يستغرب البعض درجة العنف التي تسكن الصّهاينة وهم يقصفون ويهدّمون البيوت على رؤوس النساء والأطفال والمدنيّين العزّل في قطاع غزّة، ويتساءلون كيف يستطيع هؤلاء الذين يذكّروننا صباح مساء بالأهوال التي لحقتهم على أيدي النازيّين أن يرتكبوا مثل هذه المجازر المروّعة، وكيف للمجتمع الدولي أن يؤيّد إجرامهم ويبرّره بل ويدعمه بالغطاء السياسي والعسكري، ويمضي معهم في مسعاهم إلى تفريغ القطاع من سكّانه كمقدّمة لوأد القضية الفلسطينية ونزع شوكتها إلى الأبد. في الواقع لا يجب على أحد أن يستغرب درجة العنف التي تستعملها دولة الاحتلال الصهيوني، ولا أن يتعجّب لحجم التواطؤ الدولي معها، لسبب وحيد، وهو أنّ هذا الكيان، راهن منذ البداية على القوة والسلاح من أجل احتلال فلسطين وإقامة دولة تجمع شتات اليهود، ومنذ البداية أيضا وإلى غاية الآن حظي بصكّ ممضي على بياض يتضمّن دعما مطلقا من المجموعة الدولية لكلّ قراراته ومخطّطاته مهما كانت دمويتها ولا قانونيتها. وحتى نفهم هذا العنف الصهيوني اللاّمتناهي، يجب أن نعود إلى اليوم الذي قرّر فيه رواد الفكر الصهيوني الأوائل إنشاء الدولة اليهودية على أرض فلسطين، حيث التزموا باستعمال كلّ الوسائل لتحقيق هذه الغاية، وراهنوا بالأساس على العنف وقوّة السلاح، فقبل قرن من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول الذي كان في 29 أوت 1897، وجّه الحاخام الأكبر للقدس نداء إلى اليهود لإعادة بناء - ما قال - أسوار المدينة اليتيمة "القدس"، وحثّهم على القدوم إلى فلسطين قائلا "ليتجمّع كلّ الرجال اليهود القادرين على حمل السّلاح وليأتوا إلى فلسطين". في البدء إذن كان العنف هو نقطة الانطلاق لقيام الكيان الصهيوني، أي قبل المحرقة بقرون، حيث تلقّف يهود العالم نداء الحاخام "آرون ليفي" وبعده نداءات "تيودور هرتزل"، وشدّوا الرحال إلى فلسطين تسبقهم أسلحتهم وعصاباتهم التي كانت النواة لإنشاء الجيش الصهيوني الذي نراه اليوم يسفك دماء نساء وأطفال غزّة. ومذّاك، واصل الصهاينة يتوارثون هذا العنف مستغلين المتغيرات الدولية التي صبّت في صالحم خاصة المحرقة التي ارتكبتها النازية، ليحقّقوا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حلمهم، ويعلنوا قيام دولتهم على أرض فلسطين. وقد زادت حدّة عنفهم وإجرامهم مباشرة بعد إعلان كيانهم، إذ منحت عصابات الهاغانا والأرغون والتشترت وغيرها الضّوء الأخضر لارتكاب أبشع المجازر والمذابح، فكانت البداية بمذبحة دير ياسين التي وقعت قبل أيام معدودة من قيام الدولة الصهيونية، حيث باغتت العصابات القادمة حديثا من الغيتوهات الأوروبية، سكان قرية دير ياسين وهم نياما، وقتلت وحرقت 254 فلسطيني، كما شنّت هذه العصابات الدموية اعتداءات مريعة بقصد قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وإجبار الباقي على المغادرة، وقد نجحت بالفعل في مبتغاها واستولت على الأراضي التي نزح منها أهلها تحت القمع والقتل، وواصل الصهاينة في توسيع سجلّهم الإجرامي مع مرور السنين بارتكاب مذابح لا ينساها التاريخ، فكانت مجازر صبرا وشاتيلا، حيث قتل شارون مئات اللاجئين الفلسطينيين في جنوبلبنان، ثم مجزرة الحرم الإبراهيمي وقانا وجنين ومجازر أخرى لا تعدّ ولا تحصى، وكان الأطفال الفلسطينيون دوما على رأس قائمة الضحايا، واستهدافهم لا يكون صدفة بل مقصود لإبادة الشعب الفلسطيني، كما ارتكب الموساد العديد من الاغتيالات في الداخل والخارج طالت العديد من رجالات السياسة والمقاومة الفلسطينية. ومن أبرز عمليات الموساد الغادرة، اغتيال خليل الوزير "أبو جهاد"، أحد مؤسسي حركة (فتح) وجناحها العسكري "العاصفة" في 16 أفريل 1988 بواسطة فرقة كوموندوس في تونس. وعُرف "أبو جهاد" بأنه مهندس الانتفاضة الأولى عام 1987، وراسم برنامجها في رسالته الشهيرة يوم 27 مارس 1988، بعنوان: "لنستمر في الهجوم، لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة، لا صوت يعلو فوق صوت منظمة