«بسم الله الرحمن الرحيم والصّلاةُ والسّلام على أشرفِ المُرسَلين معالي السّيّد رئيس الجمعيّة العامّة، معالي السّيّد الأمين العامّ للأمم المتّحدة، أصحاب الجلالة والفخامة والسّموّ، السّيّدات والسّادة، في هذه المناسبة يسعدني أن أتوجّه بالتّحيّة والتّقدير لأصحاب الفخامة والجلالة والسّموّ قادة الدّول ورؤساء الوفود المشاركين في الدّورة الثّامنة والسّبعين (78) للجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة. كما يسعدني أن أتوجّه بأصدق عبارات التّهاني إلى السّيّد دنيس فرنسيس Dennis Francis على توليه رئاسة الدورة، متمنّيا له النجاح والتّوفيق في مهامه السامية، معربا كذلك عن تقديري لجهود السّيّد كسابا كوروسي Csaba Korosi رئيس الدّورة السّابقة. كما أسدي خالص الشّكر وبالغ التقدير لمعالي الأمين العامّ للأمم المتّحدة السّيّد أنطونيو غوتيرش Antonio Guterres، مُجدّدًا دعم الجزائر لجهوده الحثيثة والجديرة بالثّناء لتعزيز دور منظّمتنا، والنّهوض بها بما يستجيب لتطلّعات الشعوب. السّيّد الرّئيس، إنّنا في هذه القاعة التي تَسع العالم بأسره، بتنوّعه واختلافه، نطمح إلى أن تترسّخ في قناعاتنا جميعًا الحوار والنّقاش بيننا مطلبٌ ملحّ ناضلتْ من أجله شعوبنا من أجل عالم التّعايش والتّعاون والتّضامن والمساواة بين الأمم. ومن هنا، ناضلت بلادي منذ حوالي خمسين سنة خلت، ومن هذا المنبر بالذّات، عن مكامن الخلل في النّظام الدّولي الحالي، ودعتْ إلى نظام دوليّ جديد تكون فيه المساواة بين الدّول التي تأسست من أجلها منظّمة الأمم المتّحدة. السيّد الرّئيس، بلغت النزاعات والأزمات في العالم مستوى غير مسبوق، شرّدت الملايين من الأشخاص، وحولت العلاقات الدولية من علاقة تعاون وتوافق إلى مواجهة وصدامات، وضعت الهيئات والمؤسسات الدولية على المحك، في وقت يشهد فيه العالم حالة طوارئ ضاغطة، مناخية وغيرها. وأمام هذه الصراعات الجيوسياسية والأزمات المتعددة، ضعف مجلس الأمن في السنوات الأخيرة في دوره المحوري الذي قامت عليه الأممالمتحدة، والذي لخّص الميثاق -ميثاق الأممالمتحدة- أهم مقاصده في تحميله مسؤولية حفظ السلم والأمن الدوليين، لاسيما من خلال منع اللجوء إلى القوة وإزالة الأسباب التي تهدّد السلم، بالإضافة الى التسوية السلمية للنزاعات. لقد حان الوقت، للتفكير معاً، في سبل إعلاء قيم ومبادئ ميثاق الأممالمتحدة، وتعزيز التزاماتنا الجماعية، وإرساء الأسس المتينة التي تفضي إلى المزيد من التعاون العالمي الفعال بشأن القضايا الرئيسية، حتى نتمكن من إشعاع السلم والأمن الدوليين وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، في ظل عالم متعدد الأقطاب. ومن هذا المنظور، فإنّ الجزائر التي تتأهّب لتبوّإ مقعدها غير الدّائم بمجلس الأمن، تعي ثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتقها، بالنّظر للتحدّيات الجمّة التي تواجهها المجموعة الدّولية. وأغتنم هذه السانحة لأجدد الشكر لكل الدول 184 التي صوتت لصالح بلادي وهي ثقة ستحرص الجزائر على صونها أثناء عهدتها بالمجلس، وستسعى على تجسيدها بالتّعاون الوطيد مع كافّة الدّول الأعضاء في مجلس الأمن، وفي هيئة الأمم المتّحدة، وتسخير خبرة الجزائر الثّريّة في مجال الوساطة وتغليب الحلول السّياسيّة، والتّسوية السّلميّة للنّزاعات. وعملا بهذه الرّوح فإن بلادي ستنضمُّ إلى مجلس الأمن حاملةً لتطلّعات شعوب