أنا لا استغرب أبدا الصمت الغربي تجاه هذا الأمر, فالرغبة الغربية في تحويل ليبيا إلى أفغانستان أخرى باتت واضحة للعيان. وكل ما يجري يصب في بوتقة هذه الرغبة. لكن ما أستغربه هو صمت الجوار العربي والأفريقي, وهذا الجوار هو الأكثر عرضة لمخاطر الحالة الليبية, وإن استمرت هذه الحالة, سنجد العبوات الناسفة تنفجر في كل مكان, وحالات اللاأمن تجتاح أكثر من مكان في المحيط. ونحن نقف على عتبة العام الثاني لثورة 17فبراير في ليبيا, يعلو في الأوساط الاستخبارية والسياسية والإعلامية صوت ليبيا "الحرة", ليس كأنموذج لانتصار إرادة شعب على جلاديه, أو لديموقراطية وحرية وعدالة فريدة من نوعها في المنطقة, وإنما كأهم بلد حاضن للإرهاب, وممول له بالرجال والعتاد. ليبيا التي لم تعد تتشح باللون الأخضر, ولم تعد كلمتها تخرج من بين ناطقتي الزعيم الأوحد, انقلبت فيها الأوضاع السياسية والأمنية, وأصبحت أنموذجا حيا للفوضى المسلحة التي منعت وستمنع هذا الجزء الغالي من وطني من أية بارقة أمن واستقرار. فالعملية السياسية التي تمت فيها لم تستطع أن تولد حكومة قوية, قادرة, ولم تستطع أن تنزع بندقية واحدة من يد ليبي, ولا أن تمنع تدفق السلاح والمقاتلين إلى دول الجوار, ودول جوار الجوار, وجوار جوار الجوار. السلاح الليبي الذي كان مخزنا في مخازن قوات الشعب المسلح, وسلاح حلف الناتو وقطر والإمارات الذي قاتل به المتمردون السلطة, كل هذا السلاح وبشتى أنواعه (خفيق - متوسط - ثقيل, تقليدي - دمار شامل) بات مصيره مجهولا في ظل غياب الدولة, والإرادة الدولية لمنع تسرب هذه الأسلحة إلى يد "الإرهابيين" كما تسميهم واشنطن وحلفاؤها. في ليبيا "الحرة", ظهور علني للميلسشيات المسلحة ذات الرؤى والتوجهات القاعدية, وإضفاء شرعية لشخصيات كانت بالأمس القريب تتصدر قائمة المطلوبين لأمريكا, أو قائمة سجناء القاعدة في شتى أصقاع الأرض. وسفير أمريكي منحور بيد هؤلاء على مرأى ومسمع من العالم بأسره, وصمت مطبق عن إمارات إسلامية في خمس مناطق ليبية على رأسها درنة, ودويلة إسلامية قاعدية الهوى والهوية على الحدود الجنوبية الغربية للبلاد بتمويل وتسليح وإسناد ليبي. ألا يدفعنا هذا للتساؤل عن الوجه الذي يُراد لليبيا أن تظهر به في مستقبل الأيام, وعما ينتظر هذا البلد بمجرد انتهاء شهر العسر الأمريكي - الجهادي؟ من المهم لقراءة مستقبل ليبيا, أن نعود بالذاكرة قليلا إلى الماضي, إلى أواخر الثمانينات وبداية التسعينات, حين تكلل ما يسمى ب"الجهاد الأفغاني" بالنصر المؤزر على الروس, والجهاد الأمريكي بالنصر المؤزر في الحرب الباردة على المنظومة الاشتراكية الدولية بقيادة الاتحاد السوفييتي. فما إن طوت أفغانستان صفحة نجيب الله والاحتلال الروسي, حتى بدأ جهاد من نوع آخر, جهاد رفاق السلاح ضد بعضهم البعض, مما جعل العملية السياسية الأفغانية مجرد نكتة إعلامية سمجة, تثير القليل من الضحك والكثير.. الكثير من الأسى. لقد نجح المجاهدون المدعومون من