وها هي مقاربتنا منذ بداية ما يسمى "الربيع العربي" عندما اعتبرناه ربيعا غربيا وليس عربيا. أصبح عند الذين لهم مقاربات وتحاليل موضوعية أن ما حدث ويحدث في العالم العربي في السنوات الأخيرة بما يسمى الربيع العربي هو لعبة دولية بامتياز بأبعاد استراتيجية ضمن ووفق تصدير أزمة مالية واقتصادية عاشها الغرب في السنوات الأخيرة. ما يحدث هذه الأيام في ليبيا من صراع وتمزق ليس بسبب ضعف الحس الوطني لدى الشعب الليبي أو بسبب ضعف أداء الدولة الليبية في عهد القذافي، حتى ولو كان هناك وعي لا متناهي لدى الشعب الليبي وقوة أداء عصري للدولة الليبية في عهد القذافي فإن الوضع في ليبيا كان سيؤول لما آلت إليه حاليا. غير ذلك سوف نصدق بأن ماحدث في العالم العربي هو نتاج لضعف الدولة أو ضعف الوعي وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن ما يحدث في ليبيا هذه الأيام هو نتاج لخطة مدروسة بدقة خارج الإرادة الليبية وخارج مصلحة ليبيا وبعيدة عن مشروع ما يسمى بالديمقراطية وحرية التعبير والحكامة والحكم الرشيد والذين هم غير موجودين وربما لن يكونوا في ليبيا خاصة من منطلق ومصدر لما يسمى "بالربيع العربي". فما يحدث في ليبيا هو خطوة أو مرحلة ثانية لضرب بصفة نهائية البنية التحتية الليبية بكل منظومتها الاقتصادية، السياسية ، والثقافية والأمنية حتى يتوفر المبرر والمجال هذه المرة ليس للتدخل العسكري لإنهاء نظام سياسي بل للبقاء هناك والعودة من جديد للقواعد والمراكز والمواقع العسكرية الغربية التي كانت موجودة بليبيا قبل 1969. منظور الغرب إلى ليبيا ليس كمنظورنا نحن، فبالنسبة للغرب بليبيا مساحة كبرى، رابع أكبر مساحة في إفريقيا(بعد الجزائر، الكونغو والسودان) ورابع أكبر مساحة في العالم العربي(بعد الجزائر، السودان، العربية السعودية) وبعدد سكان لا يتجاوز 6 ملايين(من بين أصغر الدول الإفريقية والعربية سكانا، المرتبة 34 من بين 54 دولة إفريقية والمرتبة 12 من بين 22 دولة عربية) وبإمكانيات وموارد اقتصادية وموقع استراتيجي جد هام لتصدير أزمة الغرب والانطلاق منها للتدخل والتواجد لاحقا في المنطقة . خلفيات وأبعاد استراتيجيا لا يمكن فهم الوضع في ليبيا المتدهور إلا من خلال خلفيات وبأبعاد بما يسمى بالربيع العربي والتدخل العسكري في الساحل . فالتوجه السياسي والرسائل الإعلامية لتفسير الأسباب والأهداف لما حدث ويحدث في العالم العربي والساحل الإفريقي منذ 2011 من منطلق ومحتوى ديمقراطي تعددي أو بمبرر حقوق الإنسان وحرية التعبير فقط لا تعكس الخلفيات والأبعاد الحقيقية المبرمجة للعالم العربي وحتى المحيط الجيوسياسي الإسلامي (حتى بأوربا الوضع في كوسوفو كان بخلفية وأبعاد المتغير الإسلامي في المنطقة) كل التوترات في هذه المنطقة من كشمير بآسيا إلى نيجيريا بإفريقيا مرورا بأفغانستان، باكستان، إيران، سوريا، العراق، فلسطين، مصر، ليبيا، النيجر، مالي، موريتانيا... أجندة غربية وتطبق بإرادات محلية. فإذا كان الهدف السياسي هو تأسيس ديمقراطية تعددية حزبية وترقية حقوق الإنسان وحرية التعبير بالدول التي تمت بها هذه الأحداث، فلماذا تطبق بجميع الوسائل بما فيها الاحتلال (في حالة العراق) أو التدخل (حالة ليبيا 2011 ومالي 2012) على البعض ويعفى منها آخرون، رغم أن المعفيين منها هم أكثر الأنظمة معنية بالديمقراطية والتعددية السياسية والنظام الجمهوري، وهل بالعالم العربي والعالم الإسلامي فقط توجد أنظمة شمولية أو بها حزب واحد؟ ألا توجد أنظمة شمولية خارج المحيط العربي الإسلامي ؟. الحقيقة المغيبة في المعادلة السياسية الحقيقة أن في حالة العالم العربي تتوفر به سيولة ورصيد مالي يتجاوز 4000 مليار دولار، نقد عيني (cash)، لشراء كل ما هو جاهز من المواد الغذائية إلى الصناعات التكنولوجية إلى التجهيزات العسكرية بنسبة تتراوح بين 90% إلى 98 % ، ومورد هذا الرصيد المالي يكاد يكون بصفة مطلقة هو الطاقة. وحتى الاستثمارات الموجودة بالعالم العربي هي استثمارات ليست بالمفهوم الاقتصادي لتطوير وإنتاج التكنولوجيا وصناعات محلية في إطار التنمية المستدامة. فمعظم الاستثمارات في العالم العربي هي في شكل مخازن لتركيب الآلات المستوردة