الحلقة السادسة والأخيرة للجزائريين وعي خاص ودراية ميدانية بالخلفيات والآثار وأبعاد الإرهاب لأنهم هم في حد ذاتهم كانوا ضحية له لمدة تجاوزت ال10 سنوات (1990 2000 -)، وراح ضحيته أكثر من 200 ألف قتيل وتكلفة مالية باهظة تجاوزت 40 مليار دولار، ناهيك عن الآثار الاجتماعية التي مازال المجتمع الجزائري يعاني منها إلى يومنا هذا. ويعي الجزائريون أن مقاومة الإرهاب لها وجهين، وجه أمني ووجه سياسي. وبهذه المقاربة استطاعت الجزائر أن تخرج من هذا المأزق الخطير الذي استهدف كيان الدولة الجزائرية، وبناء الجمهورية. فالجزائر عانت من الإرهاب بهذه الخطورة والدمار وحاربته لوحدها. بل أكثر من ذلك أنه تمت محاصرتها ومحاولات حتى التدخل في شؤونها الداخلية. ولم تخرج الجزائر من هذه التحرشات إلا بعد ما عاش الغرب نفسه الإرهاب الذي لم يتحكموا فيه بالقدر الكافي في محاصرته فقط داخل المحيط الإسلامي لأسباب لا يسع المجال لذكرها هنا. وتعرف الجزائر كذلك أنه عندما يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية أن الحل الأمني هو الأولوية والاختيار ومن هذا المنطلق كان الحل الأمني في عملية تيقنتورين. ضمن هذا المنظور والاهتمام الجزائري يدخل تصور الجزائر تجاه الساحل الإفريقي القائم على: 1 وحدة دول الساحل والدول الإفريقية. 2 حماية الحدود الموروثة عن الاستعمار. 3 تشجيع وتقوية الحكومات المركزية لدول الساحل للتحكم في أقاليمها. 4 تنمية دول الساحل الإفريقي وإقامة مشاريع مشتركة مثل مشروع أنبوب الغاز من النيجر إلى الجزائر. تعمل الجزائر منذ نشأة الاتحاد الإفريقي (2001) على تأسيس علاقات اقتصادية وتجارية بنّاءة مع دول إفريقية خاصة مع دول الساحل بامتداداته الثلاثة. ومن هذا المنطلق تمّ الاتفاق بين الجزائر ونيجيريا (اتفاق بين الشركة الوطنية للبترول النيجيري ,:Nigerian NNPC National Petroleum Company والشركة الوطنية الجزائرية للمحروقات SONATRACHÅ: في 14 جانفي 2002) لتجسيد مشروع أنبوب الغاز إلى أوربا (TransAfrican Gas Pipeline Nigeria -Algeria-Europe) بمبلغ 13 مليار دولار. يدخل المشروع في إطار تجسيد الشراكة للتنمية الاقتصادية الجديدة نيباد للاتحاد الإفريقي .(New African Partnership Development : NEPAD) مقاربة الجزائر، منذ بداية النزاع في مالي (1963) كانت دائما تنطلق من دور الوسيط في إطار مبدأ وحدة مالي واستقلالها ووحدة الشعب المالي وإبعاد التدخلات الدولية. وفقت الجزائر في ذلك، ولكن عند التجسيد ظهر الخلاف. ذلك راجع أساسا لتأثير أطراف خارجية توظف اللاستقرار والتمرد لإدارة مصالحها في المنطقة. فرنسا إحدى الدول التي تتحمّل مسؤولية فشل المفاوضات والمصالحة. خلال كل تمرد ضد الحكومة المركزية. حاولت الجزائر دعم الحكومة المركزية لإيجاد حل سياسي ضمن مبدأ المحافظة على وحدة مالي. تضمنت نتائج الوساطة التي تمت بمالي أو بالجزائر خلال الفترات 1968 : 1990، 1994 وخاصة اتفاق 2006 التأكيد على إعطاء صلاحيات لتسيير الجماعات المحلية بشمال مالي، تحديد نظام صحي ملائم للسكان، إقامة مجلس جهوي للتنمية إنشاء صندوق للاستثمار، قروض لمشاريع تنموية، تطوير شبكات الطرقات خاصة بين كيدال وبماكو من أجل فك العزلة التي يعاني منها سكان شمال مالي. كما عملت الجزائر على إيجاد توافق إقليمي أمني في ظل تصاعد الإرهاب في المنطقة من خلال الوصول إلى