تلقّت وسائل الإعلام الغربية الأخبار القادمة من الشرق الأوسط يوم السابع من أكتوبر 2023 بانفعال غير مسبوق: إذ لم تكن في المجمل جزءًا محايدا من التغطية الإعلامية في الأيام الأولى من عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية، بل كانت تتسق مع الرواية الصهيونية التي ردّدها مسؤولون غربيّون؛ لذا جاء سلوكها في هذه المرة صادمًا وخارجا عن معايير الصحافة الإخبارية المهنية والأخلاقية على نحو لافت، على الرغم من وجود تاريخ طويل لها من الانحياز إلى السردية الصهيونية. باسم الطويسي الحلقة الثانية تتجاوز مسألة التأطير الإعلامي التحيز المباشر في الأخبار إلى دور وسائل الإعلام بإعادة بناء الواقع، ومنح الأحداث معنى خاصا: أي التأثير طويل المدى في الاتجاهات والمعتقدات والقيم. والتأطير يشير ببساطة إلى عملية إعلامية تقوم على الانتقاء والتأكيد باستخدام أساليب عديدة. وقد نشرت عشرات البحوث التي تناولت تأطير الصراع الصهيوني - الفلسطيني بوساطة الإعلام الغربي من خلال الكلمات والجمل والأوصاف ونبرة الصوت التي تستخدمها التغطية، وغيرها من الأساليب التي تترك أثرًا عميقا وبعيد المدى. وقد اتّفقت معظم هذه الدراسات على العديد من الأطر التي اعتمدها الإعلام الغربي في تغطيته لحرب الكيان الصهيوني على غزة، منها أطر تاريخية، وقد تذهب أكثر عمقا وتستحدث أطرًا جديدة. ويشير الرصد الأولي لتغطية قنوات إخبارية أمريكية وبريطانية إلى أبرز هذه الأطر. التّأطير الجديد للإرهاب وصف الصّهاينة منذ اللحظة الأولى عملية "طوفان الأقصى" ب "العمل الإرهابي"، وردّد ذلك معظم الزعماء الغربيين، ومعظم وسائل الإعلام الغربية الرئيسة، انطوى تصوير المقاتلين الفلسطينيين بعد هذه العملية على مصفوفة من المفاهيم والكلمات والأوصاف والأدوار التي تغذي أطروحة الإرهاب، وتطورت هذه المصفوفة الدعائية في أكثر من محطة الأولى، وصف ما جرى بأنه هولوكوست جديدة في مخاطبة الحساسية الذاكرة الغربية ضد النازية والهولوكوست الثانية. طوّر القادة الكيان الصهيوني والإعلام الكيان الصهيوني صورة أخرى. فربطوا صورة المقاومة الفلسطينية ومقاتليها ب "القاعدة"، قبيل زيارة بايدن إلى تل أبيب في 18 أكتوبر لتذكير الشعب الأمريكي بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وهدفت هذه المقارنة إلى خلق تعاطف واصطفاف بين المواطنين الأمريكيين والكيان الصهيوني، ما يوحي بأنهم يواجهون العدو والمخاطر نفسها. مع ازدياد حدة القصف على غزة، أخذ القادة الكيان الصهيوني والغربيون توجيه الخطابين السياسي والإعلامي يهدف ربط المقاومة بصورة تنظيم "داعش" لتبرير عمليتي القتل والتدمير، واعتبار أن القضاء على المقاومة يتطلب الأدوات والأساليب التي اتبعت في القضاء على "داعش". وانتقل تأطير الإرهاب الجديد بمستويات متعددة إلى العديد من وسائل الإعلام الغربية وبنسب متفاوتة. ووصفت محطتا "سي إن إن" و«فوكس نيوز" المقاتلين الفلسطينيين بالإرهابيين، أما صحيفة "واشنطن بوست" ومحطة "بي بي سي" فوصفتهم بالمتشدّدين والمسلّحين. يقدّم السرد الإعلامي الحرب الحالية على أنها حرب بين "حماس" والكيان الصهيوني، وليست بين الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني المحتل، ويجري تأطير هذا الصراع على أنه معركة بين دولة ديمقراطية وجماعة إرهابية، ويذهب التأطير إلى تقديم "حماس" باعتبارها جماعة إرهابية لا تمثل القضية الفلسطينية أو شعبها، وتصوير "حماس" كأنها اختطفت غزة وفرضت إرادتها على شعبها. إطار نزع الإنسانية عن الفلسطينيّين كان الفرق كبيرًا جدًا في