خضير بوقايلة: kbougaila@gmail.com عدوى الحديث عن الفساد لم تتوقف للأسف عند الأحياء من عباد الله، مع أن صاحب الفخامة نهى عن الحديث عن هذا الموضوع إذا لم يكن المرء يملك ملفات ثقيلة، ولا أدري إن كانت السيدة الفاضلة أنيسة بومدين بوخروبة أرملة الرئيس الراحل قادرة على تقديم بعض الملفات أمام العدالة أم لا. ومع ذلك فإنني لا أملك إلا أن أحييها على شجاعتها وعلى الأسرار الخطيرة التي كشفتها والمتعلقة ببعض جوانب حياة الراحل. هل تعلمون أن ''الراحل هواري بومدين أراد محاربة الرشوة في محاكم شعبية''، ومن أجل ذلك فقد -أمر كل أعضاء مجلس الثورة بوضع ملفاتهم على الطاولة... على أن تتم محاكمة كل من يثبت تورّطه في قضية رشوة-. كان الراحل حريصا على محاربة الرشوة رغم أن -نسبة تعاطي الرشوة لم تتعد في عهده نسبة 25 بالمائة ولم تأخذ الأبعاد التي عرفتها الجزائر بعده-، نعم إنها السيدة الفاضلة تؤكد أن النسبة لم تكن تتعدى 25 بالمائة، ولم تكن أقل من ذلك، ولكن 25 بالمائة بالنسبة إلى ماذا؟! ولكم أن تتخيلوا بقية القصة الطريفة، كان هذا القرار البطولي الذي اتخذه الراحل بمثابة حكم بالإعدام أصدره على نفسه، ثم تأتي الروايات التي تؤكد أنه مات مقتولا ومسموما. في الحقيقة أعترف أن هذه أول مرة أكتشف فيها أن الرشوة والفساد كانا حاضرين في عهد الراحل، ولولا أن المتحدثة هي سيدة فاضلة كانت تسمع وترى ما لا يمكننا لكثير من أبناء المجتمع الجزائري أن يسمعوه ويروه لقلت إنها تتحامل عليه وتحاول أن تشوّه صورة حاكم كان يسهر على أن تظل الجزائر صفحة ناصعة البياض، بياض لا يضاهيه بياض الثلج ولا الحليب الصافي. لكنني وأنا أواصل الاستمتاع بتصريحات الفاضلة لصحيفة الخبر بدأت أشك في الأمر، لا أقول إنها تتآمر على زوجها، لكن ربما بدأت ذاكرتها تخفت عندما يتعلق الأمر بتفاصيل مملة. تقول الفاضلة إن الرئيس الراحل بعد (أو قبل قراره الشروع في محاربة ال25% من الرشوة) -كان ينوي رفع الإقامة الجبرية عن بن بلة-، وأحمد بن بلة لمن لا يعرفه أو لا يذكره هو أول رئيس للجزائر المستقلة انقلب عليه بومدين بعد انقلاب الاثنين على الحكومة المؤقتة. هنا لا بد أن أعترف أن ذاكرتي هي التي بدأت تخونني، لأنني كنت، إلى حين قراءتي تصريحات السيدة الفاضلة، أعتقد أن أحمد بن بلة هو من كان يرفض مغادرة إقامته الجبرية، فقد كان يخاف أن يخرج إلى الشارع ولا يجد له مأوى أفضل من المكان الذي كان فيه، وكان الراحل يلح عليه أن يخرج لكن المقيم الجبري كان في كل مرة يشكره على كرمه ويترجاه لكي يبقى سنة أخرى. ماذا أيضا؟ كان الراحل ينوي –عدم التعامل برخصة الخروج في نهاية السنة-، وهنا أيضا لا بد أن أعترف بتدهور ذاكرتي التي جعلتني أعتقد إلى حين قراءتي هذه التصريحات الفاضلة أن رخصة الخروج كانت ملغاة من زمان وأن الشعب هو من كان يصر على التوجه إلى الدائرة لطلبها كلما أراد الخروج، وفي كل مرة يقال لهم إنها ملغاة يعودون إلى بيوتهم ويلغون أسفارهم لاعنين موظف الدائرة ومزحته الثقيلة. وهنا لا بدّ أن أفتح قوسا لأخبر من يقرأ هذا الكلام من الشباب ما معنى رخصة الخروج