اتفاق بين دول المنطقة (دول الميدان: الجزائر، موريتانيا، مالي والنيجر) في أفريل 2010 بتمنراست (Tamanrasset - based Joint Operations Commite : CEMOC) بهدف التنسيق الأمني والاستعلاماتي. تم في هذا الاتفاق تأسيس قوات أمن مشتركة تعدادها 75 ألف جندي لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. وتم كذلك التركيز على التنمية في شمال مالي والاتفاق على أن يشمل ذلك الحزام أن الامتداد الثالث لدول الساحل الإفريقي وهي بوركينافاسو، نيجيريا ، تشاد، السنغال. وأيام معدودة (21 ديسمبر 2012 ) قبل التدخل العسكري في مالي (11 جانفي 2013) وفقت الجزائر بالوصول بوساطتها إلى مصالحة بين الحكومة المركزية والمتمردين (22 ديسمبر 2012)، والتي تضمنت توحيد حركة أنصار الدين والحركة الوطنية حول مبدأ التعاون مع السلطات المركزية المالية لإيجاد حل سياسي في إطار وحدة مالي ومحاربة الإرهاب. ولكن مرة أخرى أجهضت العملية بسبب تسرع فرنسا للتدخل العسكري. فرنسا كانت تعرف أنه إذا تجسد هذا الاتفاق والحل السياسي سيبعد مبرر التدخل العسكري المبرمج مسبقا. تمثلت خطة الجزائر للتسوية في: انسحاب الميليشيات المسلحة بمدن الشمال، إنشاء صندوق تنموي لمنطقة الأزاود، مخطط إعادة إعمار، التنسيق مع الماليين بالشمال بمختلف توجهاتهم وأصولهم العرقية للتوافق حول وحدة مالي ومحاربة الإرهاب المتمثل في حركة الجهاد الإسلامي والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. أثبتت الجزائر صحتها مرة أخرى في معارضة التدخل العسكري حيث أدى ذلك إلى: 1 مضاعفة التوتر في مالي لدرجة التصفية العرقية. 2 ضاعف التدخل العسكري من هشاشة الحكومة المركزية. 3 أعطى التدخل العسكري مبرر لتوافق المتطرفين بشمال مالي في مواجهة الجيوش الأجنبية. 4 تضاعف النزوح واللجوء إلى الدول المجاورة (حوالي 500 ألف مشتت ونازح بما فيها 250 ألف في مالي، وبالباقي موزعين على موريتانيا، النيجر، بوركينافاسو والجزائر). رابعا. آفاق تسوية (ما العمل) أزمة الساحل الإفريقي من خلال الأزمة في مالي. إن التواجد العسكري الأجنبي مهما كان مصدره سوف لن يكون عامل تسوية للأزمة. وأنه في غياب التفاوض أو المصالحة أو الحل السياسي سيزداد الوضع تأزما. وأن غياب الحل السياسي واستمرار التدخل سوف يضاعف من العنصرية العرقية والتصفية العرقية، وبالتالي يبرز مرة أخرى اللعب على التوترات القبلية والإثنية لخلق الحاجة للتدخل من جديد. إن استمرار التوتر يؤدي إلى الانقسام وبالتالي تجسيد الأجندة المرتب إليها مسبقا على غرار ما حدث مع الأكراد في العراق وجنوب السودان وما يحدث في مناطق أخرى من العالم العربي. ولهذا لا بد من: 1 حوار سياسي شامل دون إقصاء مبني على مبدأ المصالحة الوطنية البنّاءة. ما يجري منذ أيام (08 جوان) بواقادوقو من حوار ومفاوضات بين أطراف من شمال مالي والحكومة المركزية المالية بوساطة بوركينافاسو يبدو أنه يقصي الجزء الأكبر من القوة الفاعلة المعتدلة لأنصار الدين. أي بديل للحور والحل السياسي الشامل يعني استمرار التوتر والأزمة. وهذا وضع لا يخدم أي طرف بمالي أو الدول الإقليمية وسابقة خطيرة تؤثر سلبا على أمن واستقرار دول المنطقة وتؤسس للمس بمصالح الجميع إقليميا ودوليا. الانتخابات بمالي (المبرمجة الشهر القادم 28 : جويلية) يجب أن تكون نتاجا للتوافق والحوار السياسي الشامل. وحتى بالمفهوم التقني الشكلي من الصعب إجراء انتخابات هادفة وجدية وبناءة في جميع أنحاء مالي في حضور اللاأمن واللااستقرار وضعف الإمكانيات وتزايد الانشقاقات وتدفق النازحين. سيطرة العناصر المسلحة على كيدال أهم معضلة تواجهها الحكومة المركزية في الحوار بواقادوقو وصعوبة وربما استحالة إجراء الانتخابات دون تسوية الوضع في الشمال وخاصة بكيدال. 