الأسبوعين الأولين من الحرب في تغطية وسائل الإعلام الغربية للضحايا المدنيين من الطرفين، بل إن بعض وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية تجنبّت تغطية القصف الكيان الصهيوني لأيام عديدة في بداية الحرب، وحاول القادة الكيان الصهيوني والأمريكيون دفع الإعلام إلى تصوير الضحايا الفلسطينيين بأنهم أقل إنسانية، وأقل مكانة من الصهاينة. وردّدت البرامج الحوارية ومقالات الرأي العديد من الأوصاف التي أطلقها سياسيون في وصف ما ارتكبه مقاتلون فلسطينيون في مواجهتهم الأولى في 7 أكتوبر من قبيل: "الفلسطينيون حيوانات بشرية، الصهاينة يخوضون حربًا دفاعا عن قيم الحضارة"، "القضاء على الوحوش"، "يجب أن تقف كل الأمم مع الإنسانية الأعمال البربرية التي ارتكبها مقاتلو حماس"، "اغتصاب النساء"، "فصل الرؤوس عن الأجساد، إحراق..أسر". وهي تعانق بعضها بدأت هذه السردية سياسية ثم إعلامية، ووردت هذه الأوصاف على السنة رئيس الوزراء الكيان الصهيوني وقائد الجيش ووزير الخارجية، وكذلك الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية وغيرهم. لا أحد ينكر أن مدنيين صهاينة قتلوا بالفعل في المواجهة الأولى، لكن العديد من الادعاءات قد ثبت عدم صدقيتها أو عدم دقتها، وثمة مبالغات هائلة. في المقابل، بقيت وسائل إعلام عربية عديدة بعيدة عن تغطية ما وصف بأنها جرائم حرب، وتدمير ممنهج لقطاع غزة. فقد مورست رقاية متعددة الأوجه على أي صوت يحاول رؤية المشهد الإنساني في قطاع غزة، أو يحاول الانحراف عن الخط الرسمي للدعم غير المشروط للكيان الصهيوني. كانت هناك حملات قمع للاحتجاجات والتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، وتهديدات باعتقال الأشخاص بسبب رفعهم العلم الفلسطيني، ومحاولات شركات التكنولوجيا الكبرى إزالة المحتوى المؤيد للفلسطينيين أو حظره. كما مارست وسائل إعلام غربية قمع هذه الأصوات في تغطيتها. وتردّد أن بعض هذه الوسائل كانت تطلب من ضيوفها، الذين يعتبرون أكثر قربا إلى وجهة النظر الفلسطينية، إدانة المقاومة على الهواء في سلوك لم تألفه وسائل الإعلام في البلدان الديمقراطية حتى في أحلك الظروف. بقيت نشرات هيئة الإذاعة البريطانية تمارس التمييز حتى في وصف الموت، حيث تستخدم وصف "موت" مع الفلسطينيين و«قتل" مع الكيان الصهيوني. فمثلا، عندما قال حسام زملط رئيس البعثة الفلسطينية في لندن. في مقابلة مع محطة "بي بي سي"، إن سبعة من أفراد عائلته قتلوا بسبب القنابل الصهيونية، كان رد فعل محاورته هو تقديم التعزية بكلمتين، وقولها: "لا يمكنك التغاضي عن قتل المدنيين في الكيان الصهيوني بمعنى استمرار تصنيف أحد الجانبين على أنه المعتدي والآخر الضحية أو إضفاء الطابع الإنساني على جانب دون الآخر". إنّ حدة التعابير التي استخدمتها وسائل إعلام غربية مثل قطع رؤوس الأطفال الكيان الصهيوني، لا تقارن بمجرد ذكر أرقام القتلى من الأطفال الفلسطينيين مهما بلغ عددهم فهو تأطير يومي تراكمي في محاولة الإضفاء الطابع الإنساني على ضحايا الكيان الصهيوني، ونزع الإنسانية عن ضحايا الفلسطينيين. تفيد الخبرات التاريخية المشابهة أنّ نزع الإنسانية عادة ما يستخدم للتهيئة للإبادة الجماعية، كما وصفت ذلك شبكة "الإنسانية الجديدة" في افتتاحية رئيسة لها: إذ قالت: "تصوير الفلسطينيين على أنهم أقل استحقاقا لتعاطفنا؛ لأنه يُنظر إليهم على أنهم أقل من مجرد بشر. وعندما تقتبس الصحف من الوزراء الكيان الصهيوني قولهم إنهم يقاتلون حيوانات بشرية - ما يعكس وصف النازيين لليهود بأنهم جرذان قبل المحرقة، أو وصف الهوتو