القارّة الإفريقيّة والعالم العربيّ، وداعيةً إلى تجاوز منطق تسيير الأزمات بل واعتماد مُقارباتٍ تَرتكز على الحلول النّهائية للمشاكل والأزمات من خلال معالجة أسبابها الجذريّة. السّيد الرّئيس، إنّ أيّ مسعى لتعزيز العمل الدّوليّ المشترك يقتضي منّا الاستجابة للنّداءات المتزايدة بصورة إعطاء ديناميكيّة أكبر للنّظام متعدّد الأطراف عبر إصلاح الأجهزة الرّئيسيّة للمنظّمة إصلاحًا شاملاً، من شأنه أن يجعلها أكثر شفافيّة، ويحقّق التّوازن الضّروري ما بين الأجهزة الرئيسيّة، ويكفل التوازن الجغرافيّ العادل. وعليه، فإنّ تنشيط الدّور المركزيّ للجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، باعتباره الجهاز الوحيد المعبِّر بصدق عن تنوّع مكوّنات المجموعة الدّوليّة، هو عاملٌ جوهريٌّ في تعزيز المساواة بين الدّول، وتكريس أسس الدّيمقراطيّة الحقّة. كما أن الدّفعَ بعجلة المفاوضات الدّوليّة الحكوميّة بشأن إصلاح مجلس الأمن، وفق منهج متكامل وشامل، ينبغي أن يكون أولويّة للمجموعة الدّوليّة، بُغية التّوصّل إلى توافُقٍ حول إصلاحٍ حقيقيّ أكثر تمثيلا وشفافيّة. وهو ما يدعو هنا إلى التّأكيد على التزام الجزائر بالموقف الإفريقيّ الموحّد بما يضعُ حدّا للإجحاف التّاريخيّ في حقّ القارّة الإفريقيّة. السّيّد الرّئيس، إنّ الجزائر التي تعي جيدا ثمن انتزاع الحرّيّة، لن تتخلّى عن مساندة القضايا العادلة، ودعم الشّعوب المضطهدة التي تكافح من أجل التحرر، ومن هذا المنطلق سَعتْ على الدّوام إلى دعم القضيّة الفلسطينيّة لتمكين الشّعب الفلسطيني الشقيق من حقوقه غير القابلة للتّصرّف، في إقامة دولته المستقلّة على حدود الرّابع من جوان 1967 وعاصمتها القدس الشّريف، طبقا لقرارات الشرعية الدّوليّة. وكَتَعبيرٍ عن موقفها ودعمها للقضيّة الفلسطينيّة العادلة، بادرتْ بلادي، نهاية السّنة الماضية، وبإشرافي الشّخصيّ، بعَقْدِ مؤتمرٍ للمّ الشّمل من أجل توحيد الفصائل الفلسطينيّة تَكَلَّلَ باعتماد «إعلان الجزائر». وأودّ في هذا السّياق، أن أعرب مُجدّدا عن تمسّكنا بمبادرة السّلام العربيّة كإطارٍ لتسوية القضيّة الفلسطينيّة وإنهاء الاحتلال الّذي يعدّ السّبب الجوهريّ في عدم استقرار منطقة الشّرق الأوسط، مُهيبًا بالضّمير الحيّ للمجتمع الدّولي أن يتحمّل المسؤوليّة الأخلاقيّة والتّاريخيّة من أجل تمكين الشّعب الفلسطينيّ من تقرير مصيره، واسترجاع حقوقه كاملة غير منقوصة. من جهة أخرى، أغتنم هذه الفرصة لِأَدعو محكمة العدل الدّوليّة إلى الاستجابة لطلب الجمعيّة العامّة لمنظّمة الأمم المتّحدة، المؤرّخ في 30 ديسمبر 2022، بإصدار رأيها الاستشاريّ حول «الممارسات التي تمسّ حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بما فيها القدس الشريف. متطلّعا معكم إلى انتصار الحقّ وإنصاف كفاح الشّعب الفلسطينيّ الّذي طالَتْ تضحياته ومعاناته من مظالم الاحتلال. كما أدعو من هذا المنبر مجلس الأمن، إلى إصدار قرار يؤكد بموجبه حماية حل الدولتين الذي يحظى بإجماع دولي ووقف الأعمال أحادية الجانب للسلطة القائمة على الاحتلال وعلى رأسها الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، مع تجديد المطالبة، وألح على ذلك، بعقد جمعية عامة استثنائية لمنح دولة فلسطين العضوية الكاملة فيها، وأكرر مع تجديد المطالبة بعقد جمعية عامة استثنائية لمنح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. إنّنا