده شخصية الشاعر وراهب هيتا خُوان رويث الذي يمثل التقاطع الحضاري في أرقى تجلياته، بين حضارة الأندلس والحضارة المسيحية الإسبانية، والتي بشهادة المؤلف نفسه يقول: لقد أُنشئت هذه الرواية خصيصا لتُلقى بصوت عال مثلما يفعل القوال أو الزجال، فهي ما تزال تحافظ على الذاكرة الشفوية، وترسم نقطة التواصل بين عالم الأسطورة وعالم الواقع.لكن أمام هذا الزخم الروائي الرفيع تبقى رواية فضائل الطائر المتوحّد ( Las virtudes del pàjaro solitario) الأكثر كثافة والأكثر مثاقفة إذا جاز لنا القول، لأنّها تأتي بمثابة الحدّ الأقصى للطرف الغريب والمُستغرب، ولعلّ مردّ ذلك، وكما سبقت الإشارة إليه، يعود إلى الحضور الإشراقي القوّي النبر، والذي عادة ما ينضح بوهَج الأغاني الروحية التي يستعصي على الناقد أو المتلقي استجلاء حقيقتها، حتّى على مبدعها؛ فلو حاولت على سبيل المثال أن تسأل مؤلفها عن دور ذاك الحكواتي الذي ما تنفك تتردّد على لسانه مقولة: قالوا، أو قيل ؟ أو دون أن تعرف فيما إذا كان الأمر يتعلق بمرويات صادرة عن ذكور أو إناث؛ فمثل هذه الحالات المخبوءة وراء العتمة والضبابية، وإن شئت المتوارية وراء الظلال الخافتة، لا يمكن استكناه رائحتها إلاّ في تلك الأعمال الإشراقية التي تتماهى في حضور الوعي العقلاني، ويبقى فيها المجال مفتوحا للغة الهواجس والأحاسيس ساعة الحضرة الربّانية.إنّ الروائي خُوان مبدع هذا النوع من الوَهَج يعترف بأنّه «سعى لمثل هذا النوع من الخلق، مُحتذيا حذو أساطين الأناشيد الروحية الأبدية، ومتسلقا تضاريسها، ومحتذيا برؤاها النورانية معتمدا السير في المسالك الوعرة، ويعتقد أنّه في آخر المطاف قد تمكن من توطيد الرباط الفنّي فجاء المخاض بمثابة التجليات الفنية. نجد في رواية «فضائل الطائر المتوحد» حضور اللغة الصوفية بكلّ مباهجها، وخاصة قاموس الشاعر المتأله يوحنّا الصليبي (San Juan de la Cruz) الذي يسخره الروائي خوان في عمله الروائي لينفذ من خلاله إلى معالجة خبايا النفس المظلمة، أو الولوج إلى مجاهلها المتوارية وراء العتمة والأقنعة، حيث نجد الروائي يفتتح فصلا من هذه الرواية ببيت شعر ليوحنّا الصليبي، وبعدها يروح معبّرا بهذا البيت عن حالات من التحول والتناسخ، عبر اتجاهات مختلفة تمهّد لعملية خلق الشخصية في حالة تداخل مع الشاعر يوحنّا الصليبي، وفي بعض المشاهد نجد هذه الشخصية تحلّ محلّ الشاعر، ومرّات أخرى نجده كمن يعيش لحظات من حياة الروائي نفسه، حيث تظهر بعض الإشارات والتلميحات إلى أحداث الحرب الأهلية الإسبانية الدامية ما بين 1936 و1939 والتي تشتت عائلته نتيجة ضراوتها. كما نجد بعض الإشارات إلى مسيرة الروائي الذاتية، والكاشفة عن معاناته من عملية معاناته من عملية ازدواجية الرغبة الجنسية... كلّ ذلك يمثله هذا الزخم من التضاد المنسجم، حيث نجده يتوافد في شكل تداعيات تتحوّل إلى ما يشبه النشيد المُفعم بانتعاش النشوة الحسية لحظة معانقتها المُطلق.