إنّ «الاعتراف بالكرامة المتأصّلة في جميع أعضاء الأسرة البشريّة وبحقوقهم المتساوية الثابتة، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم»، كما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948؛ فمن الضروري إذا أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء إلى التمّرد على الاستبداد والظلم. لا يمكن لأحد اليوم إنكار أن مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة قد أضحت ذات صبغة دستوريّة، تمثل أبرز عناصر ومحددات الحكم الرّاشد ومعاييره، وفي هذا الاتجاه، حرصت مختلف الدّساتير والصكوك الدوليّة لحقوق الإنسان على أن تضمن للمواطنين حق الانتخاب؛ باعتباره حقًّا دستوريًّا مقدسًّا. وقد نصّ المؤسّس الدستوري الجزائري صراحةً في الفقرة الأولى من المادة 38 على أن: «الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن مضمونة»، وجاء في المادة 62 منه: «لكل مواطن تتوفر فيه الشروط القانونية أن يَنتَخِب ويُنتخَب»، والثابت أن المؤسس الدّستوري هو الذي يرسي الحقوق والحريات العامة، والمشّرع يضع شروط تنظيمها. إن التمتع بهذا الحق أي حق الانتخاب أو الترشح وتولي العهدة النيابية في حالة تزكية الناخبين، يُقابله جملة من الواجبات تقع على عاتق عضو البرلمان، ومن بين أهم هذه الواجبات، الالتزام بخدمة الوطن والأمّة، والعمل على تحقيق الوعود التي قطعها أمام الشعب أثناء الحملة الانتخابية، غير أنه من الملاحظ، بأن هناك ميزة سلبية في أغلب برلمانات العالم، تتمثل في الإخلال بإلتزام حضور عضو البرلمان للأشغال البرلمانية، وهذا ما يؤثر سلبًا على مخرجات العملية السياسية. إن من بين الشوائب التي تعترض العلاقة القائمة بين الناخب والمنتخب، عمليًا، ظاهرتي العزوف الشعبي عن الاستحقاقات الانتخابية، وعزوف الناخبين عن اللجوء إلى المنتخبين لطرح مطالبهم وانشغالاتهم، مما تتحول أساليب التعبير إلى الشارع أو اللجوء إلى جهات أخرى خارج وسائل الاتصال المؤسساتي، مع بروز ظاهرة غياب المنتخبين في مثل هذه الحالات أو غيرها، مما يستدعي ظهورهم بالأولوية، وكذلك ظاهرة العزوف البرلماني إلى غير ذلك، مما يعبر عن عدم جودة هذه العلاقة عمومًا. هذا ما دفع العديد من خبراء القانون البرلماني، في الجزائر، على غرار البروفيسور الأمين شريط؛ إلى التأكيد بأن هناك مسألة مهمة جدًا، اهتمت واعتنت بتنظيمها، البلدان الأخرى، لكن التجربة البرلمانية الجزائرية أهملتها، وهي مسألة الحضور في أشغال البرلمان والمجازاة في حالة التغيب بالخصم من التعويضات البرلمانية بالقدر المتناسب مع عدد الجلسات في اللجان وفي المجلس، هذا ما يدفع إلى طرح الإشكالية التالية: كيف عالج المؤسس الدستوري الجزائري ظاهرة العزوف البرلماني؟ وما هي الحلول المقترحة للتقليل من الآثار السلبية لهذه الظاهرة في ضوء المراجعة الدستورية 2016؟ جاءت القوانين العضوية الخاصة بنظام الانتخابات والقانون العضوي المحدد لحالات التنافي مع العهدة البرلمانية ليدعم المنظومة القانونية الجزائرية في هذا المجال، وعلى ضوء المراجعة الدستورية لعام 2016، ستعرف هذه الترسانة القانونية؛ تحيين وتعديلات جوهرية، من بين أهم هذه التعديلات الشق المتعلق بدسترة نظام التفرغ لمهام وواجبات العهدة البرلمانية، وكذلك دسترة ضوابط انضباط أعضاء البرلمان في عملية الاضطلاع بالمهام الموكلة لهم، وقبل التصدي إلى المعالجة الدستورية لظاهرة التغيب البرلماني في المراجعة الدستورية الأخيرة ( في المحور الثاني)، نتطرق إلى بيان المعالجة الدستورية لها قبل عام 2016 ( في المحور الأول). المحور الأول: المعالجة الدستورية لظاهرة العزوف البرلماني قبل التعديل الدستوري لعام 2016 تعد ظاهرة التغيب البرلماني أو العزوف البرلماني من المؤشرات أو المظاهر التي ترسخ موقفًا سلبيًا اتجاه أعضاء البرلمان لدى الرأي العام، فصور المقاعد شاغرة أثناء الجلسات تحت قبة البرلمان، يهز بمصداقية البرلمان، مما قد يؤدي إلى تنامي العزوف الانتخابي وسط المواطنين، ولعل النسب المنخفضة لعدد المشاركين في الانتخابات التشريعية، تفسر هذا الموقف، وتؤكد هذا الطرح. كما إن هذه المسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحالات التنافي، حسب البروفيسر الامين شريط؛ حيث يشير إلى أنه: « لا يعقل منع أشخاص من ممارسة نشاطات معينة من جهة، وترك الباب مفتوحا لأشخاص آخرين يزاولون نشاطاتهم وهم أعضاء في البرلمان، لا يحضرون أشغاله ولا يقدمون لأمة شيئا من جهة أخرى. الفرع الأول: نظام حالات التنافي مع العهدة البرلمانية: لماذا وكيف؟ إن موضوع حالات التنافي مع العهدة البرلمانية، يفرض نفسه لأسباب ودواع عدة، خاصة في ظل الإصلاحات التي مسّت جُلّ المنظومة القانونية الناظمة للحياة السياسية، فمن البديهيات، أن مبدأ التنافي شكّل منذ نشأته مثله مثل الحصانة البرلمانية، أحد الضمانات الأساسية للعهدة البرلمانية، خاصة مع تزايد أعباء عضو البرلمان وثقل المسؤوليات الملقاة على عاتقه. وقد أخذت بهذا المبدأ الكثير من الدول في تشريعاتها بالتنصيص على عدم الجمع بين العهدة البرلمانية ووظائف أو مهام أخرى سواء كانت بأجر أو تطوعية، وهذا ما اصطلح على تسميته بحالات التنافي أو حالات التعارض أو مبدأ عدم الجمع. فالمقصود إذن بحالات التنافي هو عدم الجمع بين العضوية في البرلمان وعهدة انتخابية أخرى أو بينها وبين وظائف أو أنشطة تجارية، ومن هنا يجب أن يتفرغ عضو البرلمان لعمله النبيل وتمكينه من أداء مهامه السامية التي خوّلها إياه الشعب بغرض خدمته والدفاع عن مصالحه، تجسيدًا لمبادئ الدّستور، وفي مقدمتها مبدأ الفصل بين السلطات. وقد أدرجت بعض التشريعات حالات التنافي في قوانينها الانتخابية، بينما أفردته بعض النظم في قوانين خاصة كما هو الحال بالنسبة للتشريع الجزائري. أولاً: الإطار الدستوري لحالات التنافي مع العهدة البرلمانية أخذت جميع الدّساتير الجزائرية بهذا المبدأ، وخاصة التعديل الدّستوري لعام 1996، الذي ذهب أبعد من ذلك من خلال إحالة نظام التنافي على قانون عضوي، وقد سبق تحديد بعض هذه الحالات في الدستور والقانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات كما أشار لها قانون عضو البرلمان في المادة 3 منه. فدستور 1996 نص في مادته 103 على أن «تحدد كيفيات انتخاب النواب وكيفيات انتخاب أعضاء مجلس الأمة أو تعيينهم، وشروط قابليتهم للانتخاب، ونظام عدم قابليتهم للانتخاب، وحالات التنافي، بموجب قانون عضوي». ونص في مادته 105 على أن «مهمة النائب وعضو مجلس الأمة وطنية، قابلة للتجديد، ولا يمكن الجمع بينها وبين مهام أو وظائف أخرى.»وهي نفس الأحكام الواردة ضمن المراجعة الدستورية الأخيرة لعام 2016. وضمن هذا السياق، وتطبيقًا لأحكام المادة 103 من دستور1996، جاء القانون العضوي رقم 12-02 المحدد لحالات التنافي مع العهدة البرلمانية؛ من أجل إضفاء المزيد من الشفافية على عمل عضو البرلمان ولإعطاء حيوية وديناميكية جديدة لأداء البرلمان، لاسيما في إطار الإصلاحات السياسية التي بادر بها رئيس الجمهورية، والتي استهدفت استكمال النصوص القانونية المتعلقة بالسلطة التشريعية المنصوص عليها في الدستور، في إطار ترسيخ أركان دولة القانون والمؤسسات، وعملاً بآراء واقتراحات المتدخلين، من أحزاب سياسية وممثلين عن المجتمع المدني وهيئات وشخصيات وطنية أمام هيئة المشاورات حول الإصلاحات السياسية. ثانيُا: لماذا نظام التنافي مع العهدة البرلمانية؟ إن تعميق المسار الديمقراطي وترقية الحكم الراشد بتحسين أداء السلطة التشريعية، ولتجسيد استقلالية عضو البرلمان بما يمكّنه من أداء مهامه على أكمل وجه، وذلك تجسيدًا لدولة الحق والقانون وضمان تفرغ عضو البرلمان كليًا لمهامه ورفع جميع أشكال التبعية عنه. إن الهدف من سن هذا القانون هو اضطلاع البرلمان بالمهام والوظائف التي يمارسها أعضاؤه وحمايته من الآثار السلبية التي قد ينجر عن تعارض مصلحة عضو البرلمان مع مهامه، فنظرًا لطبيعة العمل البرلماني، والذي يكتسي خصوصية تشريعية ورقابية تتطلب السهر الدائم على تحقيق التطلعات الشعبية عن طريق تعزيز الأداء