الجاهزة. من الجانب الفلاحي والأمن الغذائي فإنه رغم شساعة العالم العربي بأكثر من 14 مليون كم2 وبأنهار كبرى وخزان مياه باطني كبير يكفي حتى للتصدير إلى العالم الآخر فإنه يستورد معظم احتياجاته الغذائية. وإذا كان الهدف هو تنصيب أنظمة موالية للغرب فإن الأنظمة التي تمت الإطاحة بها كانت أكثر ولاءً للغرب سياسيا واستراتيجيا بما فيها مسايرة الترتيبات الغربية في المنطقة بداية من القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. النظام المصري في عهد مبارك والتونسي في عهد زين العابدين واليمني في عهد علي عبد الله صالح كانوا محسوبين على المحيط الغربي وفي فلك الإستراتيجية الغربية. وإذا كان الهدف هو تحقيق مصالح اقتصادية فإن نظام القذافي في ليبيا كان أكثر مستهلك ومستورد للمنتجات والسلع الأوروبية (نسبة الاستهلاك الليبي من المنتجات الصناعية و التكنولوجية الغربية كانت تتجاوز 90%)، وتواجد الاستثمار الأوروبي والغربي بصفة عامة كان يسير باتجاه واحد أي مصلحة الغرب خارج اكتساب ليبيا للصناعات التكنولوجية، فمصالح الغرب في عهد القذافي كانت مجسدة وبامتياز. أجندة الديمقراطية وحقوق الأنسان إن ما حدث ويحدث في العالم العربي ليس نتاجاً لتجسيد الديمقراطية وترقية حقوق الإنسان، بل ما حدث له خلفية وأبعاد مسطرة لها مسبقاً، وقد وظف الغرب كل الآليات السياسية والإعلامية والعسكرية لتحقيق ذلك. آلية استمرار المصالح الغربية حسب المنظور الغربي، هي في استمرار التوتر في المنطقة العربية، انطلاقاً من الصراع والسير حسب تجزئة المجزء في العالم العربي، من أجل الوصول إلى نتائج عكسية وكأننا أمام اتفاقية لسايكس بيكو 2، هناك أجندة مسطر لها وتطبق على شكل نموذج هيكل عمراني (Maquette)، إستراتيجية غربية عبر عنها الوزير الأول البريطاني بانرمان سنة 1907: «إن من بين المحيط والخليج أمة لها من وحدة الثقافة واللغة والدين، ما يجعلها إذا توحدت خطر على أوروبا، ولهذا يجب تجزئتها، وزرع جسم غريب فيها، وجعلها في حروب دائمة". يجب تجزئتها تمثلت في اتفاقية سايسبيكو الأولى (1917) وفي نفس السنة كانت بداية زرع جسم غريب وهو الكيان الإسرائيلي انطلاقا من وعد بلفور ليتأسس الكيان الإسرائيلي سنة 1945، وجعلها في حروب دائمة هي الأوضاع التي يعيشها العالم العربي إلى يومنا هذا. إن التفسير لما يحدث بالعالم العربي هو بهذه الخلفية وبهذه الأبعاد، فباسم الديمقراطية التعددية وحقوق الإنسان تم احتلال العراق وتدمير بنيته الصناعية والاقتصادية التحتية والذهاب لتدمير حتى لمصادر الحضارة العراقية ليقسم على أساس عرقي أو ديني. إضافة إلى ذلك دفع العراق أكثر من 2 مليون ضحية ومليوني مشرد معظمهم لاجئين بالأردن وسوريا ومناطق أخرى، باسم الديمقراطية توظف أكثر من 140 ألف مرتزق أجنبي لضرب الشعب السوري وضرب الوحدة الوطنية السورية. وباسم الديمقراطية تواجه ليبيا الوضع الخطير المتمثل في انقسام وتناحر بين الإخوة رغم أن الأصل الشعب الليبي منسجم ثقافيا وقيميا وقبليا عبر مختلف مراحل تاريخ ليبيا وتاريخ المقاومة الشعبية الليبية، تاريخ المقاومة من اجل الوحدة الوطنية ورفض الاستعمار بكل أشكاله، تاريخ التحدي بقيادة عمر المختار. عندما تضيق الجزائر حركة المرور على الحدود الليبية-الجزائرية أو تغلق الحدود مع ليبيا هي بالدرجة الأولى من أجل الأمن المتبادل للطرفين، لتقييد التصعيد والانفلات الأمني بليبيا. وفي نفس الوقت هو إجراء جزائري لاحتواء أبعاد ما يخطط له خارج ليبيا للمس بأمن واستقرار المنطقة ككل لإيجاد مبرر للتدخل والتواجد المباشر على غرار ما يحدث في مالي ويتوقع أن يتم ذلك في ليبيا. وكأننا أمام مرحلة ثانية لما يسمى "بالربيع العربي" لتجسيد الإستراتيجية والمخطط المدروس بدقة وفي مقدمتها تثبيت التواجد بمناطق ثرية بالمواد الأولية خارج المحيط الغربي لتصدير الأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها الغرب. وفي نفس الوقت مواجهة التحديات البديلة للغرب في المنطقة خاصة الصين واليابان ودول آسيوية أخرى التي بدأت تبرز إيجابيات تثمن تعاونها الاقتصادي والتكنولوجي ومرحب بها كبديل واعد وجاد للبرامج العربية والإفريقية التنموية