يستقطب مشروع قانون المالية 2015، الذي ناقشه مجلس الوزراء في اجتماعه أمس، الاهتمام والمتابعة من أكثر من طرف، يتقدمهم رؤساء المؤسسات والمتعاملين وكذا المواطنين. وبالإضافة إلى المعطيات التقنية التي يحملها المشروع من المفيد التوقف عند الخيارات الإستراتيجية وتحليل الفلسفة التي يقوم عليها، في ظل ظروف محلية ودولية اقتصادية ومالية تعرف تغيرات متسارعة وكثيرا ما تخلط الحسابات في منتصف الطريق، مما يستدعي التزام التسيير الحذر وترقية ثقافة التقشف وتحكم أفضل في النفقات العمومية وترشيدها، دون المساس بتوازن وتيرة الاستثمارات والبرامج التنموية الأساسية. علاوة على ما يطرحه من أحكام تعني المواطن مباشرة مثل اقتراح الزيادة في بعض الرسوم، منها ما هو مبرر في حالة التبغ، ومنها ما هو مبالغ فيه مثل دمغة جواز السفر ورسوم عقود الشهر العقاري، فان المشروع يحمل أحكاما جديدة لطالما أثارت جدلا واسعا، على غرار إلغاء المادة 87 مكرر، التي حالت لسنوات دون تحسين الأجور، فتحولت من استثناء لضرورة ظرفية إلى قاعدة عامة لم يعد لها مبرر. ويرتقب أن تعرف هذه المادة جدلا واسعا قبل الحسم فيها من حيث المضمون بالنظر للتبعات المالية التي تنجر عن إلغائها، وهو ما يثير مخاوف الحكومة، الأمر الذي يتطلب تعميق التشخيص وتدقيق الخيارات بما يضمن توازن المعادلة التنموية. وبالفعل، يرتقب أن تواجه هذه الأخيرة تحديات ذات طابع مالي بالدرجة الأولى، جراء تراجع المداخيل بفعل تقلبات أسواق المحروقات وعدم اقلاع مسار الصادرات خارج المحروقات الذي لا يزال يتطلع لترتيبات أكثر دفعا نحو الأسواق الخارجية، وهي المهمة التي ينتظر أن يتكفل بها متعاملون احترافيون بمبادرات تتجاوز الحضور الرمزي، مما يتطلب بالضرورة اللجوء إلى إعادة صياغة منومة التحفيزات وتركيزها لفائدة المصدرين الحقيقيين، وكذا المستوردين للعملة الصعبة مثل السياحة التي تعاني من تأخر في تحقيق الأهداف الإستراتيجية دون الاستفادة من تقلبات سوق السياحة العالمية في السنوات الأخيرة. وتحسبا لمواجهة تحديات تمويل الاستثمارات التنموية خاصة ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي ومتطلبات توفير ما تحتاج إليه البلاد من شروط حماية الاستقرار وتأمينها من أي أخطار محدقة في ظل أوضاع إقليمية ودولية تفرز تهديدات مختلفة، يحمل مشروع قانون المالية الجديد ترتيبات من شأنها أن تضبط بشكل كبير جوانب التسيير المالي وتوفر الموارد اللازمة دون المساس بالمكاسب المحققة. لذلك يتم الرهان على إعادة ضبط الحسابات وتدقيقها بما يساعد على توضيح الرؤية وتفادي أي طارئ مالي. ولعل إعادة النظر في الحسابات أو (الصناديق) الخاصة التي تثير الجدل منذ فترة، يمثل أحد الخيارات العملية التي ترد في مشروع قانون المالية، باقتراح إلغاء عدد منها لعدم الجدوى أو لانتفاء موضوعها، على غرار بعض الصناديق التي يمكن إعادة تصويبها أو إدماجها في أخرى، من اجل التوصل غالى إضفاء شفافية على تسيير مواردها وتمكين الدولة من موارد مالية، عانت لسنوات من عدم استغلالها. ومن ضمن الصناديق الخاصة (يوجد حوالي 70 حساب خاص) التي ينبغي معالجتها وإدماجها في مسار أكثر شفافية، صندوق تصفية المؤسسات، بحيث من المفيد الحسم في هذا المسار بشكل نهائي بما يساعد على إعادة توجيه تلك الموارد إلى مجالات استثمارية منتجة للقيمة المضافة ومؤهلة لاستيعاب اليد العاملة العاطلة والمعطّلة من كافة الشرائح والمستويات بما في ذلك المصنفة في المستويات الدنيا، من خلال جذب اهتمام اكبر عدد ممكن من المؤسسات والمتعاملين بالتكوين المهني وترقية التمهين، خاصة تجاه مهن وحرف يكثر عليها الطلب في قطاعات تعرف نموا مثل البناء والصيد البحري الصناعة التقليدية بالمفهوم الاقتصادي والتكنولوجيات الجديدة وغيرها. وحتى لا يسقط قانون المالية في الحلول السهلة باللجوء إلى اعتماد نظام الرسوم والاقتطاع من المصدر بشكل مبالغ فيه من اجل تعويض نسبة عجز محتملة لأسباب تراجع موارد المحروقات خاصة، يمكن إرساء ترتيبات تنظيمية تستهدف النشاطات الاقتصادية والتجارية الموازية من خلال اعتماد أسلوب جذب ذكي بحيث يتم تنظيمها بالقدر المطلوب مقابل مساهمة متعامليها في دفع رسوم متواضعة على الأقل في شكل رسوم استغلال ساحات ومواقع عمومية، كما يمكن العمل على ملف الجالية الجزائرية المقيمة بالخارج لتساهم في المجهودات المالية الوطنية بنسب مختلفة حسب الوضعية الاقتصادية والاجتماعية لكل فئة، وذلك على الأقل مرة في السنة، نظير ما يستفيدون منه من ثمار التنمية الوطنية الكبرى خاصة في الصيف، على غرار النقل والخدمات الصحية وغيرها من البرامج التي تسطرها الدولة وتشمل أبناء الجالية. وبالطبع يدفع مثل هذا الخيار إلى العمل بسرعة للقضاء على السوق الموازية للعملة الصعبة، بإدماجها في عملية تطهير من خلال اعتماد نظام الصرف الحر مقابل إتاوات تؤول إلى خزينة الدولة. كما يمكن العمل عل جبهة كبار الملوثين باقتطاع نسبة تمويل مقبولة يدفعاه المتعاملون في كل فصل (ثلاثة أشهر) على الأقل. وبالطبع يستدعي البحث عن تعدد مصادر تمويل الخزينة بمعايير شفافة ويمكن تحمّلها من المؤسسات والمتعاملين، اللجوء بدون تأخر إلى مراجعة منظومة الضرائب بما يشجع على الإقلاع عن التهرب الضريبي وإرساء ثقافة دفع الضريبة قدر المحتمل على الأقل، مع ترقية مستوى الأداء في التحصيل الضريبي باستهداف مجالات تدوير رؤوس الأموال خارج النطاق البنكي مثل أسواق الجملة المختلفة، ومراجعة تنظيم المؤسسات في شكل مجمعات ذات فروع، غالبا ما تختلط فيها المفاهيم وتضيع حقوق المجموعة الوطنية.