البرلماني، يمنع القانون العضوي الجمع بين صفته، كعضو برلمان وممارسة عدة مهام ووظائف وعهدات انتخابية، وأنشطة مهنية ورياضية أخرى لها تأثير على الحياد الايجابي للبرلمان ومصداقيته. ولاستفادة المجتمع من خبرات وقدرات ذوي الكفاءات العالية؛ يستوجب أن ينصّ القانون العضوي على استثناءات، بحيث يرخص لممارسة النشاطات ذات طابع مؤقت. وعلى هذا الأساس، يلزم عضو البرلمان الذي أثبتت عضويته إيداع تصريح يتضمن كل الوظائف والمهام والأنشطة التي يمارسها ولو بدون مقابل. وفي حالة ثبوت التنافي، يمنح عضو البرلمان فرصة الاختيار بين عهدته البرلمانية أو الاستقالة. كما نص هذا القانون العضوي على مسألة إخفاء حالة التنافي الذي يعرض صاحبه إلى وضعه تحت طائلة ارتكاب فعل التصريح الكاذب. يتضح أنّ هناك تصور راسخ للدولة بتقوية وتعزيز دور البرلمان وترقية أدائه، لذا تكفّل المؤسّس الدّستوري الجزائري ومن ثم القانون العضوي بترتيب الظروف الملائمة لعضو البرلمان لممارسة مهامه البرلمانية ولضمان الحماية القانونية لها ولوضعيته المادية، وتشكل حالات التنافي البرلمانية إحدى أهم أدوات الحماية هذه. الفرع الثاني: قراءات قانونية في نظام التنافي مع العهدة البرلمانية. إنّ تبني مبدأ التنافي يخضع لاعتبارات دستورية وأخلاقية وعملية؛ فمن الناحية الدستورية؛ وجوب إعمال مبدأ الفصل بين السلطات باعتباره حجر الزاوية في بناء أي نظام ديمقراطي فعلي، ومن الناحية الأخلاقية؛ فعضو البرلمان ملزم بإظهار استقامة مثالية نظرًا لوضعيته المرموقة بصفته ممثل للأمة، ولاعتبارات عملية تستلزم التفرغ الكلي من طرفه. فالهدف من إعمال هذا المبدأ حماية المهمة البرلمانية، ومن ثم حماية عضو البرلمان، من مختلف الضغوط السياسية أو من تلك التي تمارسها جماعات الضغط من جهة، ومنع إساءة استغلال العهدة البرلمانية لغرض الإثراء الشخصي أو للدفاع عن مصالح نفعية من جهة أخرى، فعضو البرلمان كما هو متعارف عليه هو «الضامن للمصلحة الوطنية»ويجب أن يكون في خدمة المجتمع والأمّة. إن صور التنافي هذه تخضع حسب الباحثين في الواقع لتعديلات أو لتشويهات أو حتى لانحرافات بسبب طبيعة النظام السياسي ودرجة الإحساس بالمواطنة والثقافة التي تطبع الطبقة السياسية ففيما يخص التجربة الجزائرية، فإن نظام التنافي في الجزائر؛ يُعد من الأنظمة الأكثر تشددًا، علاوة على ذلك فإن التفاوت الاصطلاحي الذي تتضمنه مختلف النصوص القانونية المشكلّة للإطار القانوني لحالات التنافي؛ يتطلب ضرورة إزالة بعض الالتباسات الحاصلة في هذه المسألة. ولم ينتبه البعض إلى كون الاقتراحات التي أخلطت بين عدم القابلية للترشح المنصوص عليها في القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات وحالات التنافي مع العهدة البرلمانية المحددة بموجب هذا القانون العضوي عند دراسته على مستوى غرفتي البرلمان؛ لذا يجدر الإشارة إلى نقطة هامة وهي وجوب التفرقة بين عدم القابلية للانتخاب وحالات التنافي، فالأولى لا يجوز انتخاب شخص أولاً قبل ترشّحه رغم توفر جميع شروط الترشح، أما الثانية فإنه بمجرد انتخاب العضو، يجب عليه الاختيار بين عهدته البرلمانية ووظيفته أو مهنته أو نشاطه التجاري، إعمالاً للتشريع المعمول به. إذا كان مبدأ التنافي أو مبدأ عدم الجمع بين العهدة البرلمانية والوظائف والأنشطة الأخرى، قد أخذ به المؤسّس الدّستوريّ على اعتباره ضمانة عملية وحماية دستورية للمهمة البرلمانية على غرار الأنظمة المقارنة، فإنّه واستقراءً لواقع الممارسة البرلمانية في الجزائر، تطرح إشكالات علمية وعملية عديدة تتمحور بالأساس حول تحديد حالات التنافي وتمييزها وإجراءات إثبات التنافي والآثار القانونية المترتبة عنها والمنازعات القانونية التي قد تعتريها، وإن كانت هناك نقائص، ينبغي تداركها، ففيما تتمثّل هذه النّقائص؟ إلى غير ذلك من التساؤلات حيث يذهب بعض الباحثين إلى القول بوجود مفارقة في عدم دقّة النصوص القانونية وفي صعوبة التطبيق ميدانيًا. الايميل: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.