ليس على مَن يكتبُ عن غير علم جُناح فيما قد يذهب إليه مِن آراء أو أفكار أو معلومات لا تمتّ إلى العلم والحقيقة بصلة؛ إنّما هي شَطَحات وأوهام تمليها العواطف والميول والأهواء. لكنّ اللوم، كلّ اللوم، يقع على عاتق أولئك الذين يرتبطون بالعلم والمعرفة بصِلات وأسباب.إنّ الترويج للنظريّات الزائفة والمعلومات المنقوصة والنتائج الموهومة، خدمة للعقيدة وتقرّباً من العامة، فيما يروّجون ويدّعون، إنْ هو إلاّ تلبيس وتدليس، قد يرقى إلى مصافّ الشرور والآثام؛ إذ إنّ الغاية لا تُبرِّر الوسيلة، بحال من الأحوال. ما دفعني إلى هذا التوضيح والتّنبيه جملةٌ من الكِتابات والمقالات المتناثرة هنا وهناك، عن عظمة اللغة العربية ورفعة شأنها وسموّ محتِدها، بل وقدسيّتها لكونها لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، وغير ذلك من الأقوال المرسَلة التي لا تخدم اللغة ولا الدين، خلافاً لما يزعم الزاعمون ويقول المبطلون. نعم، حُقَّ لنا أن نفخر بلغتنا ونعتزّ بها، كيف لا! وهي مستودع تاريخنا وحضارتنا وأمجادنا وأمانينا، بل هي العروة الوثقى التي نعتصم بها، ونعوّل عليها للوحدة والنهضة والتّقدّم. لكنّ ذلك لا يكون إلاّ بخدمة هذه اللغة والعمل على الارتقاء بها علماً وتعليماً وتطويراً واستخداماً في شؤون الحياة جميعها؛ بما يؤكّد جدارتها وحيويتها وأهليّتها للتعبير الدقيق عن مستجدّات العلوم والتِقانة والفن والثقافة والحياة الحديثة بكلّ عناصرها ومكوّناتها.يرتبط جوهر الإنسان ووجوده باللغة الإنسانيّة؛ آية ذلك الفعل اللغويّ المتمثّل بالكلام، بوصفه أصواتاً منطوقة يمارس الإنسان من خلالها كينونته الإنسانية ، ثمّ ألفاظاً دالّةً وعبارات بيِّنة يفصح بها عن هُويّته النفسيّة والفكريّة والاجتماعيّة، ويتواصل من خلالها مع أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه، ثمّ، من خلال تعلّم لغاتٍ أخرى، مع أفراد مجتمعات إنسانيّة أخرى.لقد استوقفت اللغة الإنسان منذ فجر التاريخ، فتساءل عن ماهيّتها ونشأتها وقوانينها وأسباب اختلافها وعوامل نموّها وانحدارها، بل واضمحلالها واندثارها في حالات ليست بالقليلة. لم تكنْ هذه التساؤلات مجرّد تعبير طبيعيّ عن الفضول وحبِّ الاستطلاع والتوق إلى المعرفة المتأصّل في النفس البشريّة، بل كان الأمر- ربّما قبل ذلك وبعده - سعياً محموماً من الإنسان لتفهّم سرّ وجوده ذاته، ورغبةً طاغيةً في الوقوف على ماهيّة كينونته ذاتها؛ ذلك أنّ هذا الوجود، وهاتيك الكينونة يصرّحان عن نفسيهما عبر الكلام وآلته:اللسان ؛ أي من خلال اللغة. وقد يكون هذا ما عبّر عنه بإيجاز وتركيز بالغَين أحد مشاهير فلاسفة الألمان، مارتِن هيدغر، حين قال: «أنا ما أقول". بل ربّما يكون ذلك ما عناه حكيم شعراء المعلّقات، زهير بن أبي سُلمى) حين صدح ببيته الشعريّ الخالد: لسانُ الفتى نصفٌ، ونصفٌ فؤادُهُ فلمْ يبقَ إلاّ صورةُ اللحمِ والدّمِ لسنا هنا - بطبيعة الحال - بصدد اقتفاء مسيرة اللغة وعلومها عبر التاريخ، لكنّنا أردنا فقط الإشارة إلى ما يمكن وصفه بمعاناة الإنسان المعرفية والعلمية مع اللغة- نافذته الأهمّ- للإطلالة على نفسه والمجتمع والعالَم من حوله.