التحرير الفلسطينيّة". كما نفّذت دولة الاحتلال عشرات عمليات الاغتيال التي طالت الكوادر في الفصائل الفلسطينية منذ نشوء المقاومة المسلّحة، ولم تفرق بين الكوادر السياسية والعسكرية. ومن أبرز الكوادر التي اغتالتها، الشهيد الشيخ أحمد ياسين، مؤسّس حركة حماس، في هجوم صاروخي شنّته الطائرات الحربية الصّهيونية في 22 مارس 2004، حيث أطلقت عليه ثلاثة صواريخ وهو خارج على كرسيه المتحرك من مسجد المجمّع الإسلامي بحي الصبرة في قطاع غزة. ثمّ كان اغتيال عبد العزيز الرنتيسي، وهو طبيب وسياسي فلسطيني، من مؤسسي حركة حماس ومن أبرز القيادات السياسية فيها. فبعد أقل من شهر من توليه قيادة حماس في اعقاب اغتيال الشيخ احمد ياسين، اغتالته قوات الاحتلال بإطلاق صاروخ على سيارته في مدينة غزة. وانضم أحمد الجعبري هو الآخر لضحايا الاغتيالات الصهيونية، وقد كان من مؤسسي كتائب القسام، واتهمه الاحتلال بالمسؤولية عن تخطيط وتنفيذ عدد كبير من العمليات العسكرية ضد الكيان الصهيوني، وظل المطلوب رقم واحد لديه وحاول اغتياله أربع مرات. وفي 14 نوفمبر 2012 نجحت قوات الاحتلال في الوصول إليه، فاستهدفته بغارة جوية عندما كان في سيارة بالقرب من مجمع الخدمة العامة في مدينة غزة بعد أسبوع من عودته من الحج. جذور التّواطؤ الغربي العنف، مسار ينهجه الاحتلال الصهيوني لضمان استمراريته، والمفارقة العجيبة أنّه وهو يمارس هذا العنف يلقى الدّعم الغربي على كافة المستويات العسكرية والسياسية والمالية والإعلامية، فالجميع اليوم يبرّر عدوانه على غزّة وتدميره للمباني على رؤوس سكّانها، ولا أحد يستنكر أو يحرّك ساكنا وهو يقف شاهدا على حصاره اللاانساني على أهل القطاع، حيث يمنع عنهم الماء والغذاء والدواء والكهرباء ليدفع من سلم من غاراته إماّ للموت أو للهجرة. وفي حين أنّنا لا يمكن أن نفهم سرّ هذا الدّعم الغربي المطلق للكيان الصهيوني، وازدواجية المعايير التي يستعملها معه، فإنّنا نؤكّد بأن قيام هذا الكيان ما كان ليقع لولا بريطانياوأمريكاوفرنساوألمانيا، وغيرها من الدول التي تحمي ظهر الصهاينة في المحافل الدولية، وتتكالب على الفلسطينيّين وتمنع عنهم حقّهم في الاستقلال بدولتهم. ولهذا الدّعم أو التّواطؤ جذور تمتدّ لعهود طويلة، فالكيان الصهيوني، وإن تأسّس بفضل جهود اليهود ونشاط الحركة الصهيونية العالمية، فإنّه ما كان ليرسّخ أقدامه على أرض فلسطين لولا تواطؤ كبار العالم، بدءا ببريطانيا التي منحت الصهاينة وعد بلفور وأقعدتهم مكانها بعد إجلاء قواتها من فلسطين، ثم أمريكا التي كانت أوّل دولة تعترف بالكيان الجديد، إذ بعد دقائق من إعلان الصهيوني "ديفيد بن غوريون" قيام كيانه حتى أسرع الرئيس الأمريكي "هاري ترومان" للاعتراف به، ونفس الأمر قام به الاتحاد السوفياتي ومعظم الدول الأوروبية التي أخذت تتسابق في تقديم الاعتراف والولاء، وتعد بالدعم والحماية للكيان الصهيوني، كما ظلّت ألمانيا تغدق على الصهاينة بالأموال في إطار تعويضات المحرقة، أمّا فرنسا فهي من ساعدت على بناء ترسانتهم النووية السرية. اصطفاف صلب كالصّخر
اليوم مثل البارحة تماما، الدول الغربية وفي مقدّمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية تقف إلى جانب الصهاينة بلا تردّد ولا تأخّر، ففي أوّل إطلاله له بعد عمليه "طوفان الاقصى"أجرى الرئيس الأمريكي "جو بايدن" اتصالًا هاتفيًا مع رئيس الوزراء الصهيوني «بنيامين نتنياهو"، مؤكّدًا له "أنّ الولاياتالمتحدةالأمريكية تقف إلى جانب الكيان الصهيوني، وتدعم بشكل كامل حقه في الدفاع عن النفس، ووصف هذا الدعم بأنه صلب كالصخر. وفي خطاب ألقاه يوم 10 أكتوبر، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن للكيان الصهيوني، شأنه شأن كل دولة في العالم، الحق في الرد - بل عليه واجب الرد - على هذه الهجمات التي وصفها بالشريرة، ثم أكد أنه يجب ألا يكون هناك شك في أن الولاياتالمتحدة تدعم الصهاينة. وأعلنت الولاياتالمتحدة أنّها ستزوّد