واشنطن وباكستان ودول الخليج العربي في كسب المعركة ضد الروس, لكنهم وبإرادة أمريكية خسروا الحرب, وخسرت أفغانستان كيانها السياسي, وباتت مجرد رقعة جغرافية مدججة بالسلاح والدم, ومصدرا من أهم مصادر القلق للعالم, بتصديرها لفكر تكفيري مفرط في التطرف, ومقاتلين أشداء, وسلاح سرعان ما أغرق المنطقة بالدم. في خضم الفوضى الفكرية والإعلامية, وانقسام الرأي العام العربي والإسلامي بين مؤيد للثورات, ومعارض لها, تضيع كل التفاصيل المهة, وتختلط الملامح لتنتج لنا وعيا ممسوخا, ورؤى أقرب إلى الهذيان منها إلى أي شيء آخر. فعلى الأرض يحتدم الصراع, وتتأجج الأحقاد, وتتوالى أخبار الهزائم والانتصارات, ومشاهد القتل والتنكيل, والدمار الشامل للبنى القيمية للمجتمعات العربية. وبعيدا عن أرض المعركة, يحلق الملايين سالين لسيوفهم وأقلامهم وألسنتهم, ليعلنوا عن مشهد عربي فريد من نوعه, فكل مواطن عربي بات جزء من الصراع, مما أفقدنا القدرة على التفكير والتبصر, والاستقراء. وحرمنا من رؤية أدنى بصيص أمل في آخر النفق الذي يزداد حلكة كلما تقدمنا فيه أكثر. بالمقابل, حين نحاول قراءة ما يفكر فيه الغرب وعلى رأسه امريكا, وما تتداوله الصحافة الغربية من معلومات, وأخبار, وإشاعات, سنلاحظ أن هذا الغرب الذي لم يكن في يوم من الأيام معنا, ولن يكون بالضرورة, يعد لمنطقتنا سيناريوهات جديدة / قديمة, ويؤسس لفكر جديد, وتموضع جديد, وكأننا الآن أمام محاولة جادة لإعادة استنساخ التجربة الأفغانية في المنطقة, من خلال غض الطرف عما يحدث في ليبيا, وإطلاق يد الجهاديين فيها ليصدروا للمنطقة مشاهد لا تقل دموية عما شهدته آسيا الوسطى في العقدين الماضيين. لو جمعنا بعض الأخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء العربية والغربية عن ليبيا اليوم, سنجد أن أغلبها على علاقة بالخارج وليس بالداخل الليبي, رغم أن الوضع الداخلي يسير من سيء إلى أسوأ, والتناحر القبلي والعرقي بات مشهدا مألوفا فيها. فبنظرة عجولة لصحف كالأوبزيرفر والنيويورك تايمز والواشنطن بوست والغاردين في الأشهر القليلة الماضية, نجد أن اسم ليبيا يذكر فيها أكثر من ثلاثمائة ألف مرة, وحين نقوم بتصفية الأخبار, سنجد أن ما يقار ال98 بالمائة منها يتحدث عن دور ليبيا الحديثة في الأحداث الجارية في محيطها الإقليمي العربي والأفريقي. وإليكم عينة من هذه الأخبار: آلاف الطوارق الليبيين يدخلون شمال مالي للتصدي للقوات الأفريقية التي تستعد لشن هجوم على دولة القاعدة في شمال مالي, القوات النظامية السورية تقتل وتأسر العشرات من الليبيين على الحدود مع لبنان, جبهة النصرة في سورية تنعى أحد مجاهديها الليبيين, الأمن المصري يحبط محاولة تهريب كمية من الصواريخ والأسلحة الخفيفة إلى غزة, السلطات اللبنانية تحتجز شحنة من الأسلحة على متن باخرة لطف الله2, أنباء عن تسرب أسلحة كيمياوية من ليبيا إلى المقاتلين في سوريا... إلخ أمام هذا السيل من الأخبار, يتمثل أمامنا