19 مارس ,1962 هو يوم من أيام الله.. وأيام الله أثناء الثورة كلها مباركات، حافلة بالإستشهاد والإنتصارات، والمواقف التاريخية الخالدة التي سجلتها جبهة وجيش التحرير الوطنيين، وتوجت تلك الأيام المظفرة بيوم التاسع عشر من مارس الذي تحقق فيه النصر المبين، واستعاد فيه الشعب حريته، وانتصر فيه الحق على الباطل في أشرس مواجهة عرفتها بدايات المنتصف الثاني من القرن العشرين. جاء التاسع عشر من مارس بعد مجابهات مريرة، وملاحم دامية، وجحافل جرارة من المجاهدين تعاهدت على تحرير الجزائر؛ وصممت على انتزاع سيادتها، وتحدت الآلة العسكرية الإستدمارية المدعومة بقوات الحلف الأطلسي، ما يمتلك هذا الأخير من ترسانة ضخمة ومتنوعة بمختلف أسلحة الفتك، باستطاعتها قهر أية قوة، وليس لمواجهة الثوار الجزائريين فحسب. وكانت عزيمة المجاهدين أشد بأسا من مكر فرنسا الظالمة وتشبثها بالبقاء في الجزائر؛ ولم تجدها قوات الحلف الأطلسي نفعا أمام إرادة جيش التحرير الذي عرف كيف يقاوم كافة خططها ويسفه أحلامها ويتحدى استراتيجيتها، ويجعل تطلعاتها تتبخر في كل المنعرجات والمواقع. كان التاسع عشر مارس خلاصة لجماع الإنتصارات السياسية والعسكرية التي أدارها بمسؤولية واقتدار، قادة وزعماء جيش وجبهة التحرير الوطنيين؛ ليقدموا ثمار ذلك اليوم الأغر هدية للشعب الجزائري الذي تحمل المعاناة في كل وقت وحين، ووقف إلى جانب مؤسسات ثورته الصامدة التي ظلت بالمرصاد لكل مناورات ودناءات العدو الذي استيقظ على استنزاف قدراته، ووجد نفسه في وحل عدوانه ومظالمه، وراح يبحث عن مخرج أخطأ في تقدير حساباته الصحيحة. كان التاسع عشر مارس وما حمله للشعب من بهجة عارمة وانتصارات فارقة في تاريخ ملاحمنا وبطولاتنا، التي كانت ثمنا لذلك الانتصار الذي حققته الجزائر المجاهدة باسترجاع سيادتها التي انتزعتها انتزاعا بحد السلاح، هو يوم النصر المبين، وهو اليوم الفاصل في مسارات الثورة ومنعرجاتها، وكان التاسع عشر مارس بما يمثله من وقع وحدث هو اليوم الذي قال فيه الحق كلمته ليندحر على إثرها إلى غير رجعة منطق العجرفة والتسلط. ولم يكن التاسع عشر مارس أبدا كما يزعم زعانف ومطايا الإستدمار صفقة أو تفاهمات أو تكرما من العجوز ديغول الذي استنفذ كل جهده بعد أن بذل كل مكره وخداعه للقضاء على الثورة الجزائرية، وإنهائها لصالحه بعد أن درس كل الخيارات للاحتفاظ بسراب ''الجزائر الفرنسية''؛ ولم تسعفه كل الرهانات لاستقطاب أبسط الحلول لطروحاته الزائفة للإبقاء على حلمه الخاسر ''الفردوس المفقود'' الذي راح يتهاوى أمام ضربات الثورة التحريرية المظفرة، التي أجبرت العدو الغاشم على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأذعنت في نهاية المطاف فرنسا السياسية من أجل إنقاذ ما تبقى لها من قوة فرنسا العسكرية للقبول بمبدأ المفاوضات التي كانت مفاوضات عسيرة، وعرفت الكثير من الشروط المجحفة حول قضية الصحراء، وهو ما لم يقبل به الوفد الجزائري الذي أبلى البلاء الحسن باستمساكه بالوحدة الترابية، وجعلها أولوية لا تسمو إليها بقية الملفات المطروحة على طاولة التفاوض، وقد حاولت فرنسا الإستدمارية مرة أخرى أن تفاوض على الولايات الشمالية الثلاثة عشرة، وتستثني الصحراء بمبررات واهية تتنافى مع مبدأ التفاوض المتفق عليه، والذي يشمل كامل حدود ترابنا الوطني، وباءت كل رغبات الدولة الفرنسية بالفشل أمام استمساك الوفد الجزائري بحقه المشروع في سيادته على الصحراء. وبعد سلسلة من اللقاءات التي صاحبها التعثر وشابتها العديد من العوائق والمطبات، استطاع الوفد الجزائري بتجربته الدبلوماسية الرائدة أن يحسم ملف الصحراء لصالحه، وجعله غير قابل للجدل، لأنه قضية مصيرية، هي قضية الجزائر نفسها، ولا يمكن للمفاوضات المشتركة أن تتقدم أو تخرج من نفقها المسدود، إلا باعتراف الدولة الفرنسية بجزائرية الصحراء أولا. ومن واقع تلك المعركة السياسية، كان الوفد الجزائري يقف على أرض صلبة أثناء خوض مفاوضاته، وكان ثابتا في إبداء ملاحظاته بكل سيادة أو رفض ما لا يتناسب مع قناعاته السياسية ويتعارض مع مصير شعبه ولا يحقق مصلحة بلده، بَلْهَ أنه لم يقبل بالإملاءات أو الحلول الملغمة أو التورط في الأخذ بالأفكار الجاهزة التي تمرر بوساطة الإيحاء والتسريبات التي لا يسلم منها مثل ذلك النوع من اللقاءات التي تتطلب