للتوتسي في رواندا بأنهم صراصير قبل الإبادة الجماعية - يساهم في تجريد الناس من إنسانيتهم، فيجعل قتلهم أسهل". بهذا، لا ترى الرؤية الإنسانية الفلسطينية؛ لأن الاستعمار والتفوق الأبيض وكراهية الإسلام هي العدسة المهيمنة التي لا تزال تنظر من خلالها الدول والمؤسسات والشعوب ووسائل الإعلام في الغرب إلى العالم. إطار الدّفاع عن النّفس حاولت التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام الرئيسة تقديم العمليات العسكرية الصهيونية في إطار الدفاع عن النفس مقابل الإرهاب الفلسطيني، بل ذهبت إلى اتباع الأطروحات الرسمية الأمريكية والبريطانية والصهيونية بأن ما تقوم الآلة العسكرية يعد ضمن قواعد الحرب، ويأتي في إطار الدفاع عن النفس، وهناك محاولة تأطير أخرى في هذا السياق بأن المقاومة الفلسطينية تستخدم المدنيين دروعا بشرية. إنّ الإصرار على "حق" الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه حتى في مواجهة الفظائع التي لا يمكن إنكارها، والتي يعود تاريخها إلى أيام تأسيسه، يعكس تصورًا غربياً مفاده أن الوفيات بين المدنيين العرب تشكل ثمنا مقبولًا لأمن الكيان الصهيوني وازدهاره. ويوفر هذا الإطار سردية تبريرية لأي عمل يقوم به الكيان الصهيوني، ويبرّر الإبادة الجماعية للمدنيين والتهجير القسري، الذي عبّر عنه نتنياهو في أول ظهور إعلامي له بعد هجوم حماس، بقوله: "يا سكان غزة: ارحلوا الآن؛ لأنّنا سنعمل بقوة في كل مكان". كما بقيت وسائل إعلام رئيسة كثيرة، أمريكية وبريطانية، تستخدم مفهوم "الإخلاء" بدلاً من المفاهيم المتعارف عليها في أدبيات القانون الدولي مثل "التهجير القسري" و«التطهير العرقي". تأطير نزع السيّاق تنزع التغطية الإعلامية الغربية للحرب الصهيونية على غزة السياق التاريخي عن الأحداث؛ فهي لا تسأل لماذا ذهب رجال المقاومة الفلسطينيون وراء الحدود يوم 7 أكتوبر؟ ولا تذكر أن ما جرى هو في سياق مواجهة واقع الاحتلال السائد أي الحق في مقاومة المحتل، وقد تجاهلت التغطية الإعلامية معاناة سكان غزة منذ 16 عامًا بسبب الحصار الصهاينة، ولا تذكر جولات المواجهة المتكررة منذ ذلك الوقت، وأرقام الضحايا من الجانب الفلسطيني على مدى السنوات الماضية التي تفوق بعشرات المرات ضحايا الطرف الكيان، كما تجاهلت آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية. يفسّر هذا التناول الغضب الشديد الذي أبداه سياسيون صهاينة وغربيون، وتبعتهم وسائل إعلام غربية عندما قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إن هجوم حماس على الكيان الصهيوني في 7 أكتوبر "لم يأت من فراغ، وإن الفلسطينيين عانوا على مدى 56 عامًا من الاحتلال الخانق..". والمفارقة أن دعوة السفير الكيان في الأممالمتحدة إلى استقالة الأمين العام لاقت اهتماما وتغطية في بعض وسائل الإعلام الأمريكية أكثر من مضامين تصريحه. يحاول تأطير نزع السياق بناء واقع جديد يصوّر الأزمات والحروب في السياق الفلسطيني – الصهيوني، بأنّها مجرد حوادث طارئة نتيجة تعديات الفلسطينيين، وتتجاوز تاريخ الصراع وقضية الاحتلال وحقوق الإنسان والحقوق المدنية، والحقوق الاقتصادية والسياسية، والكرامة الإنسانية ويقدم سياقا أكثر ملائمة للهيمنة والعنصرية الغربية التقليدية في سياقها الاستعماري. تعكس تقارير وسائل الإعلام الغربية هذه الحسابات الثقافية: فالمطالبة الأحادية الجانب بالإدانة وإضفاء الطابع الفردي والإنساني على المأساة الصهيونية، توضع جنبا إلى جنب مع تمثيل المأساة الفلسطينية بلغة سلبية تعكس بالفعل جذورًا ثقافية في أداء وسائل الإعلام