شدد الدكتور لويس مارتينز الخبير بمركز الدراسات الدولية بباريس على صلة الربط والترابط بين النفط والتنمية والديمقراطية، مذكرا بأهمية توظيف هذا الثالوث في البناء السياسي المستقر المعتمد على قاعدة التوازن وتجاوز الانهيارات والأزمة. وقال الدكتور مارتينز أمس في محاضرة متبوعة بنقاش في مركز الشعب للدراسات الاستراتيجية،أن هناك علاقة جدلية بين النفط والتنمية والديمقراطية إلى ابعد الحدود. وهي علاقة تكشف عنها الممارسات السياسية المتباينة عبر مختلف المراحل والحقب التي اعتلى فيها النفط الساحة. وصار محور تحركات السياسة وتوجهات الاستراتيجية وخيارات القرار الوطني، وصار الريع النفطي متعدد الاستعمال والتوظيف في مشروع المجتمع الثابت المستقيم المؤمن لتوزيع الثروة والإنتاج ، والمشروع الآخر الباحث عن النفوذ والسيطرة وفرض الوجود دون القبول بتقاسم أي شيء وتعميم التعددية والانفتاح وفق قاعدة الرأي والرأي المعاكس. ومن خلال هذه الممارسة كسبت الأنظمة السياسية شكل الحكم وطبيعة النظام المنتهج والنموذج الاقتصادي المعتمد، بل باتت مؤشرا ومعيارا للحكم الاوتوليتاري المعتمد على تسلط القرار وضبط السياسة الإنمائية بصفة انفرادية لا تشرك المواطنين ، والحكم الديمقراطي الذي يتعزز بالانتخابات وتنافس البرامج والخيارات، من هذه الزاوية ركز الدكتور مارتينز تحليله في فك العلاقة بين الثالوث المقدس النفط والتنمية والديمقراطية وكيف يصعب بمكان وضع حدود فاصلة بين مكوناته. وكيف تسقط توازن المعادلة كلما طغى عنصر على آخر، ووظف في موقع غير موقعه، وهدف دون هدفه. وعاد الخبير مستندا في تحليله لدراسة أعدها المركز الباريسي الذي ينتمي إليه حول الريع البترولي الموظف من قبل الأنظمة السياسية البترولية خلال عام 1970 - 2006 م، مذكرا بالهزات التي أحدثها هذا المصدر الطاقوي محرك الصراع منذ الحرب العالمية الثانية مغذي نظرية الجيوبوليتيك التي تقول من يسيطر عليه يتحكم في العالم . وتحدث الخبير بأسلوب مقارن لحالات متعددة ونماذج متباينة شكلت اهتمام الباحثين عبر مختلف المراكز عن الظروف التي أدت إلى تغيير استعمال الثروة وكيف توصلت إلى نتائج مغايرة حسب المصلحة والنفوذ وحسابات المرحلة . وذكر الخبير بعد أن شرح كيفية انتقال الصراع المشتد حول الاحتياطات النفطية منذ بداية القرن ، إلى الريع والبحث عن تأمين الذات من الانهيارات الطارئة والأزمات الحادة، النقاش المستفيض والجدل المصيري في التسعينات حول البترول مصدر ترقية وتطوير مجتمع ونموه، وكذا عامل تغيير سياسي يحسب له الحساب. وغاص لويس مارتينز في مقدمات الأشياء وتعاقبها وتطوراتها متوقفا عند حالة استعمال الريع النفطي سلاح إيديولوجي جريا وراء الاحتماء من مخاوف وتحصين الذات، من تهديدات طارئة. وظهر هذا مع الإنفاق العالي للتسلح اعتمده الاتحاد السوفياتي في حقب ماضية. ومع السعودية التي كانت تخشى التهديدات السوفياتية أيام الحرب الباردة، والثورة الإيرانية، والعراق. ووصلت مصاريف المملكة حسب المحاضر إلى 140 مليار دولار طيلة حقبة السبعينيات إلى التسعينيات متجاوزة نفقات تسلح العراق في حكم صدام حسين المقدرة آنذاك ب110 مليار دولار. وهناك حالة ثانية يستعمل فيها الريع النفطي في مجال تقوية نفوذ الدولة وهيبتها وهيمنتها على كل شيء غالقة المنافذ الديمقراطية والممارسة السياسية التي تقر بالرأي ونقيضه. وتفتح هذه الممارسة تفشي كل أشكال التسلط واحتكار الحكم. ويصبح المواطن المقصي من المشاريع الإنمائية المبعد من الخيارات في ظل هذا النموذج أسير الاوتوليتارية والفساد والرشوة . وحذر الخبير من أن هذا النموذج السياسي الذي لا يوظف الريع النفطي في موضعه ولا يستخدم المداخل في بناء مشروع مجتمع عادل شفاف ديمقراطي تتقاسم فيه الثروة ويشعر فيه المواطنون سواسية كأسنان، يحمل في أحشائه خطر الانهيار ويولد كل أشكال العنف والجريمة، بل يفسح المجال لروح التناحر بين السكان الذين يقطنون المناطق النفطية والسلطة الحاكمة التي أقصتهم من الريع . وتركتهم وشأنهم يغرقون في الفقر والبطالة والتهميش . ومن كثرة تنامي الحرمان يجد هؤلاء في حركة الاحتجاج الحق المشروع للمطالبة بالريع تصل إلى حد توظيف السلاح. وحدث هذا في أكثر من بقعة جغرافية من نيجيريا وفينزويلا. وهي الدولة التي لا توظف الريع النفطي بشكل أوسع في مشاريع استراتيجية حيوية عكس المكسيك الذي قلص من هذه الثروة إلى النصف محققا الرواج في الاعتماد على مدا خيل أخرى في تمويل المشاريع جريا وراء تأمين نفسه من الاتكالية المفرطة على البترول الثروة غير الدائمة . وحسب الدكتور مارتينز، فإن دول كثيرة اعتمدت على الريع النفطي ووظفته في بناء مجتمع ديمقراطي . وقامت بتغييرات سلمية هادئة بعيدة عن الانقلابات والضغينة . والأمثلة تعرفها الدول الاسكندنافية النرويج تحديدا، لكن لهذه الدول خصوصية وتمايز وظروف لا يمكن تعميمها على الجميع. وخاصة دول العالم الثالث التي لم تخرج من الاهتمام المركز من أكثر من عاصمة غربية . وتضغط عليها قدر المستطاع لتوجيه سياستها حسب ما تقتضيه المصلحة النفطية وغير النفطية. وعلى ضوئها ترتسم العلاقة. وتسقط الكليشيهات والحسابات وتصبح الدول الديكتاتورية محل الاحترام والسند إذا رعت المصلحة. وتحارب بكل القوة إذا عاكست الاتجاه حتى ولو تمتع نظامها بصفقة الديمقراطية. وهنا يظهر كيف هو كبير التأثير الخارجي. وكيف يشكل بارومتر التغيير حتى ولو يكن العامل الوحيد في فهم معادلة الريع النفطي التي تشد إليها التحاليل وتفتح النقاش الذي يصل إلى حد السخونة بلا توقف. ------------------------------------------------------------------------