بقلم: ابن خلدون: IBN-KHALDOUN@MAKTOOB.COM إعدام صدام حسين على خلفية جرائم القتل وليس جرائم الحرب، أو امتلاك أسلحة الدمار الشامل، أو العلاقة بتنظيم القاعدة، أو شيء آخر، يؤسس مستقبلا لضرورة محاكمة وإعدام كل من يقترف ما حوكم لأجله صدام حسين. وإذا كان هذا هو المنطق فإنه يمكننا من اليوم معرفة من سيتوجب محاكمتهم وإعدامهم في عراق ما بعد الاحتلال وعملائه، خصوصا زعماء الميليشيات العراقية. التي بالرغم من قرار بول بريمر القاضي بحلها إلا أنها ظلت قائمة. بل وتجاوزت عمليات الاختطاف التي قامت بها 1000 حالة في الشهر. وتطرح هذه الميليشيات مشكلة حقيقية. فعملية دمجها في قوات الأمن والجيش كما يرى البنتاغون قد يجعل قوات الأمن ربما أكثر ولاء للمنظمات السياسية والدينية الداعمة لها. وبالتالي ينظر لهذا الخيار أنه مجازفة. واليوم يمكننا التعرف على خمسة أطراف رئيسية لها مسؤولية مباشرة عن إهدار الدم في أرض العراق هي: قوات الاحتلال الأمريكي ومن يساندها من حلفائها، قوات الجيش والشرطة العراقية المؤسسة حديثاً، المقاومة العراقية بعملياتها المختلفة، العصابات الإجرامية المنظمة التي برزت على السطح منذ بداية الاحتلال، مستغلة حالة الانفلات الأمني الشامل. وأخيرا عناصر الميليشيات المسلحة التي أمست عملياً تتحكم في الشارع العراقي وفي أرواح المواطنين وممتلكاتهم. وإذا كان الاحتلال يمتهن القتل كجزء من مهمته بالعراق، وإذا كانت المجتمعات تعاني من الجريمة المنظمة التي تستغل الفلتان الأمني، وإذا كان للمقاومة حق مشروع في العمل المسلح ومن الطبيعي أن يكون لهذا العمل المسلح ضحاياه، فإن ما لا يفهمه العامة هو دخول الميليشيات وقوات الشرطة والجيش سوق القتل. وإذا كان الناس يعرفون قوات الشرطة والجيش ويعرفون أنها أضعف من أن تقوم بدور فاعل ومؤثر في حفظ الأمن والنظام فما هي حقيقة الميليشيات خصوصا الشيعية منها، كما يتساءل الكثير منهم؟. وأين هي من وثيقة تحريم سفك الدماء التي أُقرت من قبل علماء الدين الإسلامي في رحاب مكة المكرمة؟. وهل المحكمة العراقية، والقانون العراقي اللذان أدانا صدام حسين على جريمة الدجيل لا يحاسبان المسؤولين عن قتل الآلاف من العراقيين على أيدي الميليشيات المسلحة. خصوصا أن قياداتها ومرجعياتها صارت معروفة. فلماذا لا تقع تحت طائلة القانون؟. فعراق اليوم يمكن وصفه بحق، وبكل أسف، بأنه دولة الميليشيات. وتقديرات وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" تشير إلى وجود 23 ميليشيا خطيرة في العراق. وحل هذه الميلشيات يحتاج إلى دولة قوية تكون قادرة على فرض سيادتها وهيبتها عبر احتكار حق الاستخدام المشروع للقوة. الأمريكيون بادئ الأمر لم يعترضوا على وجود الميليشيات. فالمليشيات الكردية المعروفة باسم قوات البشمركة التي قد يصل تعدادها إلى سبعين ألف مقاتل، قامت ومنذ اليوم الأول بدعم القوات الأمريكية وسهلت مهمة غزو البلاد واحتلالها. لهذا لم يكن معقولا أن تمنعها القوات الغازية من استعراض عضلاتها، والتي وظفتها في الشروع في عملية التطهير العرقي. وهي لعبة خطرة بدأها الأكراد لتحقيق حلم الوطن القومي لهم وانتهى إليها العراق جميعه. والمعروف أن الميليشيات الكردية التي تقوم بعمليات عنف منظم تتلقى أوامرها من عائلتين كرديتين فقط، هما عائلتا البرزاني والطالباني. وهما القياديان اللذان يحاولان إعطاء صفة القوات المسلحة لهذه الميليشيات. لكن المتتبع يمكنه أن يقول أن ما قامت به هذه الميليشيات يعرض قياداتها لما تعرض له صدام حسين من متابعة. الشيعة الذين يشكلون 60% من المجتمع العراقي قاموا من جهتهم ببعث نشاط الميليشيات الشيعية في إطار مشروع تشييع العراق عن طريق التطهير العرقي. وتوضحت معالم الميليشيات الشيعية التي تمركزت في معظم أرجاء البلاد وأهمها مليشيات فيلق بدر التابعة لعائلة عبد العزيز الحكيم. وهو الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي تشكل نهاية عام 1980. وقيل أن تعداد أفراده بلغ 35000 كانوا موالين للقوات الإيرانية، وبقيادة ضباط من حرس الثورة الإيرانية. وقد دخلت قوات بدر العراق مع الاحتلال الأمريكي. واستطاعت أن تتأقلم مع قرار بول بريمر بحل المليشيات بإعلان فيلق بدر كمنظمة سياسية اتخذت لها مقرا في