بسرعة قوات الدفاع الصهيونية بمعدات وموارد إضافية بينها ذخائر، وتنوّع ذلك الدعم جوا وبحرًا. بحريا وجهت وزارة الدفاع الامريكية حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد آر فورد" والسفن الحربية المرافقة لها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، قبل أن تعلن عزمها إرسال حاملة طائرات ثانية هي، "يو إس إس آيزنهاور" التي أبحرت من قاعدة نورفوك البحرية في ولاية فرجينيا، متجهة إلى منطقة القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا. وقال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، إنّ إرسال الولاياتالمتحدة حاملة طائرات ثانية إلى شرق البحر المتوسط يأتي في إطار ردع الأعمال العدائية ضد الاحتلال الصهيوني أو أي جهود لتوسيع الحرب. وأضاف أوستن - في بيان - أن نشر السفن الحربية يشير إلى التزام واشنطن الحازم بأمن الكيان الصهيوني، وتصميمها على ردع أي دولة أو جهة غير حكومية تسعى إلى تصعيد هذه الحرب. أمّا جوًّا، فقد أكّد وزير الدفاع الأمريكي، تعزيز أسراب الطائرات المقاتلة في المنطقة، بطراد الصواريخ ومدمّرات الصّواريخ الموجهة. من جانبه، وضع بعض مشرعي الكونغرس الأمريكي، قرارات تقوم على إدراج المساعدات للصهاينة، كما طرح مساعدات مقترحة تقوم على إعادة تزويد نظام القبة الحديدية بالصواريخ الدفاعية لعدم نفاد مخزونها. ولم يتوقف الدّعم والإسناد الأمريكي عند هذا الحد، حيث لم يتردّد بايدن في زيارة تل أبيب شخصيّا ليؤكّد بشكل مباشر تضامنه وتعاطفه مع الصهاينة، وليسمع من قادتهم ما يحتاجون إليه لمواصلة حربهم ضدّ الفلسطينيين. ومعلوم أنّ الرّئيس الأمريكي، لم يتطرّق لضرورة وقف إطلاق النار، وركّز على إدانة هجوم حماس والإفراج عن المحتجزين لديها. لا استقرار في ظل الانحياز والظّلم الاصطفاف الأمريكي مع الكيان الصّهيوني ليس أمرا جديدا، فالعلاقة بين الجانبين متينة واستراتيجية، حيث تمنح الولاياتالمتحدة هذا الأخير مليارات الدولارات من المساعدات سنويًا، وتُلزم مذكرة تفاهم للمساعدات العسكرية الثنائية بين الصهاينة وواشنطن مدتها 10 سنوات، وتمّ توقيعها في عام 2016، الولاياتالمتحدة بتزويد دولة الاحتلال بمبلغ 3.3 مليارات دولار من التمويل العسكري الأجنبي، إضافة لإنفاق 500 مليون دولار سنويا على برامج الدفاع الصاروخي المشتركة من السنة المالية 2019 إلى السنة المالية 2028. وتشير مذكرة التفاهم إلى إمكانية تقديم مساعدات تكميلية في حالات الطوارئ مثل الحروب. وحتى عام 2023، قدّمت الولاياتالمتحدة لدولة الاحتلال ما قيمته 158.8 مليار دولار من المساعدات المختلفة، تتضمّن مساعدات عسكرية بقيمة 114.4 مليار دولار، ومساعدات اقتصادية بقيمة 34.4 مليار دولار، ومساعدات برامج الصواريخ 10 مليارات دولار. ولا تنحصر متانة العلاقات الأمريكية الصهيونية عند هذا الحد، فعادة ما تمنع واشنطن قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تدين دولة الاحتلال الصهيوني، وفي الغالب تبرّر هجماته العسكرية، كما نرى في غزة هذه الأيام. ونفس المواقف تبديها معظم الدول الغربية التي تدعم الصهاينة بشكل لا حدود له، ليبقى السؤال مطروحا، لماذا لا تستغل هذه الدول وفي مقدّمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية علاقاتها المميزة مع دولة الاحتلال الصهيوني لإيجاد حلّ نهائي عادل للقضية الفلسطينية يقود إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة؟ ولماذا لا تتحرّك لإقناع الصّهاينة بتغيير سلوكهم القائم على العنف والقوة والتهجير والتوسع الاستيطاني والانخراط بدل ذلك في مسار سلمي يقود إلى إعادة الحقوق إلى أصحابها؟ في الواقع، ندرك جيّدا بأنّ هذه الدول لا يعنيها مطلقا ما يتكبّده الفلسطينيّون، وهي لن تحيد مطلقا عن دعم وإسناد الصّهاينة، لكنّنا ندرك أيضا بل ونؤمن بأنّ الاستقرار والأمن لن يعمّا الشرق الأوسط ما دام العالم ماض في انحيازه وفي ازدواجية معاييره.