الحذر واليقظة. وقد كان أعضاء الوفد الجزائري من طراز نادر، ومن نخبة أنضجت خبرتها الفنية جبهة وجيش التحرير، وأعدها القدر الحكيم إعدادا خالصا لساعة العسرة، وللقيام بتلك المهمة، كما أعد من قبلها رجالا من طينة أخرى ليسوا كغيرهم من بقية الرجال، كانت مهمتهم الوحيدة التي لا يستطيعها سواهم، هي الإعداد للثورة، والحفاظ على سرية توقيتها، ثم تفجيرها في موعدها المقدور الذي كان ولا يزال علامة صادقة على صدقهم وإخلاصهم، وإيمانهم المطلق بحتمية تخليص الشعب، وإنقاذ بقيته الباقية من المذبحة المتواصلة على مدى أكثر من قرن وربع، حافلة بالإعتساف والإبادة والإستئصال. وإذا كان الرجال الذين فجروا الثورة قد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وضحوا بأنفسهم، وهي أغلى ما يمتلكون، ووضعوا أرواحهم بإرادتهم وباختيارهم على مذبح الحرية، وواجهوا عنجهية الإستدمار، ولم يأبهوا لاستقوائه بالحلف الأطلسي ولا بآلته العسكرية التي تعود على استخدامها لقمع الشعوب الزائغة عن أمره، والبطش برادة التحرير والتنكيل بهم، فإن الوفد الجزائري المفاوض المتمرس سياسيا ودبلوماسيا قد كان بدوره أهلا للمهمة الوطنية المنوطة به، وكان في مستوى التحديات التي شهدتها المعركة السياسية لاسترجاع السيادة الوطنية، وتخليص الجزائر من محنتها التي طال ليلها، إلى أن أذن الله لمخاض الثورة أن يسفر عن فجره وتتجلى بعده ملامح النور تنساب من بين طيات الغبش الكثيف ببقايا الظلمة الآفلة. وبعد أن تحقق الأمل الذي طالما راود الأمة الجزائرية، عمت الفرحة والإبتهاج في طول البلاد وعرضها، وانتشر الخبر السار إنتشار البرق في كل المدن والقرى والأرياف.. وراحت الفرحة الكبرى تطرق كل البيوت، وتغير واقع الشعب بتحرره من خوفه .. وتعانق الناس يتبادلون التهاني بانتهاء الكابوس، وزوال المظالم، وراحوا يتطلعون إلى عهد جديد يختلف عن ماضيهم البائد بظلمه وطغيانه. وبدوره احتفل جيش التحرير في مواقعه التي لم يبرحها، وظل مرابطا في ثغوره، والإصبع على الزناد تحسبا لأي طارئ، وكانت احتفالات جيش التحرير في مراكزه في الجبال لا تقل فرحتها عن فرحة الشعب، وكانت وحدات جيش التحرير التي حققت المعجزة، تعرف أن الثمن كان باهظا، وأن المسؤوليات الآتية بعد هذا اليوم الأغر ثقيلة وتتطلب مرة أخرى وحدة الشعب الذي حقق بفضل الله هذا الفوز المبين، وكما راهن جيش التحرير على تحقيق الإنتصار، راح يراهن على حماية كل المكاسب، وتكفل بمعية الشعب على إقامة صرح الدولة الجديدة التي شهدت بدورها مخاضا من نوع خاص، أثناء فرحة صائفة 1962 ولكن الله سلم. وبعد تلك المرحلة المتعثرة إلى حد ما، نهضت الدولة بكل الأعباء والواجبات التي كانت تتطلبها تلك المرحلة. وتكفلت بإيجاد الحلول المناسبة والسريعة لبعض الأوضاع الإدارية والفراغات القانونية، وواجهت الكثير من الثغرات لغياب القانون الواجب التطبيق، وتوازت مع كل تلك الإشكاليات معركة البناء والتشييد عبر التراب الوطني، وتجديد هياكل وبناء المؤسسات التربوية التي تستعد للموسم الدراسي 62 ,1963 وتنظيم أجهزة الأمن والدرك الوطنيين، لأنها هي الوجه الجديد الذي يحفظ النظام العام، ويحرس المؤسسات الرسمية والمرافق العامة، ويسهر على حماية مكاسب الشعب. وبالتدرج ومع فرحة الزمن الجديد، تحققت منجزات كثيرة، وتأسست بعض وسائل الإعلام المكتوبة، ورفعت التحدي إلى جانب التلفزيون الذي رفعت على مبناه الراية الوطنية يوم 28 / 10 / ,1962 وكان التحدي في محله، ولم يتوقف البث للحظة واحدة، على الرغم من كيد الكائدين وفخ المؤامرة الإستدمارية التي كانت ترمي إلى شل مؤسسة التلفزيون. ذلك هو يوم التاسع عشر مارس الذي كان وسيظل يوما مشهودا في تاريخ الكفاح الجزائري، لأنه يمثل آخر محطة من الهيمنة الإستدمارية التي انكسرت شوكتها العسكرية الباغية في جزائر البطولة والمفاداة.. جزائر الشهداء الذين كانوا ثمنا بدمهم الطاهر وأشلائهم المتناثرة والمزروعة في كل فجاج الجزائر وشعابها.. فالشهداء وحدهم الخالدون في الذاكرة الوطنية.. وحدهم دون سواهم من يستحق التمجيد والإحترام والتقدير والإنحناء.. وهم وحدهم الإستثناء الذي تتصاغر أمامه كل الإستثناءات .. وهم وحدهم الأحياء عند ربهم يرزقون، يحترمهم حتى الموت فلا يطالهم.. الشهداء هم الأمانة التي يجب أن تصان في كل قلب حي، ومن تنكر