بقلم: ابن خلدون: IBN-KHALDOUN@MAKTOOB.COM صدام لم يكن يميل للمركوب والمشروب، أي لا يلاحق النساء ولا يشرب، وهو تعبير فقهي. وما قيل عنه في هذا المضمار نوع من التشهير، لأن السلطة أخذت كل عواطفه. وكان يعتقد أن النساء والشرب يضعفانه. لهذا كان حذرا لا يعطي الفرصة لخصومه وللاستخبارات الخارجية اختراقه عبر النساء. على طريقة أن ديناصورات ما قبل التاريخ لا زالت حية، وأن أهل الكهف قاموا من نومهم وشاهدهم البعض يتسوقون خفية في شوارع الكاظمية، قام كاتب مصري اسمه أنيس الدغيدي بتأليف وإصدار كتاب عنوانه: "صدام لم يعدم وعدي وقصي لم يقتلا" زعم فيه أن لديه 147 دليلا بين صورة ووثيقة تؤكد أن صدام حسين لم يقبض عليه ولم يعدم معتمدا في تحليله على فرضية وجود الشبيه لصدام وهو من ألقي عليه القبض وحوكم وأعدم إثر ذلك. مما لا شك فيه أن كتابا من هذا النوع وبهذا العنوان سيلقى الرواج الشديد، وسيحقق مبيعات قياسية، وستصدر طبعات متعددة بالنظر لأجواء التعطش التي تطبع الشارع العربي لمعرفة حيثيات محاكمة وإعدام صدام حسين. ويبدو أن الدغيدي يدرك إنكسارات الشارع العربي وانهزاميته التي تجعله يبحث عن نصر معنوي يبني عليه بعض الثقة في النفس ولو على حساب الحقيقة. لهذا يبدأ الدغيدي كتابه بحديث يصدم به القارىء يقول فيه: "رأيت صدام قبيل سقوط بغداد يظهر على شاشة القناة العراقية وهو مريض جدا جالسا على مقعده في القصر الجمهوري. وبعد ذلك بثلاث دقائق يعرض صدام حسين في حي المنصور وحوله الناس وخلفه عبد الحمود وقد ظهر قويا بصحة جيدة وبشكل مختلف عما قبل ذلك. من تلك اللحظة بدأت أبحث في الاختلاف بين الشخصيتين". وهكذا يهيئ الدغيدي القارىء للقبول بفكرة الشبيه التي بنى عليها كتابه، لكنه لم يقل لنا: هل من المعقول أن يعرض بلد في حالة حرب صورة رئيسه المريض جدا؟. ولم يقل لنا: كيف حسب الوقت الفاصل بين القصر الجمهوري وحي المنصور بثلاث دقائق؟. ولم يقل لنا: كيف عرف أن صور القصر الجمهوري كانت على المباشر ولم تكن مسجلة، وأن الفارق بين الصورتين قد يكون ساعات أو أياما وليس ثلاث دقائق كما ورد في كتابه؟. صحيح أن صدام حسين له شبيه اسمه ميخائيل رمضان. وصحيح أن الشبيه خضع لعمليات جراحية تجميلية قربت شكله من شكل وهيئة الرئيس صدام حسين. وصحيح أن الطبيب الألماني هيلموث ريدل بمساعدة الطبيب العراقي اياد جهاد الأسدي قاما بالعملية. وصحيح أن ميخائيل رمضان تم تدريبه على حركات صدام وأمور برتوكولية أخرى ذات علاقة بوظيفة الرئيس وطريقة تعامله مع الوسط الخارجي. ولكن كل هذا لا يعني أن من ألقي عليه القبض وأعدم هو ميخائيل رمضان. خصوصا أن هذا الأخير هرب عام 2001 الى الولاياتالمتحدة وتزوج هناك. ومهما قيل عن استخدامه من قبل الإدارة الأمريكية، فإن ذلك يعد ممكنا لو قضت المحكمة بسجنه. أما أن تقضي بإعدامه ويشنق أمام الكاميرا، فلا أظن أن ميخائيل رمضان سيقبل بذلك الدور ويظل صامتا طيلة هذه الفترة. ويورد الدغيدي في كتابه تأكيد طبيب شرعي ألماني اسمه ديتر بومان اكتشافه لثلاثة أشباه لصدام حسين من خلال مراجعته لأشرطة الفيديو. وهذا التأكيد حتى وإن كان صحيحا فهذا لا يعني بأن من حوكم هو أحد هؤلاء الأشباه. مطرب الروك أند رول الأمريكي الفيس بريسلي على سبيل المثال ظهر له أشباه عديدون لدرجة أن تجرأ البعض عشرين سنة بعد وفاته على القول بأنه لا يزال حيا. لكنها كانت فرضية قصيرة العمر لم يكتب لها الرواج. ولتدعيم حجج كتابه الذي يقع في 363 صفحة من الحجم المتوسط، استشهد الدغيدي بالطبيب الإيراني محمد أساسيدي الاختصاصي في جراحة الأذن. والذي توصل من خلال دراسته لشكل أذن صدام حسين أن هذا الأخير لديه أكثر من شبيه. وقد استخدم الحاسوب لتدقيق قياساته. وبناء على ذلك يقول إن صدام حسين لم يظهر بعد عام 1999. وأن من كان يظهر هو ميخائيل رمضان. ويشير الكاتب أن نتائج هذا البحث قدمها التلفزيون الهولندي في شريط وثائقي. قد يكون من ظهر في الأماكن العامة منذ عام 1999 هو ميخائيل رمضان. لكن هذا الأخير ظهر بأمريكا عام 2001 كما أسلفنا الإشارة، وبالتالي فمن ظهر بعد فرار ميخائيل