لا يمكن تجاهلها. تشير الدراسات حول دور وسائل الإعلام في الصراع العربي - الصهيوني إلى أن هذه الوسائل نادرا ما تغطيه على نحو محايد؛ إذ أشارت بحوث التأطير منذ فترة مبكرة أن الأطر الأساسية التي استخدمتها وسائل الإعلام الأمريكية دارت حول إطار المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة في منطقة بالغة الخطورة، وإطار الجيران المتناحرين، وإطار التعنت العربي أو المتعصبين العرب العازمين على تدمير الكيان الصهيوني، وإطار التحرير المزدوج أو التسوية العادلة للطرفين. ووجدت دراسة وليام غامسون أنّ إطار المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة وإطار الجيران المتناحرين، هما أكثر الأطر شيوعًا في تغطية وسائل الإعلام الأمريكية. وفي عام 2001، ذهبت دراسة أخرى حاولت الكشف عن تأثير أحداث المدن الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر في الأطر التي تستخدمها صحيفة "نيويورك تايمز" في افتتاحياتها حول الصراع الصهيوني - الفلسطيني، إلى أن إطار المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة بقي هو المهيمن على اتجاهات الصحيفة، مع ظهور تأطير البحث عن الحل والتسوية في ضوء الاستراتيجية الأمريكية في الحرب على "الإرهاب". وفي عام 2007، أثبتت دراسة جون ميرشايمر وستيفن والت أنّ "التغطية الإعلامية الأمريكية تميل إلى الانحياز بشدة لصالح الكيان الصهيوني، وبخاصة عند مقارنتها بالتغطية الإخبارية في الديمقراطيات الأخرى". الحرب في عصر ما بعد الحقيقة أثبتت الأدلة بعد أيام من اندلاع الحرب، أن الكيان الصهيوني نفّذ منذ الساعات الأولى لهجوم المقاومة حملة تضليل دعائية وقعت العديد من وسائل الغربية في فخها. وتعد هذه الحملة مثيرة للدهشة بالنظر إلى المبالغات الكبيرة في وصف ما جرى في الهجوم الفلسطيني، والاستثمار الكبير في البيئة الإخبارية الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي، واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق في أكثر من واقعة. وقد تراجعت بعض وسائل الإعلام الغربية عن الاعتماد على الرواية الصهيونية؛ فمع اكتشاف الحقائق، مالت نحو الحد من التحيز إلى صالح الرواية الصهيونية، لكن معظم وسائل الإعلام الغربية الرئيسة لم تطرح السؤال الأساسي: ما سبب هجوم 7 أكتوبر؟ وهو الأمر الذي ذهب إليه الصحافي البريطاني هاري غير Harry Gear مخرج الفيلم الوثائقي "غزة لا تزال على قيد الحياة"، عندما قال إن "وسائل الإعلام الغربية ركّزت على معلومات غير مؤكدة عن المدنيين الصهاينة، بينما أهملت معاناة المدنيين الفلسطينيين، وبخاصة الأطفال الذين استشهدوا على مرّ السنين. إنّ تحيّز وسائل الإعلام الغربية الرئيسة إلى الكيان الصهيوني لا يعكس بدقة الانقسامات الفعلية في الرأي العام الغربي، هناك مجموعات ديموغرافية مهمة تضم الشباب والمهاجرين والحركات الاجتماعية التقدمية تتعاطف على نحو متزايد مع القضية الفلسطينية: ما يجعل البيئة الإعلامية الرقمية هشة ومعقدة ومفتوحة وتنطوي على فرص للجميع نسبيا. تجاوز الكيان الصهيوني قواعد السلوك مع الصحافيين في أوقات الحرب ومناطق الصراع، وذهب رفقة مؤيّديه إلى مرحلة جديدة من التضليل الإعلامي في مهاجمة وسائل الإعلام التي تفتح المجال أمام أصوات قريبة إلى رواية مختلفة، واستهداف الصحافيين والاعتداء على حقهم في الحياة، فحتى 28 أكتوبر بلغ عدد الصحافيين الذين قتلوا بالنيران الصهاينة في غزة 32 صحافيا، بحسب وزارة الإعلام الفلسطينية، كما استهدف أسر الصحافيين بالقتل الجماعي، مثلما حدث مع وائل الدحدوح.