نعتزّ بنجاح منظّمتنا في إنهاء الاستعمار في العديد من المناطق والأقاليم، ونتطلّع إلى الوصول إلى تصفية نهائيّة لظاهرة الاستعمار مع آخر مستعمرة إفريقية، حيث ما يزال شعبٌ بأكمله في الصّحراء الغربيّة محرومًا من حقّه الأساسيّ في تقرير المصير، عبر استفتاء حرّ ونزيه يتوافق مع خطّة التّسوية الأمميّة الإفريقيّة الّتي اعتمدها مجلس الأمن سنة 1991، ووافق عليها الطّرفان، والّتي تظلُّ تنتظر التطبيق. وفي ظلّ هذا الواقع، وأمام المحاولات الهادفة إلى خلق شرعيّة من لاشرعية، يقعُ على الأمم المتّحدة مسؤولية صونَ مصداقية قراراتها، مع واجب الإدراك الجماعي بأن دعم التّنفيذ الكامل لقراراتها هو حفظٌ لهيبة هذه المنظّمة. وفي هذا الإطار، أجدّد دعمنا لجهود الأمين العام لمنظّمة الأمم المتّحدة السيد أنطونيو غوتيرش ومبعوثه الشّخصي، في مساعي إعادة بعث مسار المفاوضات المباشرة من أجل تنظيم استفتاء يسمح بتقرير مصير الشّعب الصّحراوي طبقا لقرارات مجلس الأمن. السيّد الرّئيس، إنّ بلادي، وهي تتابع باهتمام بالغ الاضطرابات المقلقة في بعض الدول الشّقيقة والصّديقة، تُواصل بذل قُصارى جهدها للعمل على إيجاد حلول سلميّة، وجمع الفرقاء من أجل تقريب المواقف ووجهات النّظر. ففيما يتعلق بالوضع في ليبيا الشّقيقة، أؤكّد هنا دعمنا لجهود الأمم المتّحدة الرّامية لإيجاد حلّ سياسي، يقوده اللّيبيون أنفسهم، ويُمكِّنُهم من الحفاظ على وحدة ليبيا، وسيادة وسلامة أراضيها. أما بخصوص الوضع في مالي، فإنّني أُجدِّد عزم الجزائر التي تتولّى ريادة الوساطة الدّوليّة ورئاسة لجنة مُتابعة تنفيذ اتفاق السّلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر، على مواصلة جُهودها لتجاوز الصّعوبات التي يعيشها هذا البلد الشّقيق، مع التأكيد مجددا على موقفنا الرافض للجوء الى القوة لفض النزاعات. بالنسبة للوضع المستجدّ في الجارة النّيجر، فالجزائر تُؤكّد تمسّكها بالعودة إلى النّظام الدّستوري بالطّرق السّلميّة، وتغليب الحلول السّياسيّة والدّبلوماسيّة، واحترام متطلّبات دولة القانون. وتدعو إلى توخّي الحذر أمام نوايا التدخّل العسكريّ الأجنبيّ، لما له من عواقب خطيرة على أمن واستقرار النّيجر والمنطقة كلها. وفي نفس الوقت، فإنّ الوضع الباعث على القلق في السّودان، يستوقفنا لدعوة كافة الأطراف الشقيقة إلى وقف النزاع وتغليب لغة الحوار لإنهاء حالة الاقتتال وما لها من تداعياتٍ على الوضع الإنساني. وبالتّأكيد فإنّ هذه الأوضاع الهشّة وغير المستقرّة تُلقي بظلالها على منطقة السّاحل والصّحراء التي تُعاني من ضعف معدّلات التّنمية وما يشبه المجاعة، وانعكاسات التغيّرات المناخيّة، الأمر الّذي يزيد من حدّة عدم الاستقرار، ويغذّى الجماعات الإرهابيّة التي تتخذ من المنطقة ملاذًا لنشاطها الإجرامي. وفي هذا السّياق، لا تتوانى الجزائر في دعم الجهود التّنموية لدول المنطقة، ومشاركة تجربتها في مكافحة الإرهاب والتطرّف العنيف، حيث قدّمتُ إلى القمّة الاستثنائيّة للاتّحاد الإفريقيّ المنعقدة في مالابو يوم 28 ماي 2022، باعتبارنا منسّقًا لمكافحة الإرهاب والتطرّف العنيف في إفريقيا، تقريرا عن تطوّر التّهديد الإرهابيّ في إفريقيا، وآليات مكافحته. وهو التّقرير الذي يعرضُ جملة من الآليات العمليّة لتعزيز مكافحة الإرهاب في إفريقيا، ويشدّد على ضرورة وضع قضيّة مكافحة الإرهاب على رأس أولويّات العمل الإفريقيّ المشترك. وعلى صعيد آخر، ولأنَّ إسهامات الجزائر في جهود الوساطة الدّوليّة، لا تنحصر في نطاقها الجغرافيّ، انخرطت بلادي بصدقٍ في جهود مجموعة الاتّصال العربيّة التي تهدف إلى المساهمة في بعث مُفاوضاتٍ مباشرة بين روسيا وأوكرانيا. السيّد الرّئيس، بعد مضي أكثر من ثماني سنوات عن اعتماد برنامج 2030 للتّنمية المستدامة وخطة عمل أديس أبابا، لا تزال العديد من الدّول النّامية تواجه تحدّياتٍ تَستوجبُ تضامنًا أكثر على المستوى الدّولي من أجل عالم أفضل، ونموذج اقتصادي فعّال وعادل، يسمح بتحقيق أهداف التّنمية المستدامة. ولقد تبنت الجزائر خطة التنمية المستدامة وأدرجتها كأولوية وطنية ضمن كل الاستراتيجيات والبرامج والخطط الحكومية، حيث مكّن ذلك من قطع أشواط مهمة جدا وتحقيق نتائج معتبرة في مسار أهداف التّنمية المستدامة، لاسيما في قطاعات التربية والصحة والبناء والكهرباء والمياه. وعلى ذكر المياه، فإن بلادي انطلقت ببرنامج تحلية مياه البحر وسنصل مع نهاية سنة 2024 إلى إنتاج مليار وثلاثمائة مليون متر مكعب سنويا إن شاء الله. السيد الرئيس، إنّ بلادي التي حظيت بدعم وثقة الدّول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان لنيل العضويّة فيه، هي طرفٌ في معظم المعاهدات الدّوليّة لحقوق الإنسان، وتعمل بكلّ حرص على تعزيز تعاونها معه، ومواصلة تنسيقها مع مختلف هيئات المعاهدات المعنيّة بحقوق الإنسان، وآلية الاستعراض الدّوريّ الشّامل، حيث قدّمت بلادي في نوفمبر 2022 تقريرها الوطني الرّابع في إطار هذه الآلية. وبلادي تؤمن إيمانًا عميقًا بأنّ احترام حقوق الإنسان وترقيتها هو حَجرُ الزّاوية لأيّ نظام سياسيّ ذي مصداقيّة، وتعمل على تعزيزها بكلّ الوسائل الممكنة. وهو إيمانٌ نابعٌ من تمسّك الشّعب الجزائري بحقوق الإنسان، ويُعَدُّ التعديل الدّستوري في بلادي سنة 2020 إشهادًا على قناعتنا بضرورة تعزيز الحقوق والحرّيات، حيث نصَّ صراحة على أنّه لا يمكن أبدًا المساس بجوهرها، مُكَرّسًا في أحكامِه المساواة بين كلّ المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات، بإزالة العقبات التي تحول دون المشاركة الفعّالة للجميع، لا سيما في مجال ترقية حقوق المرأة وتمكينها سياسيًا واقتصاديًا من أجل إدماجها في مناصب المسؤوليّة، وتحقيق مبدإ المناصفة في سوق التّشغيل، وتعزيز دورها في السّلم والأمن، وترقية مكانتها في مختلف مجالات الحياة على المستوى الوطنيّ والقارّيّ والدّوليّ. وقد تمّ إعداد مُخطّط وطنيّ عمليّ في جويلية 2023 في إطار تنفيذ القرار 1325 الصّادر من مجلس الأمن في أكتوبر 2000، تلتزم من خلاله الجزائر بالحرص على ترقية دور المرأة في حلّ النّزاعات والوقاية منها بما يتماشى ومبادئ السّياسة الخارجيّة لبلادنا. كما اعتمدت الجزائر، التي تزخرُ بطاقات شبّانيّة هائلة تتجاوز 70٪ من سكّانها، مناهج تُمَكِّنُ من توفير الأُطُر المؤسّساتية والوسائل المادّية الكفيلة بتنمية قُدُراتها، وإدْمَاجِ الشباب كَقُوّةٍ مُحرّكة في مساراتِ التّنمية المُستدامة، وعلى كافّة الأصعدة السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة والاجتماعيّة. وفي الختام، سنبقى نتطلع إلى عالمِ يسوده الأمن والازدهار والرفاه الإنساني تحت مظلة منظمة الأممالمتحدة. فلْتَكُنْ الإرادةُ صادقةً والعزائم قوية لتَحقيقِ تطلعاتِ شُعوبنا المشروعة. شكرا على كرم الإصغاء، والسّلام عليكُم».