باب المعظم قرب وزارة الدفاع. لكن من الناحية العملية، فقد حصل فيلق بدر على أسلحة وأقام معسكرات تدريب في إيران. وتعاظم دور عبد العزيز الحكيم بعد توليه زعامة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية إثر مقتل أخيه محمد باقر الحكيم بانفجار في النجف. ويرتبط الحكيم بعلاقات وثيقة مع إيران بعد أن قضى بها سنوات طويلة إثر هروبه من العراق. ومن مواقفه تسميته للمقاومة ضد الاحتلال بالإرهاب. ومطالبته خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة ولقائه الرئيس بوش قوات الاحتلال بعدم مغادرة العراق. لهذا يحظى هذا الزعيم الشيعي، الداعم للنظام الفيدرالي الذي يكرس تقسيم العراق، برضى واشنطن. واستغل ذلك للقيام بالكثير من الأعمال التي طالت عددا كبيرا من أبناء الطائفة السنية من خلال المليشيات التابعة له. وهي المليشيات التي تتوزع أدوارها. فقوة المختار تتولى اغتيال البعثيين والطيارين بغض النظر عن درجاتهم الحزبية أو انتماءاتهم الطائفية أو الدينية. وقوة الثأر والانتقام تقوم باغتيال المسؤولين السابقين في جهاز المخابرات والجيش والأمن بقيادة عمار الحكيم. والمتطوعون في الشرطة من أعضاء فيلق بدر، مهمتهم اغتيال المواطنين من الطوائف الأخرى برئاسة بيان جبر صولاغ وزير الداخلية وحتى بعد أن تسلم وزارة المالية. وهؤلاء تدربوا على يد القوات الأمريكية باعتبارهم عناصر شرطة وزجوا بموجب قرار رئاسي من رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري. وأخيرا المتطوعون في الجيش ومهمتهم مساعدة القوات الأمريكية في عملياتها العسكرية لتنفيذ مآربهم الطائفية، ويتولى هذه القوة هادي العامري نفسه حيث اشتركت في مهمات بالموصل وبعقوبة وتلعفر والفلوجة والرمادي والقائم واللطيفية وديالى وسامراء وبغداد. ويدخل ضمن تعداد ضحايا فيلق بدر اغتيال أكثر من 300 عالم وأستاذ جامعي واغتيال أكثر من 150 طبيبً اختصاصي. ورغم هذا وصف الجعفري، منظمة بدر، بأنها درع واقٍ يدافع عن العراق، بينما ادعى الرئيس جلال الطالباني أن منظمة بدر والبشمركة جماعات وطنية، وأن عناصرها مهتمون بإنجاز مهمتهم المقدسة، المتمثلة في إقامة الديمقراطية وعراق فيدرالي ومستقل. أما الحديث عن جرائم هؤلاء وضرورة تقديمهم للمحاكمة كما تم تقديم صدام حسين فلا أثر لها اليوم. التنظيم الثاني هو مليشيات أو جيش المهدي، وهو تنظيم مسلح، أسسه مقتدى الصدر في أواخر عام 2003. وكان هدفه الظاهري حماية المراجع والمراقد المقدسة. لكن عمليا سعى إلى فرض سيطرة عائلة الصدر على البيت الشيعي العراقي، فاتُهم أولاً بعملية التصفية الجسدية للمنافس المتوقع عبد المجيد الخوئي. ثم حصار مسلح للمرجعيات الشيعية التقليدية، من ضمنها إقامة المرجع الأعلى للطائفة آية الله العظمى علي السيستاني للحد من نفوذ العائلات الدينية الأخرى. وقد تحول جيش المهدي إلى ميليشيا مسلحة تتحرك للقيام بأعمال مسلحة بعد أن تم شراؤه من قبل إيران في صفقه وقعت عند زيارة مقتدى الصدر لطهران بعد تفجير مرقد الإمامين في سامراء. ومن يومها تورط جيش المهدي بمقتل الكثير من العراقيين السنة في جنوب العراق وبغداد من أجل إخلاء الساحة وتركها للوجود الشيعي. ورغم هذا لم يتحدث أحد عن جرائم هذا التنظيم المسلح بالمعنى القانوني للجريمة. وهذا ما يشجع بعض السياسيين الشيعة على رفض تفكيك المليشيات خوفا من فقدان النفوذ داخل الساحة العراقية. العلوج ومن رافقهم إلى العراق، جاؤوا وفي أذهانهم تجارب البوسنة وكوسوفو. لذا رأوا أن الطوائف العراقية مقيدة بالتصادم. لهذا بدا هذا التصادم طبيعيا بالنسبة لوسائل الإعلام الغربية على ضوء تجربة البلقان. وقد زادت وطأة هذه الفكرة عندما شاهد الناس السلوك الطائفي للزعماء الدينيين العراقيين، ولا سيما الشيعة منهم. والذين لا يزالون بعيدين عن كل محاسبة لأنهم أصحاب القرار السياسي في بغداد، ولا زالت أبواب البيت الأبيض مشرعة لهم طالما لا يتعارض نشاطهم والأهداف الأمريكية. لكن إلى متى ستستمر مناعتهم المكتسبة ضد المحاسبة؟. إن أسماء الطالباني والبرزاني وعبد العزيز الحكيم وجبر صولاغ وإبراهيم الجعفري ومقتدى الصدر ونوري المالكي وغيرها لو حوكمت بنفس قوانين المحكمة التي حاكمت صدام حسين لكان الإعدام جزاءها المتواضع.