المشهد الأفغاني ما بعد الخروج السوفياتي, فليبيا الحديثة باتت المصدر الأول للإرهاب والإرهابيين, والممول الأول بالسلاح لحركات التمرد في مالي وسوريا, وللتنظيمات الإرهابية في الجزائر وتونس, وهناك حديث متكرر عن تسليح رهيب يجري في الساحة المصرية لعناصر تحمل الفكر السلفي الجهادي, ولا أحد يستطيع أن يتوقع إلى أين سيصل السلاح الليبي, وما الذي سيصنع به طالما بقي العالم يتفرج. أنا لا استغرب أبدا الصمت الغربي تجاه هذا الأمر, فالرغبة الغربية في تحويل ليبيا إلى أفغانستان أخرى باتت واضحة للعيان. وكل ما يجري يصب في بوتقة هذه الرغبة. لكن ما أستغربه هو صمت الجوار العربي والأفريقي, وهذا الجوار هو الأكثر عرضة لمخاطر الحالة الليبية, وإن استمرت هذه الحالة, سنجد العبوات الناسفة تنفجر في كل مكان, وحالات اللاأمن تجتاح أكثر من مكان في المحيط. إن أهم دول المحيط الواقعة في قلب دائرة الخطر: الجزائر التي يراها المراقبون محطة إجبارية لما يسمى بالربيع العربي, (أو هكذا يتمنى عرابوه) هي الأكثر عرضة للخطر, فحدودها الشرقية والجنوبية الشرقية لم تعد آمنة فحسب, وإنما قد تصبح مصدرا لجميع الأعمال العدائية التي قد يتخيلها العقل, وحدودها الجنوبية باتت معقلا لإمارة تكفيرية, احتضنت بين جنبيها الجماعة المسلحة الأكثر خطرا ودموية على البلاد. أما حكاية الحدود الغربية للبلاد فلا تحتاج لإعادة سرد, فعمر التوتر مع الجار المغربي يعود إلى عهد الاستقلال. وباختصار شديد: الحالة الجزائرية باتت جغرافيا أشبه بالحالة السورية, فوجودها في وسط معاد, يشبه إلى حد كبير رزوح سوريا بين أنياب الجار التركي واللبناني والأردني والصهيوني وحتى العراقي, الذي يؤيد نظامه النظام في سوريا, بينما يعاديه العراقيون سكان المناطق الحدودية. وبناء عليه يتوجب على السلطات الجزائرية أن تجعل الحالة الليبية والتي بدأت تنسحب على الحالة التونسية في مقدمة أولوياتها, وعلى رأس جدول الأعمال في اللقاءات مع الدول الكبرى, وفي جميع المحافل الدولية حتى لا تصبح الثور الأسود. وحسنا فعلت أنها لم تتورط في الحرب ضد إمارة شمال مالي, لأنها كانت محاولة لشيطنة النظام السياسي الجزائري, والجيش الوطني الشعبي ليكون هدفا مشروعا لجهاديي العالم, ويكون ضرب استقرار البلاد, فتحا لأبواب الجنة, وتقربا من الله. لكن هذا غير كاف أبدا, لأننا أمام جيش من المقاتلين المدربين تدريبا جيدا, والمسلحين بأحدث وأثقل أنواع الأسلحة. وعلى السلطة والشعب في الجزائر أن يدركوا خطورة المرحلة القادمة, خاصة إن نجحت الحملة الدولية على سوريا, وتم تدمير الجيش العربي السوري؛ حينها ستكون محطة ما يسمى بالربيع العربي حقا إجبارية في الجزائر لتدمير آخر جيش عربي قادر, بعد تدمير الجيش العراقي والسوري والليبي واليمني وتكبيل الجيش المصري بكامب ديفد وتشويهه في مرحلة ما بعد الثورة. ---- منقول عن مجلة اصوات الشمال...الرابط.. http://www.aswat-elchamal.com/ar/?p=98&a=30772