2 انسحاب فرنسا لن يكون له التأثير في تحسين الوضع لأن التدخل أدى مهمته السلبية وهي تضاعف التوتر والانقسامات ولم يقضِ على الإرهابيين، خلافا لما أراد الفرنسيون تأكيده. إضافة إلى ذلك ستبقى فرنسا متواجدة بمالي من خلال قواعدها العسكرية والالتزامات الثنائية بين دول الساحل الإفريقي. وتبقى فرنسا كذلك من خلال مشروع إرسال 11200 جندي أممي ونفس العدد من جيوش إفريقية من دول غرب إفريقيا. سوف يكون لفرنسا النسبة الأكبر في التواجد العسكري في المنطقة ككل (سواء كانوا فرنسيين أو جيوش من دول غرب إفريقيا، والذين هم تحت إشراف فرنسي) لأنها هي في حد ذاتها هي التي قدمت مشروع التدخل العسكري لمنظمة الأممالمتحدة ومشروعها هو الذي تجسد ميدانيا. بمعنى أن الإرادة الفرنسية تجسدت في تغطيتها باسم الشرعية الدولية. العناصر المسلحة التي تسيطر على كيدال لها ولاء لفرنسا والغطاء الجوي هو تحت الرقابة والوجود الفرنسي. 3 ضرورة تجسيد الاتفاقيات التي تمّ التوصل إليها بين الحكومة المركزية والمعارضة والمتمردين وفي مقدمتها تطبيق برنامج تنموي هادف على أساس الاستثمار في شمال مالي. وطبعا تحقيق هذا الهدف يجب أن يتزامن مع التواجد الميداني والفعّال للإدارة والحكومة المركزية والتواصل المباشر مع مواطني الشمال الذين يعيشون عزلة إدارية. 4 نقاش إقليمي إفريقي ودولي على أعلى المستويات لتحديد المسؤوليات من منطلق المحافظة على وحدة مالي ومحاربة الإرهاب مع تحديد مشاربه ومصادره وأبعاده والأطراف الخفية (عربيا ودوليا) من وراء التطرف والإرهاب في المنطقة. اقتراح مؤتمر على أعلى مستوى لدول الساحل الإفريقي بحضور دولي للقوى المؤثرة في المنطقة كمراقبين أو خبراء أو ممثلين للدول المؤثرة في المنطقة. الهدف هو تحديد المسؤوليات والعمل للوصول إلى مقاربة إقليمية بتعاون دولي. اللقاء الذي يحدث هذه الأيام بالجزائر (15 17 جوان) للمجتمع المدني لدول الساحل يمكن أن يشكل أرضية شعبية وسياسية لتوافق دول الساحل لتسوية الأزمة من منطلق إقليمي بالتنسيق مع الدول الكبرى المؤثرة في المنطقة. بالنسبة للجزائر على المستوى الوطني لا بد من: 1 تعبئة الإمكانيات والقدرات المحلية جماهيريا، إعلاميا، سياسيا وأمنيا أمام محيط إقليمي يشهد انزلاقات أمنية خطيرة وتغيرات متسارعة في السنوات الأخيرة (منذ 2010). إعلاميا: مهما كان التباين في الطرح الإعلامي السياسي فيما يتعلق بالقضايا الوطنية فيجب ألا يمتد للتباين والخلاف في القضايا الأمنية لأنها تمس الجميع وتهم الجميع. أمن وسيادة الجزائر أولى من أي اختلاف أو تصور آخر. وحدة الوطن والأمن الوطني والقومي خط احمر ومسؤولية جميع شرائح وفعاليات المجتمع الجزائري. حقيقة تمارسها كل دول العالم ولا تختلف حولها شعوبها وفعالياتها ونخبها المختلفة والمتباينة داخل المجتمع. سياسيا: الدولة الوطنية هي التي تتبنى برنامج وطني شامل في مختلف القطاعات وتعتمد التوازن الجهوي وتلبية الحاجات بعدالة دون تمييز. يشكل ذلك العمق والبعد