وأرجو هذه المرة أن لا تخونني ذاكرتي في وضع تعريف سليم لها. هذه الرخصة، يا أخي العزيز، هي ورقة كان نظام الرئيس الراحل يفرض على كل فرد من أفراد المجتمع الجزائري أن يحملها معه إلى المطار، وكان الحصول عليها يضاهي الآن الحصول على تأشيرة سفر إلى فرنسا أو الولاياتالمتحدة، بل لنقل إنها كانت بمثابة تأشيرة سفر داخلية يستخرجها الفرد الجزائري قبل أن يسافر إلى الخارج، وكان الحاصل عليها يفرح أكثر مما يفعل لو قيل له إنك رزقت بولد أو إنك حصلت على سكن، ومثلما أن الحصول على سكن يحتاج في عصرنا الحاضر إلى وساطات ورشاوى وتملق فكذلك كانت رخصة الخروج، وقد جاء الرئيس الشاذلي ليقرر إلغاء هذه الورقة تنفيذا لنية الراحل، وإنما الأعمال بالنيات. ماذا أيضا؟ تقول الفاضلة إن الراحل -كان يتمتع بشجاعة كبيرة وكان شابا طموحا، كما أنه كان يكره الحقرة والجهوية-، وقد كان محاربا بارعا ضد هذه الحقرة –من خلال توفير العدالة الاجتماعية- لا فُضّ فوك يا سيدتي الكريمة، فقد أصبت ولا تعليق لي على هذا الكلام إلا برفع حاجبيّ عاليا والتحسّر على أيام كانت العدالة الاجتماعية تصول وتجول ولا تجد من يلتفت إليها لأن الكلّ شبع منها إلى درجة أن الفرد الواحد من أفراد المجتمع الجزائري كان يتشوّق لقليل من الحقرة والتهميش حتى يشعر أنه في الدنيا لا في جنات النعيم. يا حسرتاه على أيام زمان! لا أعلم إن كنت أخي العزيز تستمع مثل ما أفعل بمتابعة نشرات الأخبار على قناتنا المحبوبة.. أصارحكم أنها متعة يومية لا أجد عنها بديلا، حتى أنني قررت (من باب الاحتياط) أن أشتري جهاز فيديو (باناسونيك ونيميريك) من أحدث طراز لكي أسجل فيه كل نشرات الأخبار وخطابات فخامته في حالة ما إذا شغلتني بعض أمور الدنيا والآخرة عن أكون أمام شاشتي الصغيرة في الموعد اليومي المحدّد. ولا أخفيكم أن هذه العدوى تمكّنت بفضل قدرتي السحرية أن أنقلها إلى أهل بيتي جميعا، حتى أن أولادي صاروا يتسمّرون أمام الشاشة نصف ساعة قبل الموعد ويرمون كراريسهم وكتبهم جانبا ليستمتعوا بممتع الكلام ومؤنس الجماعات. كل هذا أراه أمرا طبيعيا ولا عجب فيه، لكن الذي أدهشني هو سرعة تلقي بنتي الصغيرة (لم تبلغ بعد 10 بالمائة) وقدرتها على مسايرة التطورات السياسية في البلد، ومن شدة اهتمامها أنها سألتني ونحن نتابع خطاب فخامته ليلة الثلاثاء سؤالا حيرني وشغلني لبضع ثوان عن مواصلة متابعة الخطاب، قالت لي: أين هو ذلك الرجل الملتحي الذي كان يصفِّق بحرارة عندما كان صاحب الفخامة يبهدله، وقبل أن أسألها من تقصد بالضبط، صاح أخوها –فعلا أين هو الشيخ سلطاني؟ لم أره في الصف الأول من القاعة-، لا لم يستقل ولم يقاطع الجلسة ولم يقاطعه فخامته، بل كل ما في الأمر هو أنهم بعثوه يحجّ! كان هذا جوابي حتى لا نفتح مجالا لنقاش لا طائل منه حول دونكيشوط الجزائر. وليت الأمر توقف هنا، بل عادت المشاكسة وهي ترى ميلود شرفي يقيّم باحترافية منقطعة خطاب فخامته لتسألني –هذا الرجل ليس هو رئيس حزبه المتحالف- قاطعتها وقلت لها إن الذي تبحثين عنه اسمه الشيخ أحمد أويحيى وقد ذهب هو الآخر يحجّ، وتوقفي عن أسئلتك