هو صدام أو على الأقل شبيه آخر وليس ميخائيل. وهي ملاحظة فاتت الدغيدي أو تجاهلها في ظل سعيه المحموم للتدليل على أن صدام ليس صدام الذي رأيناه. لأن هذا الأخير يختلف عن صدام الحقيقي في ثلاث سمات واضحة هي: أن شبيه صدام لديه شامة صغيرة بالقرب من نهاية حاجبه الأيسر، ولديه شامة أكبر قريبا من أذنه، وله شكل أذن مختلف. وإذا كان ما كتبه الدغيدي لا يخلو من الإثارة، وقد يدعو الكثيرين لتصديق الرواية، فإني أطرح السؤال بكل براءة: لماذا يقدم ميخائيل رمضان أو أي شبيه آخر لصدام على هذه التضيحة الجسيمة لأجل زعيم انقضى زمانه؟. بمعنى آخر إذا كان من أعدم ليس صدام حسين، فماذا سيربح هذا المعدوم من وراء هذه التضحية مكان صدام حسين؟. لو كان السجن المؤبد هو الحكم لسلمنا بهذه الفرضية. فبالإمكان سجن ميخائيل رمضان مثلا مكان صدام حسين، ثم تجرى له عملية تجميلية تغير ملامحه يخرج بعدها إلى إحدى جزر الباهاماس ليقضي بقية أيامه بجيوب منفوخة بالدولار مكافأة له على الدور المتقن الذي لعبه. أما أن يقبل بالإعدام ويصمت فذلك ما لا نستطيع هضمه أو استساغته. أما عن مقتل عدي وقصي فإن تساؤل الدغيدي عن سر عدم ذهاب ساجدة زوجة صدام لاستلام جثتيهما، وهي لم تكن مطلوبة أمنيا في تلك الفترة، للتدليل على أنها لم تفعل ذلك لأن القتيلين ليسا ولديها -أو هكذا أرادنا الكاتب أن نفهم- فيه الكثير من الاستخفاف بعقول القراء. إذ من قال بأن القوات الأمريكية الغازية كانت تلقي القبض على المطلوبين أمنيا فقط؟. أو أنها كانت تبحث فقط عن حوالى 60 شخصا نشرت صورهم على بطاقات اللعب بالأوراق. زوجة صدام لو عادت إلى العراق لألقي عليها القبض لاستغلالها كورقة ضغط على الأقل لتكميم فم صدام الذي أظهر وقتها الكثير من التحدي للمحكمة. ثم من أين لزوجة صدام أن تعرف بأن الجثتين ليستا لولديها إذا لم تعاينهما؟. اللهم إلا إذا كان عدي وقصي قد اتصلا بها أو تلقت منهما إشارة بوجودهما على قيد الحياة بعد إذاعة خبر وصور مقتلهما. وهذه الفرضية لم تتطرق إليها أي جهة سواء كانت أمنية أو سياسية أو إعلامية. والدغيدي لا يستطيع الجزم بهذا الأمر. أما القول بأن ساجدة إلتقت صدام المزعوم بدولة خليجية خرجت من اللقاء بعد عشر دقائق وهي تقول بأنه ليس هو، فهذا الكلام لم تؤكده زوجة الرئيس العراقي الراحل، ولو كان صحيحا، فهذا يعني أن ساجدة نفسها أصبحت جزءا في عملية التزييف والتورية، فهي إذن تعلم أن من حوكم وأعدم ليس صدام حسين، ورغم هذا أقامت له مجلس العزاء على أنه صدام حسين، فهل هذا يخدم صورة صدام حسين أم يسيئ لها؟. من حق الدغيدي أن يكتب في مجال الإثارة السياسية، ويستغل اسم صدام حسين كمادة دسمة يقبل عليها القراء لتحقيق الانتشار ولما لا الثراء كذلك. وقد يتحول الكتاب مستقبلا إلى عمل سينمائي أو تلفزيوني في زمن لا زال العراق ورئيسه يصنعان الحدث السياسي والإعلامي. وأنا واحد من الذين لن يفرحوا مستقبلا لو اكتشفت أن صدام لا يزال حيا وأن رواية الدغيدي صحيحة. بل سأصاب بخيمة أمل كبيرة قد تجعلني أراجع الكثير من المواقف والرؤى. فصدام حسين الذي غدا رمزا للتحدي وللشهادة في زمن العمالة نريده اليوم ميتا. بل شبع موتا حتى الثمالة أكثر مما نريده حيا مختبئا مثل الفأر في جحر، يرضى أن يقوم الومبارس السياسيون بدور البطولة والشهادة بدلا منه. فتلك هي الطعنة للوجدان القومي المعادي لأمريكا وحلفائها. كتاب الدغيدي الذي أرغمني محتواه على هذه الوقفة لتوضيح بعض النقاط، قد يكون من وجهة نظره بارقة أمل لمن يحبون صدام. لكنه في حقيقة أمره خيبة أمل لهم، وانتكاسة للمخيلة الشعبية التي تحتفظ اليوم بصورة الرئيس الثابث على مواقفه في وجه محتل وعملائه حتى آخر لحظة في حياته التي ختمها بالنطق بالشهادتين. وهي صورة إفتقدناها منذ أيام عمر المختار ولا نريد التشويش عليها بما كتبه الدغيدي وغيره. لأن التزييف إن طال الشهادة في هذه الأمة فسوف لن تلوم مستقبلا من ينضم الى صف العمالة. بل قد يصبح من واجبنا نحن الدعوة لتلك العمالة كوسيلة نحو غد عربي مشرق نستنسخ فيه الزعامات والأشباه مثلما استنسخ الغرب النعجة دولي.