الحقيقي للأمن القومي. قوات الأمن تستطيع أن تواجه الاحتجاجات والانحرافات والخروقات والمخاطر التي تمس بأمن الدولة على المستوى الوطني، على حدود الجزائر ولكنه من غير المنطق والموضوعية أن تبقى في حالة طوارئ دائمة أو أن تكون في كل مكان باستمرار وفي كل وقت. الثابت والدائم هو تجسيد برامج الدولة الوطنية لتنمية مستدامة على مستوى كل المناطق والجهات في الوطن وتتطلب في البداية تطبيق برامج البنى التحتية والمنشآت القاعدية لأنها الآليات الحقيقية لأي مشروع تنموي جاد. بذلك تفتح آفاق كبرى للتشغيل والتوزيع السكاني المكتظ حاليا في الشمال وتؤسس لتواجد دولة في مختلف مناطق الجزائر، وبهذا يمكن كذلك إبعاد احتمال النقاش داخل مراكز الدراسات والأبحاث الاستراتيجية التي يمكن في المستقبل الذهاب حتى إلى البحث عن كيفية استغلال الأراضي الشاسعة الكبرى في دول صغيرة الحجم سكانا وبمساحات كبرى شاغرة وغير مستغلة وتتطلب التعمير. وهنا يمكن مستقبلا أن تصبح وسيلة للتدخل انطلاقا من التصور أو المنظور لتقاسم واستغلال الأرض على غرار استغلال الثروات. أمنيا: وفقت قوات الأمن الوطني المتمثلة في الجيش الوطني الشعبي في وضع حد لمحاولات المس باستقرار وسيادة الجزائر داخليا وخارجيا بداية من حرب الاعتداء المغربي على الحدود الجزائرية (1963) إلى عملية التهديد الإرهابي مؤخرا لمحاولة ضرب شرايين الاقتصاد الوطني في عملية تيغنتورين (جانفي 2013). كما وفق الجيش الشعبي الوطني في وضع حد للمؤامرة الكبرى الذي استهدفت كيان الدولة الجزائرية وبناء الجمهورية (1990 2000) ولكن في المرحلة الراهنة تواجه الجزائر تحد أكبر وتحرشات أكثر على حدودها. لابد من توفير الحد الأقصى من الدعم المادي لتحديث أكثر لوجيستيكي واستعلاماتي ودفاعي للجيش الوطني الشعبي وتوفير شروط حياة أكثر على الحدود الجزائرية الشاسعة والتي تتجاوز 6300 كلم. كما يجب أن تعطى أولوية قصوى للاستعلامات خاصة على المستوى الإقليمي. احتواء مصادر الاستفزازات يجب أن تكون أولوية في السياسة الأمنية. تجربة تيغنتورين أثبتت أن القراءة الصحيحة والحقيقية لمصادر دعم الإرهاب كانت العامل الحاسم في اتخاذ قرار العمل العسكري رغم التحديات والضغوطات الدولية. دبلوماسيا: لابد من مضاعفة النشاط الدبلوماسي بالانتقال من الدبلوماسية الروتينية إلى الدبلوماسية القائمة على المبادرة في إطار المنفعة المتبادلة gagnant-gagnant على مستوى العلاقات الثنائية والإقليمية والدولية. لا يكفي نشاط الدبلوماسي المبني على المبادئ والقوانين الموضوعة الوطنية والدولية أو ما يجب أن يكون لأن الأهم التأثير والفعالية خارجيا وهذا ما يتطلب إعطاء الأولوية لمقاربة منفعة المتبادلة. دوليا: يجب أن لا نبقى سجيني النظر للغرب وحده لتسوية القضايا الإقليمية والدولية. هناك دول أخرى تشكل ثقلا ملموسا واختيارا أمثل في العلاقات السياسية الدولية وفي مقدمتها روسيا والصين. كما أن التنسيق بين هذه الدول وعالم الجنوب يشكل ثقلا جديدا في العلاقات الدولية، خاصة من خلال دول بريكس (BRICS: Brazil, Russia, India, China, South Africa) التي تضم البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا. اختيار يمكن أن يتطور إلى دعم فعّال للقضايا الإقليمية لدول تعيش ضمن التأثير والاستفزازات والتدخلات العسكرية المباشرة للدول الغربية. @ للدراسة مراجع إنتهى