السخيفة! غرقت في التفاصيل دون أن أتطرّق إلى ما كنت أريد قوله عن نشرات الأخبار المشوّقة، والحق أنني كنت أنوي التقدّم بطلب إلى القائمين على التلفزيون الجزائري لكي يبذلوا جهدا أكبر لخدمتي وخدمة كافة أفراد المجتمع الجزائري، فهم يقدمون لنا نشرات ممتازة يشكرون عليها، لكننا نريد منهم وقتا أطول، فساعة واحدة أو ساعة ونصف لا تكاد تكفينا ولا تشبع جشعنا. فنحن نرى أنهم يضطرون إلى تقديم أخبار موجزة ويتعمدون الاختصار في مواضيع هامة جدا. لذلك فإنني أقترح عليهم، لكي تصل النشرات مرتبة الكمال، أن يلغوا نهائيا أخبار العالم، فنحن لا نريد أن نعرف ماذا يجري في العالم ولا خارج العالم، بل فقط ما يجري في بلدنا العزيز وبالتدقيق الجهود المتواصلة والكثيفة للقائمين على شؤون هذا البلد. فعلا التلفزيون لم يقصّر في نقل أخبار تنقلات أعضاء الفريق الحكومي النشيط ومتابعتهم في كل خرجة صغيرة أو كبيرة، لكنني فقط أرجو أن ينقلوا لنا تفاصيل الزيارات والجولات الميدانية للسادة الوزراء من خروجهم من نادي الصنوبر إلى حين عودتهم إليها، كل شيء وأزيد فأقول إنّ برنامجا مثل برنامج -لوفت ستوري- أو ستار أكاديمي عن معالي الوزراء سيكون أكثر من مرحَّب به في أوساط المجتمع الجزائري. برنامج ينقل لنا تفاصيل حركات وسكنات وغرف نوم ومطابخ أصحاب المعالي في بيوتهم ومكاتبهم وأسفارهم سيكون من أحسن البرامج وأنا أضمن لكم أن شعبيته ستتعدى الحدود وستتهافت عليه تلفزيونات العالم لشرائه فنكون بهذا ضربنا مجموعة عصافير بفكرة واحدة، نبيع البرنامج ونضخّ مزيدا من الأموال إلى الخزينة ونعرّف العالم ببلدنا وأيضا نطلع العالم والمستثمرين في مشارق الأرض ومغاربها على مدى تقدّم الحكومة في تطبيق برنامج فخامته وجدية العمل المبذول. لكن قبل أن أختم أودّ أن أرفع تحية تقدير وإجلال إلى ذلك الشخص أو الشخوص الذين فكّروا في المزيد من إمتاعنا نحن متابعي الشاشة الجزائرية الميمونة، وهنا لا أتحدث عن نقاوة صوت ووضوح صورة فخامته وهو يلقي خطاباته التي اشتقنا إليها، بل أقصد تلك الأغاني الحماسية الرقيقة والوطنية التي يتحفنا بها التلفزيون كفاصل بين نشرة الأخبار والنص الكامل لخطاب صاحب الفخامة. وقد لاحظت أن هناك تقدّما ملحوظا في تجسيد هذه الفكرة الرائعة، فبعد أن كان الجماعة يكتفون بأغنية واحدة، (المرة السابقة كانت مع فنانة العمر حسيبة عمروش)، صاروا الآن يمتعوننا بأكثر من واحدة، وليس هذا فقط، بل إنهم يحسنون اختيار الأغاني بحيث تكون معبّرة عن روح الخطاب ومضمونه. ولمن فاته الاستماع أخبره أن مسؤولي التلفزيون اختاروا لخطاب فخامته ليلة الثلاثاء وكان عن التوازن الجهوي والحفاظ على الميزانية أغنيتين من أروع ما سمعت. تقول الأولى -عندي خويا في وهران واختي ثاني في تلمسان، عندي خويا في الهضاب وقسنطينة مدينة الأحباب..- ثم تواصل الأداء عن القبايل والصحراء والشاوي وأولاد نايل والزين الهايل وغير ذلك من الكلام الهايل الذي لا يتسع لما بقي من هذه الصفحة، لكن أعد كل من يريد التمتّع معي بهذا الإنجاز الرائع أن أرسل له شريطا كاملا يحمل الخطاب والأغاني.